قراءات

محمد العنيزي… عن المدينة والبحر وقصص من بنغازي (3) والأخيرة

• ومذكرات يومية.. يعود تاريخها إلى النصف الأول من العهد العثماني الثاني كتبت باللغة العامية الدارجة المتداولة عند العامة من أهل بنغازي في ذلك الحين، تناولت جوانب متعددة من مظاهر الحياة السائدة في المدينة.. مشوقة في سردها.. موفقة في تصويرها للحدث.. مجسدة لمشاهد من الواقع المثير للمتابعة والتدبر والاهتمام… ويذكر الكاتب في تقديمه لما اختاره للنشر من هذه اليوميات بأن أحد سكان شارع الرعيض عثر على مجموعة من الأوراق القديمة في صندوق جده العتيق تبين عند قراءتها بأنها مذكرات يومية كتبها جده.

أعراس بنغازي… الباشا وصاحب المذكرات

• وتؤرخ اليومية الأولى بيوم الخميس السابع من فبراير 1867.. وفيها سنلتقي بالمتصرف خليل باشا[1] القادم من (بر الترك) ترافقه زوجته. (بنت الحسب والنسب) ونتعرف على كبار مساعديه من أعضاء حكومته ومشايخ المدينة الذين توجهوا لاستقباله (… وبعد أن رست المركب في ميناء بنغازي.. ومشى أغا الميناء يجري ومعاه الدفتردار والقاضي والزابطية يستقبلوا في الباشا) … وبهذه المناسبة (.. واليوم الشوارع مليانة بالزينة السمحة.. وفي الليل ولعوا الفنارات وداروا زيطة كبيرة.. ووزع عليهم الباشا أكل واجد رز ولحم).

• ومناسبة مشابهة تحققت لصاحب اليوميات (واليوم أنا أيضا تزوجت والحمد لله على طريقة الحق والسنة النبوية مخطوبتي بنت الأصل سعدة إبنة المرحوم سليمان حمد إللي ساكنين في سيدي حسين)… ويخبرنا بتفاصيل الزفة وموكبها الكبير الذي (جابوا فيه العروس من منطقة سيدي حسين لعند شارع الشويخات يمشوا على الأقدام).. وحفلة كبيرة أقامها جماعة الشارع والجيران والأصحاب وطبل ودرابيك… وشجار أثاره موسى إبن خالته حلوم.. الذي جاء إلى الفرح (وأحضر معاه إثنين زجاجات عراقي إشتراهن من التاجر اليهودي رحمين لأن موسى غالي عليه الشرب وهو دايما يسكر).. و(قعد الجماعة يسكروا حتى تعارك موسى مع واحد من أهل الشارع.. لكن الجيران فزعوا وفضوا العركة.. وما صارش سو والحمد لله).

إعمار طبرق… وقصة عاطفية

• وكان مدار الحديث في اليومية التالية (4 ما يو 1867).. عن- موسى ولد خالته حلوم – الذي كانت (خدمته) أي عمله (نقل البريد على حصان كل يوم إثنين من كل أسبوع من متصرفية بنغازي لعند ناحية المرج) .. وكان له أبناء عم في (قرية).. سيدي خليفة (يتكي عليهم وهو جاي.. بسبب إنه يريد يشوف الولية إللي يبيها وتبيه، وتعطيه لبن، وتقول له غنـــــاوة علم، حتى يعود فرحان).. جاء لزيارتهم ذلك المساء (وهو متكدر واجد.. وخبرني عن عائلة مخطوبته التي تريد السفر إلى طبرق). وسبب ذلك!!!.. (أن سيدي خليل باشا نصره الله آمين بجاه سيد الأولين والآخرين.. طلع فرمان قال فيه عائلات لا بد يمشوا إلى طبرق حتى يعمروها . ثم بعد أن يقعدوا هناك فإنه ليس يأتي إليهم طاري المكاس لمدة عشر سنين، وهم سوف يأكلوا بالبلاش ويبحبحوا عام كامل ويعطوهم حبوب يبذروهن وبهايم يرعوهن..). وفي يومية أخرى يذكر أن موسى قد جاءهم مودعا وقال ((أنا بيدي ليس عندي قعاد هنا في بنغازي.. ولن نقدر أبدا نقعد بعيد عليها بسبب أنها غالية علي بالحيل) ومشى.. (ركب في مركب عثمانية ماشية لعند طبرق). ليلحق بالمرأة التي يحبها.

شيء لله يا صلاح البلاد…

• مدينة ذات مميزات.. تتوسط البلاد.. تمتد بجناحيها نحو الغرب والشرق. ومنها تتوجه القوافل نحو الجنوب وبلاد السودان… وتأتيها المراكب محملة بالبضائع قادمة من مالطا وكريت وبقية جزر اليونان، وتعود تنقل الملح إلى تلك البلاد.

