• بنغازي المحاطة بمياه البحر من جهات ثلاث شرقا وشمالا وغربا.. وتطوق ببحيرات الملح الضحلة (السبخ).. على شواطئها تدور أحداث القصص وتروى الحكايات.. حكايات بنغازية يقدمها صالح بن دردف.. يتداخل الواقع في بعضها مع جموح الخيال… ويتمثل الواقع في الأخرى منها أحداثا وأماكن ويقدم مشاهدا تنبض بحركة الحياة.
• وها نحن نلتقي (بالمواطن أحمد)…”الذي قرر أن يهرب من نفسه وذاته ومن الناس ومن واقعه الذي يلف حياته التعيسة “.. وعلى صخور شاطئ توريللي يجلس وحيدا (كبوم ذكر ينتظر أنثاه) مخلفا وراءه على الجانب الآخر من الشاطئ بئر (الكلبة).. وبئر (الجمل).. وبئر(النملة).. وكل الآبار الأخرى.. ويطلق لخياله العنان بعد أن تعاطى ما يعينه على السفر بعيدا سارحا في بلاد الله..” وفي قمة الإحساس بالوحدة والتفرد والشعور بالنشوة.. حط به خياله الرحال هناك.. على الربوة العالية من جبل طارق مع أفواج من البشر جاءوا من كل أصقاع الدنيا…).. ومع ذلك الفوج من (السواح) كان لقاءه مع (عهد).. وعلاقة عاطفية.. وللقصة بقية.
• وتهيؤات.. وذلك كان إسم القصة.. وأخيرا شاءت الأقدار.. أن يلتقي بها لقاء جاء بدون ميعاد.. في المقعد المجاور لمقعده في الطائرة المغادرة لمطار بانكوك، بعد عشر سنوات من تخرجهما من الجامعة.. وينطلق الخيال – كما يقال – ليقرب ترابطهما تكاملا.. ويبدأ مشوار لهما سويا، ثم.. (وفي لحظة دراماتيكية مذهلة إنحنت إلى جهة اليمين من مكان جلوسها، وشرعت تفتح باب الطوارئ وفي غمضة عين ألقت بنفسها خارج الطائرة).
• وهذا العم حامد الذي اختلى بنفسه ليلا على شاطئ اللثامة يعاني التوتر ويشتد به الضيق والقلق مفتقدا حصوله على عبار لاقبي يطفئ به ضماه… وفجأة تقول الحكاية “حدث ما لم يكن في حسبانه أو توقعه.. حيث انحبست أنفاسه.. وازدادت ضربات قلبه.. وتضاعف نبضه.. وتصلبت أطرافه.. وأحس بانتصاب شعر رأسه.. وتلبسه الذهول.. وتملكه الرعب وصاح وحده ولا من مجيب.. وبدت أمامه منتصبة القامة هيفاء ممشوقة القوام.. وانحنت برأسها أمامه وهي تقول.. أسعدت مساء سيدي حامد.. لقد أضناني التعب حنى وصلت إليك هنا.. لقد هربت من كل مطاردي من حراس عالم الجن.. ولكن ها أنا أخيرا وصلت إليك).
• وبعيدا عن الخيال وتصويرا لواقع يموج بالحركة.. وملتقى يتدافع فيه أصناف من الناس ممن أنتجت وجودهم سنوات الحرب التي دارت بين قوات الحلفاء والمحور إبان الحرب العالمية الثانية واتخذت من البلاد مسرحا لعملياتها الحربية وكانت أضرارها قد لحقت ببنغازي خاصة التي كان يتبادل على إحتلالها الطرفان المتحاربان لتتوقف بهزيمة قوات المحور وقيام الإدارة البريطانية في البلاد (أكتوبر 1942).
• ويخبرنا (بوستين.. كما تقول الحكاية) عن ذكرياته عن المكان الذي شهد ميلاده وبدأ مشواره مع الحياة.. سوق التركة.. ومصنع شفيق للأردية.. والملعب البلدي ويقول: “كان سوق التركة مأواي ليلا.. وساحات الفندق مسرحا أسرح فيه بقفة البيض جامعا ما أجده عند الأخرين.. عبر هذا المكان وعبر الساحات والأقواس عشت وعايشت بائع السلع المهربة (الكونترا باندو).. كما عايشت منادي السيارات والسماسرة.. واختلطت بلاعبي الثلاث ورقات (الحمرا تربح).. وتعرفت إلى بائعي الوهم للناس من طوابير الدجالين والمشعوذين … نماذح غريبة شاذة كان يموج بها المكان هائمة بلا مستقبل أو هدف.. تطارد الرزق بأية وسيلة.. كانت تلك الجموع لا تختفي عن الأنظار ولا تترك ساحات الفندق إلا حين ظهور أصحاب القبعات الحمر من (البكت الحربي الإنجليزي).
