نحن أمَّة لا تهتم بالتشكيل، أكثر مما تهتم بالتشكيك، و(التشليل) و(الشللية) وكُلُّ ما يمت ُّإلى التَّاء والشين بصلة، ولا يتبادر إلى أذهانكم ( شِلْ) فقد تعتقدون حينها أنَّ الذهب الأسود (اللي عينك أتحق وإيدك ما أطّق في بلادنا) سينتهي إلى الأبد إلى جهة نعرفها ولا نعرفها.
كما لا تذهبوا بحسكم المرهف بعيداً وتنقلوني معكم إلى الرسم والنحت وكُلُّ فروع الفنون التشكيلية، ذاك تشكيلٌ لَمْ يحسم سيادة المفتي رأيه الأخير فيه بعد، فتارةً يُحلِّله وتارة يُحرِّمه، مما جعل الكثيرين يهربون مِنْ هذه المعضلة إلى وصفِ هذا المجال الراقي بـ (الكلام الفارغ) وهذا اعتراف ضمني منهم بأثر هذا الفرع، فهو كلام، الرسم والنحت كلام له معنى وله أثر، حتَّى وإن كابر البعض ووصفه بـ (الفارغ). ما أقصده هُنَا هو تشكيل الكلمات لا تشكيل المليشيات، والحركات السياسية المتدثرة باسم الدِّين، والأحزاب الجوفاء.
صديقتي تهزأ مني وتردد دائماً على مسامعي: “لنعرف العربية أولا (وهي هُنَا تقصد الحروف والكلمات المكتوبة بطريقة صحيحة) قبل أنْ نهتم بتشكيلِ تلك الحروف”. إنها تحاول دائماً أنْ تنسف كُلَّ ما أحاول أنْ أقوله منذ البداية، حسناَ لن أهتم لما تقول، سأكمل مقالتي، وقولي وما قلته قبل أنْ تُقيلني مِنْ باحة مَنْ يطلقون على أنفسهم اسم كُتاب (لتلاحظ صديقتي أنَّني وضعت الضمة على الكاف حتَّى لا يأخذها خيالها وثقافتها الواسعة إلى الاعتقاد أنَّنا أشبه بموسوعة أو كِتاب يحوي كُلَّ شيء ويفسر كُلَّ شيء، والأدهى أنْ تعتقد أنَّنا نعتقد في أقلامنا الحفظ والصون مِنَ الخطأ والزلل)…
ياااه كَمْ فرعوناً حينها سيخرج مِنْ وراء الكواليس، حتَّى أولئك المبتدؤون مثلي سيطالبون بعرش، ولماذا يطالبون والتشكيل موجود ؟ سيشكلون ممالك خاصة وامبراطوريات لا يغيب عنها لسان الكذب والتزييف والسَّرقة والخداع، فإن قلنا (كُتاب) فقد أعلنا أنَّنا مجرد آلة يديرها بالأساس الضمير، فإن مات هذا الضمير فهذه الآلة تؤول تلقائياً بحكم الخوف والطمع إلى تشكيلات أخرى، وهذا ما يجعلني أفضل كلمة (أدباء) فهي إن كانت تعني حاملي اللُّغة والفن الأدبي مِنْ نثر وشعر، لكنني أفضل الأدب أخلاقياً أمام النَّاس والحياء مِنَ الله.
لتعلم صديقتي المغرمة بلغة الضاد أنَّني وضعت الضمة إذن، وهي ضمة غالية جداً، تصوروا أنَّ البعض قد ارتكب أبشع الجرائم الإنسانية بسببها، سأعطيكم مثالاً بسيطاً، كُنا في ندوة تثقيفية أقامتها إحدى المنظمات الَّتي شاعت بعد الثَّورة وانتشرت انتشار النَّار في الهشيم، وكانت الندوة عَنْ الإرهاب، صوره وكيفية مواجهته. تكلم الكثيرون بطريقة مملة حتَّى أنَّ بعض الحضور ومنهم أنا قد تسلل بين الحين والحين إلى إغفاءة صغيرة يفضحه فيها شخيره المتعال.
لَمْ أكن أشخر غير أني حين أغفو يسقط رأسي على كتفي، ثُمَّ يميل جسمي جانباً حتَّى يقع على صديقتي الجالسة بقربي، فتدفعني بقوة وغضب وهي تهمس مِنْ بين أسنانها: “أنت تصنعين فضيحة”… فركت عيني بشدة أحرِّض نفسي على الصحو والانتباه. ركزت سمعي على كلام المتحدث الَّذي يقف بعيداً أمام مكبر الصَّوت ويتمتم بمحتوى ورقة ترتعش في يده: {مَنْ شاء فليؤمن ومَنْ شاء “فليُكَفّرْ”}… وصلت إلى سمعي العبارة واضحة، والكلمة الأخيرة أوضح، قرأها هكذا: ضَمَّ اليَّاء وفتحَ الكاف، وضعّف الفاء بشدَّة مكسورة، وشلِّ حركة الرَّاء بسكون.