• المرابطون الأولياء الصلاح القادمون من المغرب الأقصى في طريقهم إلى الحج إتخذوا منها مستقرا بعد عودتهم.. أسسوا الجوامع والزوي والمساجد فقهاء ومعلمون ومشايخ وطرق صوفية، وأئمة وفتاوى وإرشاد.. وعندما قام خليل باشا بتقسيم المدينة إلى إثنتي عشرة محلة.. – تقديرا لمكانتهم – أطلق عليها أسماء لأولئك المرابطين الصالحين الأسياد. ويحدثنا صاحب اليوميات عن الإحتفال الكبير الذي شهدته المدينة بمناسبة المولد النبوي واجتماعهم منذ الصباح في الجامع الكبير.. ثم يقول (.. وجاء إلى الجامع سيدي خليل باشا دام عزه، وجلس مع المشايخ حتى يشهد قراءة المولد.. واجتمعوا إخوان زاوية سيدي بوشحيمة العروسية، وإخوان الزاوية الرفاعية التي تقع قرب شاطئ البحر، وإخوان العيساوية، والمدنية والقادرية هم ومشائخهم وقاموا بالأناشيد والفن في الوسعاية الكبيرة التي تقع قدام الجامع الكبير.. وزعوا المشروب المخلط بماء الزهر والحلوى على جميع الحاضرين.. ثم مشى كافة إخوان الزوايا في الشوارع رافعين الأعلام ويضربون الدفوف والباز، شيء لله يا صلاح البلاد، والناس كلها فرحانين الكبار والعويلة والله ينصر أمة محمد، والحمد لله رب العالمين).

وتلك من أحوال الدنيا والناس…

• وتجارة القوافل من مظاهر النشاط الاقتصادي الهام في بنغازي نتعرف عليها من خلال يومية إختص بما ورد فيها (التاجر المعروف في السوق سالم بو مسعود الذي يسكن في شارع الواحي ) التاجر بومسعود تاجر كبير وعنده (إبل قافلة تمشي لبر السودان وفيها أكثر من خمسمائة رأس من الإبل). ويرافق القافلة بوفراج الذي (خدمته) قافلة باشي.. (يسافر مع الإبل إمتاع التاجر سالم بومسعود لعند السودان إيشيل له في الملح وإيبيع فيه بمكسب واجد ويجيب أمعاه العاج من برنو والحناء والكحل والبخور)… هذه المعلومات التي وردت مجزأة في السياق تم استخلاصها لأهميتها.

• لكن الموضوع الرئيسي الذي تناولت تفاصيله اليومية ورد بالقول.. (نحن اليوم زايطين في فرح صاحبنا التاجر سالم بومسعود.. وهو أحضر أكل واجد رز ولحم بسبب أنه تزوج من معلومة بنت الحسب والنسب، إبنة بو فراج اللي خدمته قافلة باشي).. ويتطرق إلى سبب إقدام بو مسعود على زواحه الثاني فيقول.. (ولما سالم بو مسعود أنجبت زوجته الأولى خامس بطن وزادت عليهم البنية الخامسة تكدر وأنسود وجهه وليس يريد أن يشوفها وقال سوف نتزوج مراة تنجب الذكور).. وكان أن رأى أبنة بو فراج مرة وهي خارجة من فم دار أبيها (ودخلت فيسع إلى حوش جيرانهم الذي مقابلهم ومن يومها والبنية خشت خاطره وقيسه حطها في عقله).. وبسب ما هو عليه من الحالة الميسورة.. (فإنه بعد ما جاء إلى القافلة باشي بوفراج يريد أن يخطب البنية فرح بيه واجد ووافق وقال هذا هو النسب الزايط الذي يهني البنية ويسعدها). وتختم اليومية بالقول (ونحن زايطين في الرز واللحم وهذين أحوال الدنيا والناس والحمد لله على الصحة والعافية).

ميلاد الذي تعلم في الرشيدية.. يذهب لدراسة الطب في أسطنبول

• ويومية أخرى وأخيرة نستكمل بها هذا العرض الذي تم إختياره من هذه المذكرات التي قدمت مشاهد مشوقة تنبض بالصدق والحيوية استخلصت من واقع الحياة التي يعيشها مجتمع مدينة بنغازي.. معبرة عن الخصوصية التي يتميز بها سلوك ذلك المجتمع… وتخبرنا هذه اليومية عن الزيارة التي قام بها (الأحباب والأصحاب).. واجتماعهم في حوش الحاج رمضان تاجر الحصران.. والسبب أنهم جاءوا ليسلموا على إبنه (ميلاد)، الذي يريد الذهاب إلى إسطنبول لكي يستكمل دراسته. وتخبرنا اليومية عن المدرسة الرشيدية التي تلقى فيها ميلاد تعليمه الأولي لمدة أربع سنوات (.. وقعد يقرأ ويكتب تمام ومجتهد ما شاء الله يحفظ دروس واجد).. وعن هذه الدروس التي تلقاها ميلاد في الرشيدية يقول صاحب المذكرات.. (يحكي بلغة الترك وكأنه واحد منهم.. ويتكلم أخرى زاد بلغة الفرنسيس.. وأيضا هو راهو شاطر في الحساب.. يحفظ تاريخ الأتراك كيف جو للوطن، ونزلوا في طرابلس، وطردوا النصارى، ويعرف حكاية القرمانلي كلها. ويحكي لنا عن أشياء في الدين كثيرة نحن ليس نعرفوها، ولكن نقعدوا نسألوا وهو يرد تمام.)… ولأن والد ميلود مقتدر وميسور الحال فإنه رأى أن يبعث إبنه إلــى (بلاد الترك) لكي (يقرأ عندهم ويتعلم الطب تمام ويعود إلى الوطن ومعاه شهادة طبيب ويعالج هله وناسه اللي يستحقوا له ويعالج عيالهم ويكسب فيهم قطعة أجر…).

