“جمال دعوب” فنان تشكيلي ليبي رسم إلى جانب الخيول، الأزقة العتيقة ومعمار المدن القديمة والوجوه وبعض المفردات التاريخية التي اشتهرت بها ليبيا، لا سيما سكان الصحراء من الطوارق بأزيائهم المميزة والأبل المعروفة بالمهاري في ليبيا، وقدَّمَ الفنان الذي التزم بالخط الواقعي مع بعض الانزياحات الخجولة أعمالا كثيرة حاول في بعضها الخروج من نمطية الواقعي بخطوات تجريبية محدودة تنحى نحو التجريد ووضع أعمالا غير واقعية تماما تمتزج فيها الواقعية بالتعبيرية بالانطباعية.
واجتهد الفنان أغلب الأوقات بمضاهاة الصورة الفوتوغرافية ونقل الواقع كما هو وكما تراه العين، مع تعمد إضفاء بعض الحيوية على المُنجز البصري باستعمال الألوان قوية التأُثير وراسخة الحضور، وقدم في كل هذه الجوانب لوحة مقنعة تستجيب لمتطلبات الفرجة والتذوق الفني وأظهرت إلى حد بعيد مهارة الفنان في تصوير الواقع وتمثله للأساسيات الأكاديمية لفن الرسم الذي درسه بحسب اعتقادي بكلية الفنون الجميلة على يد نخبة من الفنانين المحليين والعرب تسعينيات القرن المنصرم وسيطرته التامة على مساحاته.
وكما لو أنه وجد في عالم الخيول ما يشبع شغفه ويلبي رغبته للإبداع، أنجز الفنان “جمال دعوب” صاحب الإنتاج الغزير لوحات كثيرة صوّر فيها الخيول البرية التي يبدو أن تناسق أجسادها ورشاقتها وقوتها وانسيابية حركتها وجمالها الطاغي ومتعة تشريحها تشكيليا ودراستها قد اجتذبه لا سيما بعد سقوط الضوء علي أجسادها بألوانها المتباينة فجعلته يشحذ ريشته ويستنفر خياله وألوانه وخبرته ليحاكي هذا الجمال الفتان الماثل أمامه والذي تأمل فيه كثيرا وتذوقه كثيرا قبل أن يقرر تخليده في لوحاته ومحاكاة تفاصيله بحرفية عالية ومهارة فائقة كما أتصور.
ومن خلال هذه التيمة التي اختارها أستطاع النفاذ إلى الجوهري والعميق في المنظومة الجمالية الطبيعية التي هي من التنوع والتجدد ما لا يستطيع أي فنان الإحاطة بكل تفاصيلها، ويبدو أن الفنان هنا كما لو أنه مختص في هذا النوع من الرسم، لتقديمه الكثير من اللوحات فيه ولبراعته وتميزه في النقل الأمين للواقع ومحاولة التقاط الجميل والاستثنائي فيه والذي لم ينتبه له المتلقي ما لم يتم تجميده في صور ولوحات فنية، يبدو أن عالم الخيول قد شغفه حبا فطفق يرسم ويوثق مفرداته بلا هوادة، وإذ يرسم الفنان خيوله متباينة الألوان وهي تركض ولا تفكر بشيء غير الركض أو تخب رويدا رويدا استعدادا للانطلاق نحو الحرية بألوان الباستيل الطباشيرية أو بالزيتي، يرسم سيرة الحرية ويدشن ملحمة الانطلاق الأبدية وكأنه يقول إذ يرسم، هكذا خُلقت الجياد حرة ولا ينبغي أن تكون إلا هكذا، موطنها البراري ووجهتها اللا أين كالريح تماما لا تهدأ ولا تستكين، وإذ يرسم فإنه يرسم الظلال المنطبعة عليها وبُقع الضوء المرتسمة على انسيابيتها ويرسم استجابة نواصيها وشعرها لمشيئة الريح ويرسم بروز عضلاتها من وراء الجلد والشعر الناعم والقصير اللماع، عضلاتها التي صقلتها الطبيعة ونحتها الركض المتواصل والحيوية الذائبة والتوق للمروق نحو الأبدية والانفلات من ربقة المادة، يرسم الفنان ويستل ريشته إذ يرسم، حركة الذيل وتطاير الشعر في تشكيلات عشوائية باعثة على التأويل والجمال.