الحقيقة أنَّني لا أثق في انتباهي و لا معلوماتي في كثير مِنَ الأحيان، فما بالك بكوني صحوت للتو، والإنسان عادة – وكما يؤكد العلماء – يفقد الذَّاكرة في الثواني القليلة الَّتي تعقب استيقاظه، لذلك مِلتُ إلى صديقتي ، وهمست: “هل قال “فليُكِفّرْ”؟”… ويبدو أنَّها كانت شاردة أو أنَّها كانت مصدومة هي الأخرى، أو أنَّني قد أفقدتها صوابها بتصرفاتي فقد نهرتني قائلة: “هسسسس”.
لَمْ أيأس، مِلتُ إلى الجهة الأخرى، وسألت نفس السَّؤال: “هل قال “فليُكِفِّرْ”؟”… هذه المرَّة تحصلت على جواب، هزة عصبية عنيفة برأس الجالسة بجواري بالموافقة، لكنني أشك أنَّها الإجابة الصحيحة، فقد تكون قالت ذلك لتهرب مِنْ ضجيجي… حسناً، سأصبر إلى أنْ ينتهي، هكذا قررت: لن أفضح نفسي بالسَّؤال على الملأ.
غير أنَّ عاصفة مِنَ الأسئلة ثارت في نفسي دون أنْ تهدأ: كَمْ مِنَ الأخطاء أجلّنا فهمها أو مناقشتها وتصحيحها حتَّى صارت براكيناً؟ كَمْ مِنَ الأفكار المنحرفة ولدت صغيرة وبإهمالنا لها كبرت وتعاظمت حتَّى أرهقتنا، وربما استسلمنا لها؟. فالدماغ العربي لا يحتمل فكرتين، كما أنَّ شعاره (البضاعة الَّتي تدخل لا تُرد ولا تُستبدل).
حين علا الهرج والمرج في القاعة تأكدتُ أنَّه نطقها كما سمعتها وكما تساءلت عنها بالضبط. تعالت همهمات الاحتجاج والاعتراض، وصل بعضها إلى سمعي:
– “بماذا يهذي هذا المهرج؟”
– “هذا تحريض على قطع الرقاب”
– “مثل هذا مَنْ يشكلون خطراً على الثَّورة”
– “هذا مِنْ أتباع حزب….. الإرهابي”
– “أخرج يا كلب النَّار”
عرفت أنَّ الرجل الواقف أمام مكبر الصَّوت قد أثار الجمهور بما فيهم أنا، ووقف يبحلق في ردود الفعل راسماً ابتسامة مستفزة على وجهه. في الماضي كنا نضحك مِنْ عثرات الخطباء والمتكلمين سواء خلال التجمعات المختلفة أم على شاشة التلفاز، فنحن – أيامها – لَمْ نكن نملك سوى الضحك، و في السرِّ .
أذكر مرَّة أنَّ أحدهم قبل الثَّورة خطب ناسباً قول المتنبي (على قدر أهل العزم تأتي العزائم) إلى الرسول صلَّى الله عليه وسلم، ولكن خطباء ما قبل الثَّورة كانوا مهرجين على الأقل يجعلونك تضحك، حتَّى وإن كنت تبكي في داخلك خجلاً مِنَ العالم الَّذي يتفرج على صورة الليبي عبر القنوات الإعلامية، أمَّا خطباء اليوم فقد ارتقوا عَنْ صفة التهريج، إنهم دهاة مخادعون يعرفون جيداً كيف ومتى ومن أين تؤكل الكتف؟ (لا يذبحون الديك إلا ولهم مطلب).. ومطلب خطيبنا هذا واضح للعيان.
في الماضي كان سيصفق له الجميع بابتسامة ساخرة و بدموع متألمة، المهم سيصفق، لكن بعد الثَّورة لَمْ يصفق أحد، بَلْ علا الهرج تدريجياً، غادر البعض القاعة، وآخرون أخذوا يتجادلون في البداية بالكلام ثُمَّ تشابكوا بالأيدي، وهكذا بات لزاماً علينا نحن النساء أنْ نغادر القاعة .
بعد قليل جاءت سيارة الإسعاف، وأصبح الممر المؤدي إلى الشَّارع الرئيسي مغطى بالدماء. صباح اليوم التالي توالت البيانات عبر الإذاعة المحلية، كُلَّ عشرة أشخاص أعلنوا عَنْ تشكيل مسلح باسم الشهداء دفاعاً عَنْ مكتسبات ثورة 17 فبراير.