الشاعر: محمد الفقيه صالح
قراءات

“طرابلس أم المدائن”… قراءة في قصيدة الشاعر الراحل محمد الفقيه صالح

الشاعر: محمد الفقيه صالح
أرشيفية عن الشبكة

ها هو الشاعر محمد الفقيه صالح يسلخ قصيدة كاملة في حب مدينة طرابلس كونه أحد أبنائها المخلصين، يقول في أكثر مواضعها عشقا وهياما ، عشق متكامل و حب حقيقي يرتقي بها من كونها مجرد مدينة كسائر المدن إلى أيقونة ومعشوقة، حتي انه ليختلط علينا الأمر، حينما نعتقد أن الشاعر يتغزل بمحبوبته أو امرأة غير مسماة، لا بمدينته في قصيدته التي هيمن ومنذ بداياتها على مقاطعها الإيقاع والموسيقى، على الرغم من ميلها الواضح إلى النثر، فمفردات توّجت الجُمل الشعرية مثل، مفتون والعيون والسكون، والصخر والفقر، غيوب هبوب وغيرها، خلقت حالة من الانسجام السمعي ونوعا من الوقع الصوتي الذي هيأ القارئ للولوج إلى القصيدة الطويلة التي استنفدت طاقة الشاعر أو أستنفد من خلالها دفقة حبه لطرابلس وقال عبرها ما أراد قوله في معشوقته، المدينة المرأة، المدينة الحلم، كون الشاعر أيضا يتحدث عن مدينته بلسان الماضي بلسان الحنين متجاوزا حاضرها المتأزم لائذا ببهائها الناجز في ذاكرته واكتمالها في الماضي، المدينة التي يصطفي الشاعر…

من بين المرايا
وجهها ويسيل درب من رُبى قلبي إلى ميعادها
في ساحة للحلم أبّان الهطول.
إلى أن يقول، بنبرة واثقة.
هاهنا أنشقت غيوب عن هبوب
فانجلى عن كل عين حاجب
وعن كل قلب ليله
هنا أزدهى في نبضك الدافئ
أريج من صهيل الحلم
وانداحت سهول خصيبة
فهفت إلى النبع الطفولي الرهيف، رصانة الأحجار
سبحان من خلق النساء وأضرم الإيقاع في أجسادهن.

هكذا في شعرية خالصة لا يخالطها كدر ولا يشوبها حشو ولا لغو زائد، عامرة بالإيقاع والرقص فوق حبل الكلمات المموسقة. وكان لابد أن تطغى النبرة الذاتية ويتسلل الشخصي وينعكس سواء أختار الشاعر ذلك أو لم يختر وعى أو لم يعي، وها هي محنة الشاعر ترتسم وتنعكس حين يستحضر تجربة الأعتقال المريرة في قوله…

وسبحان الذي لا يكتئب
قال السجين
وقد تلفع بالحنين والسحب
وتهاطلت من القلب جدران الأزقة والحواري والقباب
وتقاطر الصُناع
أينعت المطارق في الأكف
فأزهر الإيقاع.

في إشارة جلية إلى أزقة وحواري وقباب مدينة طرابلس القديمة وهو لا يذهب بعيدا حين يستخلص الشعر من تصويره لإيقاع الحياة اليومي، من تقاطر للصناع أو العمال المهرة عليها وعلى دروبها ومحلاتها الحرفية والصناعية، فهنا تورق المطارق في الأكف في إيماء تحديدا إلى عمال سوق القزدارة أو سوق النحاس والقصدير وصناعة الأواني والتحف من هاتين المادتين، والجملة التي تحيل إلى هذا المعنى وهي أينعت المطارق في الأكف، صورة شعرية غير مسبوقة وقد أكتمل فيها المعنى واستوت قيمتها الفنية، هنا يدخل الفقيه طرابلس من باب محنته الشخصية ويبعثها حية في أشعاره الندية حد أن المدينة تستحيل إلى أُنثى والأُنثى إلى مدينة ويضيع الموصوف في زحمة العشق ولا يبقى إلا الوصف شاهدا على عمق الوله واحتدام المشاعر واضطرامها في قلب الشاعر…. ويمضي الشاعر قائلا:

لمدينتي يتهدج الحرف العنيد
وبطيبة الفقراء والصُناع يختلج النشيد.

وفقط من لمسة حانية من مدينته الأثيرة، تنفتح سماوات وتنداح أطياف وتتقاطر إلى القلب مسراته حين يهتف الشاعر….

مست يدي في الصبح خاصرة المدينة
فاستفاقت فيّ المواعيد الندية (كوشة الصفار)
وارتحلت بيّ الصبوات
حين تفتقت في (زنقة العربي) شمس طفلة
وأنشق باب عن قوام عامر بالخوخ والنوار.

