هل تذكرون دروس المجتمع والكثير من الكلام عن الأسرة الممتدة، والترابط الأسري؟. الخصوصية والهوية والإرث؟. وعن تميز مجتمعاتنا المحافظة عن الغرب المتفسخ؟.
في صفّ البيوت قبالة البناية التي أسكنها تتراص حيوات عائلات هولندية وتركية ومغربية كأسنان المشط، التعبير الذي قرأناه دائما، دون أن نراه. واجهة البناية عبارة عن ممر طويل تفتح عليه الأبواب الرئيسية للشقق، أكره هذا ولكن هذا حال مباني الجمعيات السكنية، استغلال المساحات الصغيرة لتوفير سكن لائق بأسعار مناسبة، المهم ذاك الممر تفتح فيه أيضا نوافذ المطابخ، وحينما أقف أمام حوض مطبخي، فأنا أقف في مواجهة أسنان المشط تلك، البيوت الثلاثة التي تواجهني بشكل مباشر لهولنديين، اثنان منها لهما علاقة ببعضهما، في البيت الذي على اليسار وأنا أنظر إليه، سيدة في أواخر الستين، على يسارها بيت لزوجين شابين مع ثلاثة أطفال، يسار العائلة الشابة، بيت زوجين أيضا شابين مع صبيين، السيدة في أواخر الستين هي جدة للصبييّن في البيت الثالث، فالبنت وأمها جيران يفصل بينهما بيت واحد.
على ناصية الشارع بيت ابنتها التانية. يقول جاري. كنت مازلت أتلمس معلوماتي القديمة وأتحسسها كأنها مسدس غوبلز، وأنا أواجه الثقافة خارج تلفاز وحكايات الأوهام العربية. حينما لاحظت حميمية الشابة وأولادها مع الجارة الأكبر سنا، اعتقدتهما جارتين صديقتين، كانت مشاهدة تشابه متابعة حدث ما على شاشة ذكية بلغة أخرى غير مترجمة.
في صباح وظهيرة بعض أيام العمل وهي من الاثنين وحتى الجمعة، أصادف أطفالا مع أجدادهم.. وفي السوق أو الحديقة وحتى في الباص، أسمع الأطفال يلفتون نظر الجدة إلى شيء ما.. أوما أوما.. ما أجمل هذا، الجدات في كل العالم يلبسن الجينز وبطلاء أظافر أو يتحزمن الرداء ويصبغن أطراف أصابعهن بالحناء، جميعهن يملكن مفاتيح الحياة الكبيرة التي يأخذن إليها حشود الأحفاد.. أسمعهم أيضا ينادون أوبا أوبا، إنه الجد الذي لم أناده أبدا.
في البلدة التي أتيت منها، وفي الشارع الذي كنت أسكنه بنى الأبناء الخمسة بيوتهم متجاورة، هكذا واصل جاري حينما لمح دهشتي من جيراني على الضفة المقابلة، وواصل: أعرف الكثير من الأقارب يختارون بيوتا متقاربة، أنا أكتفي بشرب القهوة مع ابنتي وزوجها مرة واحدة في الشهر، السبت دائما.
في السوالم كان شراك الجبّار عامرا بعائلات أقارب من الدرجة الأولى وحتى الثالثة أحيانا، وبالتأكيد عامرا بالبيوت المتقاربة، بيت خالي في السوالم أيضا يبعد بضعة أمتار عن بيت جدتي، وصديقتي، ابنة جيراننا التي ندرس معا في الابتدائي في بن عاشور تسكن في فيلا يفتح مطبخها على شرفة كبيرة جدا، نصف دائرة، تفتح فيها بدورها أربعة مطابخ أخرى، لأعمامها.. أخذتني إلى تلك الشرفة وتسربنا إلى واحد من تلك الأبواب الجميلة وراء رائحة الكعك.
في الأعياد الكثيرة هنا، أستعيد ذكرياتي مع الشوارع الفارغة بطرابلس، إذ ينخفض عدد رحلات القطار، بعض الخطوط تُلغى وتسيّر باصات مجانية لتنقل الناس إلى محطات أخرى، ركضت كثيرا حين علقت في الخارج في أحد تلك الأعياد، العطل هنا عائلية فعلا، ولشخص وحيد مثلي، يكون العيد الهولندي يشابه العيد الليبي لعائلة “عزة” البنت الفلسطينية التي لم يسبق أن انتبه لوجودها أحد بطبق (حلاوات العيد)، كما قالت لي مرة، أعتقد أنها تبالغ ولكن أفهم قصدها الآن.
أحب الدعاية التي تظهر بين حين وآخر، شركة تبيع خدمات الانترنت والهواتف وتعلن عن سهولة استخدام تقنياتها، تؤمان في عامهما الثاني بينهما موبايل، يضغط أحدهما على زر، ويجاوبهما على الفور، أوبا، أوبا يصرخ الصغيران وتظهر أمامهما صورته.. ويواصل الجد التحدث إليهما فيما يلعبان.
في مدينة كامبن، بيت عائلة ميريم وأليكسيا، كبير وجميل، في الصالة بالدور الأرضي يوجد المطبخ المفتوح على غرفة المعيشة المقسمة إلى ثلاث مناطق، كراسي صالون وتلفاز، وفي المنتصف طاولة أكل كبيرة، ثم جلسة صالون آخر حيث البيانو، قبل العشاء في الكريسماس 2014 عرضت عليَّ ميريام أن أرتاح فوق، غرفنا على حالها، اختاري ماشئتِ، قالت، لكني فضلت الاستماع إلى الموسيقى التي تعزفها مينا والتدرب معهم على بعض الأغنيات، بينما يطالع والدها الجريدة ووالدتها تقدم لنا المشروبات وتطبخ عشاء عيد الشكر، ميريم وأليكسيا لديهما شقة جميلة قرب مركز المدينة الساحرة كامبن، لطالما جلسنا فيها وطبخنا واحتسينا عشرات الفناجين من القهوة، الجميلتان من عائلة كاثولوكية متدينة ومترابطة وسخية المشاعر.. في شقتهما تعرفنا على ابنة خالها وبعض الأقارب، في بيت والدهما صورة عائلية كبيرة، مليئة بالأحفاد والأصهار و(الكناين).
__________________
نشر بموقع بوابة الوسط