• وقصص أخرى يرويها بحر الشابي واللثامة وجليانة وتتقاذفها أمواجه عن زنجية تم انتزاعها من بين ذراعي أمها وسُوقت سلعة ببنغازي.. وأبو سعدية الذي يردد صدى إهتزازات جذوره الإفريقية ومعه الصبية في بنغازي يطوف طابور لهم متتابعا يردد متسائلا (وين حوش بو سعدية) ويأتيه الجواب منغما (ما زال لقدام شوية)… وزرايب العبيد التسمية التي أطلقت على مساكنهم هي في واقع أمرها منازل حريتهم… وكثير من (الخرّاف) والتخريف.. حكايات يختلط فيها الواقع مع الخيال تتناثر بين مجموعة هذه القصص.

• “وفي المساءات البنغازية الرائقة وحول مواقد الفحم يمتد خط غير مرئي للجدات يروين لأحفادهن المتطلعين إليهن بعيون الدهشة خرافات قديمة “… (ومن أحشاء البحر تنهض الأساطير النائمة في ظلمة القاع وتحط رحالها في بيت إمرأة تدعى حواء بنت الفقي مبارك.. يقول سكان شارع المسطاري إنها إمرأة مليئة بالحكايات.. وذات حكاية قادمة لتوها من شاطئ البحر قالت حواء بنت الفقي مبارك…). وجمعة صاحب البيت الذي يقع في البركة بشارع سيدي عبد الجليل وبينما كان يجلس في فناء بيته المفتوح على السماء.. كانت بداية قصته مع الحمام .. ولقب بجمعة حمامة.. وحكاية شبيهة وقعت لعطية جاء في مقدمتها أنه بينما كان في طريقه لصلاة الصبح متجها إلى جامع النخلة لمح ذلك الديك الغريب الشكل.. وتتابع الأحداث متلاحقة مثيرة وغامضة لتنتهي بالقول.. ومنذ ذلك اليوم صار عطية في كل إشراقة صبح يخرج أمام بيته ويؤذن مثل الديكة.

• وفي شارع شمسة توقفت عجوز متسولة أمام أحد البيوت وهي تردد (يا لويلة من باب الله.. تحجي بيت رسول الله.. لا تكشي ولا تنشي .. عطينا منين عطاك الله.. يا مولاة الحوش جديد.. حبلك يرجح بالقديد.. عمر شكبانك بوليد.. عطينا منين عطاك الله).. وكان لدعائها للمرأة العاقر، بجاه سيدي غازي وسيدي جمعة وصلاح البلاد ومن حج البيت… وجدها الساكن في البر الغربي… وجاء في بقية الحكاية “حبلت المرأة العاقر وفي الموعد المحدد أنجبت طفلا” والخاتمة تقول وتظل الحكايات سيل لا يتوقف.. والبحر مليء بالأصداف والحيتان والحكايات التي لا تيشيخ.

بنغازي، السبت 20 مايو 2017

_________________

حاشية (1) خليل باشا

في سنة 1863 تم اعتماد بنغازي متصرفية قائمة بذاتها (بنغزي متصرفليك) ألحقت بالباب العالي مباشرة وكان خليل باشا أول حاكم تم تعيينه للمتصرفية 1863-1868. ويذكر له القيام بالعديد من الأعمال الجليلة وذلك بإصلاح الإدارة وإعطائها الصبغة المدنية الحضارية ووضع التقسيمات الإدارية للمتصرفية وتنظيم جباية الضرائب، وأخضع القبائل المتمردة لسلطان العثمانيين وقسم مدينة بنغازي إلى إثنتي عشرة محلة – بنغازي عبر التاريخ ص 288).

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

قراءة في «التجريف الثقافي» لعمر أبوالقاسم الككلي

إبراهيم حميدان

الوجه الآخر للماء في سيرة عالية

مهنّد سليمان

صحراء التتار . . نظرة خاطفة

ناصر سالم المقرحي

اترك تعليق