كما لو أنه عابر للتاريخ وشاهد على أحداثه التي ارتسمت في الأمكنة، حيث يقف الشاعر ويغيب في انعطافاته وتأخذه تعرجاته إلى حد القول….

أزمنة تطل وتختفي في كل منعطف ودار
حد أن
فتحت صدري – عبر باب البحر – للريح التي تنحلّ
فوق الشاطئ الصخري
تذوب في الزبد الكثيف
البحر حين تخضه الأشواق
والصياد حين يؤوب
محتدمان إلى حد النزيف
أمضي..
تسير بجانبي الطرقات والأقواس والدور العتيقة
يحتويني المساء بقامة المشموم والأطفال
إذ آوي إلى باب البحر.

ومثلما أن كل شيء يحتفي بالشاعر، الشاعر يحتفي بكل تفصيل من تفاصيل مدينته حتى وإن كان دقيقا ومهملا، وما لا يلفت أنتباه أحد يلفت أنتباه الشاعر بل يشده إلى جماله المخبوء ويأسر ذائقته المرهفة فيصوغهُ شعرا ويُجيره لقصيدته بلا تردد. طويلة هي القصيدة ونتردد في ان نغادرها قبل أن نفيها حقها ن العرض ولو تٌرك لي الأمر لأوردتها كاملة غير أنه لا مناص من انتقاء بعض مقاطعها وجملها المعبرة وصورها الشفيفة لضيق الوقت والمساحة، حتى نلم بجمالياتها ونقف على تجربة الشاعر الذي أراد لقصيدته أن تحلق في منطقة وسط ما بين الغموض والوضوح وتجنب الرمز والإيحاء المُغرق في تخفيه، فالموضوع لا يحتمل المراوغة والسياق غير موات للجوء إلى الإبهام، فالأمر حين يتعلق بالمحبوبة والمعشوقة لا يحتمل الكلام أن يكون مُغلقا ومبهما، وهذا ما تعبر عنه القصيدة حين تقول: ويعصمني – وهي الكلمة التي تحيل مباشرة إلى المتن القرآني -.. ويعصمني من الإغراق في الرمز اشتعال علاقة ما بين قهوتها وضفيرتها. وتجعلنا هذه الجملة المقتضبة نتساءل هل هي امرأة أم مدينة التي يتحدث عنها الفقيه أم أنها كليهما؟. أما قول الشاعر، فيما يشبه الأبيات الشعرية المُقفاة:

أن البيوت كثيرة والسقف واحد
والأمنيات جريحة والقلب صامد.

فهي إشارة إلى تراصّ بيوت المدينة العتيقة وتلاصقها وبالتالي تلاحم سكانها وتعاضدهم ووقوفهم مع بعضهم البعض في السراء والضراء، ورغم وقع الحياة القاسي، فالأمنيات تظل مجرد أمنيات غير متحققة لقلة ذات اليد وانعدام الحيلة، ولكن القلب يظل صامدا مؤمنا بقدره متعلقا بالأمل حتى آخر نبضة.

ثم يتطرق إلى هجرة سكان المدينة القديمة لمدينتهم تلبية لنداء الإسمنت وغول الإستهلاك الهائل الذي جاء مع بزوغ النفط في أرض ليبيا فيقول فيما يحاكي التحسر على زمنا جميلا آخذا في الاضمحلال والأُفول، ليحل محله زمن المصالح وتقلص الحميمية إلى مساحات مقلقة يقول:

والكادحون تناهبتهم غابة الإسمنت
غول هائل
والنفط لو أدركت شاهد
فأرقص ما شئت أن يبقى الهوى حيا
على إيقاعه الصاعد
إن المدى واعد
إن المدى واعد.

وجميل أن تنغلق القصيدة على هذا الأمل الذي يراود النفوس ويدغدغ القلوب حقا إن المستقبل مع كل التحديات يعد بالخير ويبشر بالأفضل، وما إعادة السطر الأخير في القصيدة إلا تأكيداً لهذا الأمل، هذا وأعتبر العديد من النقاد والقراء قصيدة (طرابلس الغرب) للشاعر محمد الفقيه صالح من عيون الشعر الليبي الحديث والمعاصر إلى جانب روائع كل من العمّاري (رجلٌ بأسره يمشي وحيداً) (وبلد الطيوب) لعلي صدقي عبد القادر (ووقفٌ عليها الحب) لخليفة التليسي.

رحم الله الشاعر والمبدع الكبير محمد الفقيه صالح وأسكنه فسيح جناته.

ناصر سالم المقرحي

* كتبت هذه المقاربة عام 2013م.

مقالات ذات علاقة

عزة المقهور وثلاثون قصة طرابلسية (1)

المشرف العام

قصائد مُهربة

ناصر سالم المقرحي

ثنائية الإنسان والمكان في (أفيكو) الزائدي

المشرف العام

اترك تعليق