وكثيرا ما رسم الفنان خيوله في حالة حركة وجموح وانعتاق حتى أننا كمتلقين ومتفاعلين مع اللوحة نستطيع أغلب الأوقات أن نستبق اللوحة بالاستناد إلى اللوحة نفسها ونتوقع الحركة أو الحركات اللاحقة للحركة التي توقفت عندها الصورة على اللوحة، وغالبا ما تشدنا اللوحة بألوانها القوية والممتزجة جيدا حتى تعطي الانطباع والتأثير المطلوبين، وفي حال لم نجد الخيول في حالة حركة، اللوحة بما تمتلك من تأثير وتقنيات فنية تستطيع أن توهمنا بالحركة التي هي قوام اللوحة عند الفنان “جمال دعوب” صاحب الإحساس العالي باللون.
ومع كل هذا الزخم والثراء الذي تحتويه لوحة الخيول عند الفنان لا نحس بأن ثمة ما ينقصها، فالمتأمل فيها وبشيء من التركيز سيفاجئه الصهيل من داخلها لو أرهف السمع وأنصت جيدا إلى إيحاءاتها وتحسس إيقاعها، وكون الصوت لا يُرسم إلا أن مع هكذا ألوان قوية وحضور طاغي لموضوع اللوحة بالإمكان تحسسه وتوهمه كما لو انه موجود حقاً، وقليلا ما رسم الفنان خيوله في حالة هدوء وسكون ودعة، وإن فعل ذلك فإنها استراحة المحارب الذي لن يلبث أن يعود للحركة منتعلا جموحه وانطلاقته نحو الحرية، ويدل على ذلك أحيانا الغبار المتطاير حولها والذي تثيره حوافرها إذ لا تكاد تلامس الأرض حتى تنفصل عنها كما لو أنها تطير وتسبح في الفضاء وليس فقط تعدو فوق الأرض وإذ تركض تسحب خلفها المسافات تسحب خلفها الأرض، وفي عدوها نكاد نلمح لهاثها وتسارع دورة زفيرها وشهيقها وحمحماتها والعرق الذي ينز بغزارة ويغطي أجسادها فيزيدها ألقاً إلى ألقها كما لو أنها ما خُلِقت إلا لتعدو إلا لتركض كما لو انها لا تكتمل إلا بالركض أو أن الركض لغتها الوحيدة التي تجيدها.
وكما أهتم الفنان بمقدمة اللوحة أو الخيول أهتم بخلفيتها التي تتموضع فيها بحيث لم يضع خلفيات تتنافر مع مقدمتها أو تقلل من جمالياتها وبدت المقدمات والخلفيات متناغمة مع بعضها البعض لتشكل في نهاية الأمر بألوانها ولمسات الريشة المتناغمة كلٌ لا ينفصل ولا يكتمل العمل الإبداعي إلا بوجوده معاً، ولا بد أن ينقص اللوحة تفصيل مهم لو أن الفنان تخلى عن تأثيث الخلفيات بهذا الشكل الجميل المضيء والمتمثل في مزج عدة ألوان وتغطية الخلفية بها وفي هذه الألوان يلعب التجريب والاعتماد على الخبرة الدور الكبير، ولم يحدث أن رسم الفنان خلفية متعينة أو واضحة بتفاصيل معروفة لخيوله أو أعتمد على لون أُحادي وإنما هي ذات الخلفية الغير متعينة بألوانها الممتزجة والمشرقة.
وتظل كما أسلفنا محاولات الفنان للتجديد والتجريب من داخل هذه التيمة محدودة ومترددة وهذا ما اكدته بعض الاعمال التي وضعها ومنها تلك التي عُرِضت مؤخرا في المعرض الخيري بدار نويجي بالمدينة القديمة بطرابلس.
ولأن الفنان غزير الإنتاج وتأخذ تجربته مسارات عدة ابتغينا فقط من خلال هذه المداخلة القصيرة إضاءة جانب من جوانب التجربة التي تستحق التناول لغزارتها بخلاف بعض التجارب المجايلة والمماثلة ولتنوع تفاصيلها التي سيجد الدارس لها والباحث فيها الكثير ليقوله والكثير ليفصح عنه والكثير ليكتشفه.