المقالة

تخاريف العلم

فى القاعة الضاجة بالطلاب والأساتذة صاح فينا: توقفوا عن شرب الحليب كبرتم كثيرا عليه!، فطامهُ فى عامين!، ما أرضعتكم به أمهاتكم وكفى، ما تشربونه بعد ذلك، صحيا هو ضار، كانت جُمل الدكتور المُحاضر العائد بعد اغتراب من بلد أوروبى مُحملا بما اعتبره نظريته الجديدة فى علم التغذية، تتعاقب فى تأكيد وجزم فى هدوء تلك القاعة بكليتنا المختصة بالفنون والإعلام، وبين انتباه، واندهاش، واستغراب، وضحك مكتوم، رفع فى وجوهنا كرات ملونة حمراء، وصفراء، وخضراء، وقال: لا نخلط فى وجباتنا الخضار والفواكه، واللحوم، والخبز! ليست ذات تركيب أو لون واحد، لا ترموها فى بطونكم دفعة واحدة، كلوا كل منها على حدة وبفارق ساعات بينها لتهضمها معدتكم، أما البقوليات وخاصة الفول فلا حاجة لجسمكم به سيملؤها بالغازات وعندها ستُخرجون ما ينبذكم منه جيرانكم وقبلها أسرتكم!.

ساعة أكمل محاضرته التم حوله جمع غفير من الطلاب والطالبات للسؤال والاستشارة، سمعتُ أحدهم يقول له يا دكتور لدى نقص شديد فى الكالسيوم نصحنى الطبيب بأن أعوض ذلك بالحليب ومشتقاته ماذا أفعل هل أتوقف عنها؟ قاطعت إجابة خبير التغذية طالبة، بصوتها رجاء أعانى نقصا فى الحديد ولا أحب اللحم، جدول طبيبى المتابع هو غذاء يومي، شُربة أحد البقوليات رفقة الخضار، وأشعر بتحسن، هل ذلك خطأ يا دكتور؟ وصاح آخر كيف يا دكتور أحدد ساعات لأكل وجبة وبينها ساعات لأكل أخرى، وأنا لا أغادر الكلية فى أيام الحصص العملية منشغلا إلى الخامسة مساء، من سيفعل لى ذلك؟ صعب صعب، أم أحضر وجبتى كما أطفال الروضة.. وتلاحقت الأسئلة، وتفرغ الدكتور لهم معيدا جازما مؤكدا أن لا جسم ولا عقل سليم عدا الانضباط بنصائحه المثبتة كما ردد.

وفى استمرار لتلك الظاهرة الناشرة للتعاليم الغذائية الملزمة، جاس ذلك الدكتور بمحاضرته فى قاعات أخرى وبمؤسسات متعددة بالمدينة العاصمة يستقبله التائهون المنشغلون بجسدهم صحة ومرضا، ولاحقا أيضا ظهر فى برنامج تليفزيونى خاص بالمحطة الحكومية الوحيدة رفقة والده الذى أعلن أنه طبق تعاليمه بحذافيرها عليه مُحددا له ما يأكل وما يشرب وبتوقيت لا يخطئه وبقائمة الممنوعات (لم يذكر أنه فعل ذلك قبل اغترابه أم بعد رجوعه) قال دكتور التغذية: انظروا ها هو والدى شحم ولحم وبزيه الشعبي، وعمره التسعينى يضرب الحائط ويفلق الصخر صحة وعافية هجت عنه كل العلل فلا سبيل لها فى جسده انظروا واعوا.

نظرية التغذية المُفصلة والقاطعة تلك تماهت فى نشرها حكومة النظام عبر مؤسساتها ووسائل إعلامها إلى درجة منح الإذن بتخصيص عيادة (رغم قرار يمنع القطاع الخاص) يسرب فيها ذلك الخبير شفويا طابور وقائمة ما يؤكل وما لا يؤكل، لا سؤال علميا لا مختبر أقام فيه تجاربه وعلى ضوئها يجيب ذلك الخبير الغذائي، لا فريق شاركه بحوثه،وتأكد وصادق على نظريته تلك..كيف؟ ولماذا ؟ وما الذى يجعل من الجميع منضبطين بتلك اللوازم الإرشادية التى تلاحق سمعهم وبصرهم أينما ولوا وجوههم؟

تلك الظاهرة تتكرر فى واقعنا نشر تخاريف من يدعون العلم عبر أحاديث وملصقات وجلوس باستديوهات الإعلام، يظهرون علينا ولا يملكون دلائل علمية ولا مرجعية باحثة ومشخصة لكل حالة على حدة، شطارتهم رغى شفوى يضربون به على وتر حاجة الآخرين المنتظرين لأى منقذ من أمراضهم وعللهم، وكلما كان الحل سهلا ناعما غير مكلف يتوافق ذلك مع ظروفهم الحرجة وأوضاعهم البائسة، وإن لم يخل الأمر أيضا من مترفين ينساقون أيضا إلى بذل أموالهم فى تلك التخاريف، ويصبح مشتركهما فقيرا ومترفا: الاحتياج كما الوعى الغائب ليكسب – وإلى حين – ذلك المروج المُخترف بعلمه.

 

مقالات ذات علاقة

زغرودة درنة

فاطمة غندور

الأطفال يتساءلون: أينك يا جابر عثمان؟

زياد العيساوي

محطات

عطية الأوجلي

اترك تعليق