• المدينة المطوقة بمياه البحر.. والبحيرات الضحلة. كان للبحر الشأن الكبير في حياة سكانها.. وكان لسكان الجزر على الجانب المقابل حضور تاريخي فاعل استغرق زمنا طويلا من وجودها.. وهو أ إنه – أي البحر – أحد مصادر العيش للعديد من سكانها.. الذين اتخذوا من صيد الأسماك مهنة وعرفوا محليا (بالحواتة).. يتشكل لهم مجتمعهم الخاص بمعالم وتقاليد متأثرة بحرفة الصيد وما يتعرض له هؤلاء الصيادون من المخاطر من جراء استعمالهم لمتفجرات TNT الجولاطين في صيدهم وما ينتج عنه من الأضرار التي قد تفقدهم حياتهم أو بعض أعضائهم.. وينقلنا الكاتب معه لنعيش وسط هذا المجتمع ولنتعرف على البعض الفاعلين من أفراده… ويقدم صورا متلاحقة تنبض بالحركة والإثارة والواقعية ممثلة لسلوك أشخاصه.. في هذه القصة التي جاءت تحت عنوان جنازة بالعروسية.
• “إن طارئا ما قد حدث لبريك” ذلك ما تؤكده الدماء التي طفت على مياه بحر الشابي… وكذلك صوت (فرقعة) الجولاطينة التي أدرك جميع من كان يفترش رمال الشاطيء أنه حدث خارج البحر.. وتلك كانت البداية.. و(أبريك) هو التصغير للأسم المبروك… ونلتقي بالحاج خالد ذلك البحار العجوز – أحد مريدي زاوية بن عيسى – الذي يصف ما سمعه من دوي الإنفجار بأنه يشكل خطرا كبيرا على حياة من قام به.. ويتدافع الجميع صوب جهة ومكان ذلك الإنفجار.. والبعض الآخر جاء من فوق رمال الشاطئ البعيدة.. منهم من كان بملابس البحر.. ومنهم من لا يزال محتفظا بقميصه فوق كتفيه.. وآخرون رموا بجلابيبهم وستراتهم واندفعوا جميعهم تحركوا لنجدة أبريك.
• وهذا… العجوز سليمان – أحد أتباع ومريدي الطريقة الرفاعية وشيخ البحارين في زمانه..(ذلك العجوز المشاغب المتهالك).. تحركت فيه روح المبادرة والشهامة ونخوة أبناء الحرفة الواحدة فينهض صائحا محرضا من حوله من الشباب حاثهم على نجدة أبريك… ونراه يلتفت إلى رفيقه الحاج مسعود مخاطبا (أعتقد أن ما حدث الآن.. شبيه بما حدث لك يا حاج مسعود يوم تلك النوة البحرية برأس المنقار الشرقي باللثامة ذلك النهار الذي فقدت فيه عينك اليسرى)… ويضيف صاحب الرواية.. ويوجه الحديث إلى رفيقهم الحاج خالد قائلا (وكذلك أنت يا حاج خالد فقدت رجلك اليمنى في مياه (كزيرمى توريللي). ولم ينقذ حياتك إلا المالطي (زيزو) صاحب المركب الذي جاء بك إلى الشاطئ لنأخذك إلى المستشفى).
• ويواصل العجوز سليمان حديثه وعيناه مشدودتان إلى البحر غير عابئ بما يستثيره حديثه من الإستياء (هكذا نحن عيال البحر. قدرنا أن نخسر حياتنا أو أطرافا من أجسادنا من أجل لقمة العيش.. ومن أجل أطفالنا وأسرنا.. تطاردنا لعنة البحر أو قل عشم البحر.. فالحوات منا يعيش فقيرا ويموت فقيرا.. ويبعث في الآخرة فقيرا.. وربما يبعث برجل واحدة كالشيطان).
• وللقصة مشاهد كثيرة متبقية يتواصل ذكرها تتابعا عن أبريك الذي أتى به شباب البحر مضرجا بدمائه محمولا على أكتافهم و(سي عمران) الذي يسرع بحصانه الذي كان يغسله في (بحر الجمل).. لنقل أبريك.. وفي المستشفى المدني حيث يتوافد أبناء حي الشابي البحري للإطمئنان على أبريك الذي انتشر بينهم خبر إصابته… ولا تزال لهذه الحكاية أحداث تستمد مكوناتها من واقع ما كان يتحكم في علاقة أفراده وسلوكهم من قيم ومعتقدات.
بنغازي، الخميس 30 مارس 2017
________________
نشر بموقع ليبيا المستقبل