محبوبة خليفة
رأيتهنَّ يتهامسنَ والجزع بادٍ على وجوههنَّ بل وحتى الحزن والبكاء.. ياإلهي، أنا أحبُ إجتماعهن ففيه ضحكات تصل إلى أقاصي الأرض (إي والله)… مالذي غيّب هذه الضحكات المجلجلة وأبدلها بكل هذا الحزن…
إقتربت أكثر لأتبين!! سوف لن ينتهبهن لي، من ينتبه لطفلة صغيرة تدّعي عدم الإهتمام بحالتهن وعدم الفهم، وهي في الحقيقة ترصد وتسجل وتُدرج الصور في حافظة الزمن!! صورة بعد صورة… (يانا يالصغّر يابوي!!)…
يا ألله.. هذا رجلٌ وصغير وتوفّى. لا بل قُتل. هكذا سمعتُ إحداهن… قالوا اقتلوه وحذاه امّرتَه!! (يابوى اسّمَ الله علي مينتك!).. من الرجل؟ وإن كان منّا أين العزاء؟ لا أسمعُ شيئاً في شارعنا الصغير ووالدتي لم تتحرك من بيتنا لكنّ ثلاثَ نساءٍ أحبهن يُقِمنَ مناحة وحدَهن.. ثلاثُ نساءٍ، كل واحدةٍ من مدينة غربٌ ووسطٌ وشرق تجاورن ولا قرابة بينهن إلاّ الجيرة والصفات المشتركة، جميعهن لهنّ شخصياتٌ آسرة، فيها الكثيرُ من النشاط، والكثيرُ من المرح وبعضُ قسوة يبررنها دائماً، ولا يجدُ قلبي الصغير لها داعٍ.. أو هكذا رأيت في ذلك الزمن الجميل…
الحاجة مريم أصيلة بنغازي تسكنُ درنة بحكم ارتباطها برجلٍ من المدينة، وتجاورُ أهلي وتحبُ أمي كثيراً وتقضي معها أوقات طويلة حسب فراغ السيدتين، مارأيتها مرة بدون المغزل وكراتُ الصوف تعده لتحيك البلوفرات الصوفية لأهل بيتها وربما كانت تبيع الفائض لكثرة المرات التي أراها تحمل المغزل معها، عاشقة (للنشوق) أو النفّة لا تنطق بكلمة قبل أن تفتح علبة من الألومنيوم الصغيرة كانت في الأصل حافظة للأفلام، تفتح العلبة وتدخل اصبعيها لإبهامَ والسبّابة، وتلتقط كمية مناسبة لفتحتي أنفها وتلقمهما بها في مرة واحدة!! كنتُ أعجب كيف لا تعطس بعد أن تعبّئهما، ففي محاولاتي السرية لتقليدها إنكشفتُ، بعد عطاسٍ شديد كاد أن يقطع أنفاسي!!
كانت مُعالجة لأمراض النساء والأطفال أيضاً!! يأتون بالطفل الفاقد للشهية (لترفع حلقه) سمعتهم يسمونه هكذا والطريقة غريبة ولا أنسى صياح الأطفال وهي تغمس أصابعها في علبة تحوي مادة سوداء لزجة وتدخلها في حلق الطفل في موضع اللوزتين!!
وتشتهر أيضاً بالحجامة وكم من مرة اختلستُ النظر لها وهي تضع شيئاً يشبه (المحقن) أو كاسة الحجامة، تضع بداخله قطنه ملتهبة حتى يُفرَّغ من الهواء داخله، ثم تضعه بحرفية ظاهرة على موضع الألم بعد أن تفتح الجلد أو تمرر المشرَط وغالباً تكون (اللميتة) وهي موس حلاقة حاد جداً في مكان الألم الذي تحدده لها مريضتها واتابعُ -جَزِعَةً- الدماء التي تنضح من المكان بينما تتابع هي عملها غير مبالية !!هذه هي الحاجة مريم التي ازعجني بكائها ذلك المساء…
أما الثانية (زهرة) فهي قادمة من (زليتن) مع زوجها العسكري الذي يعمل مع الجيش الإيطالي وكانوا يعيشون مع أسرهم فيما يسمى (بكامبو العسكرية)، غير أنها بعد أن توفى زوجها وغادر الطليان، وزوّجت بناتها، نزلت إلى المدينة وسكنت بين أهلها وتعرّف عليها الناس لشهرتها كقابلة مساعدة للسوريلّات، وكانت معروفة بكرهها لمقدم الإناث فماأن تطل على الدنيا أنثى حتى تسبها وتسبُ أمها وكل فصيلة النساء!!، غير أنها طيبة القلب سهلة المعاملة يعذرُ الناس غرابة طبعها لتعبها، وصعوبة مهنتها، التي تتطلبُ منها أحياناً الدوام ليلاً فلا تعود إلاً في مطلع الفجر فكان الذاهبون إلى المساجد ذلك الوقت يعرفون (الحاجة زهرة) ويحيونها وبتباركون بمرورها فعلى يديها تهلُّ البَرَكة والبنين والبنات!!…
كانت تحب النفّة أو (النشوق) هي الأخرى كرفيقتيها الأخريين، ولها هي الأخرى طقوس خاصة فهي لا تشتري النفة جاهزة أبداً، فلها أقارب من مدينتها يرسلون إليها أوراق التبغ المجفف وأراها دائما تنقعهن في الماء حتى تطرى وتذبل ويزال عنها الأتربة، وتعيد تجفيفها ثم تطحنها حتى تتحول إلى (نفّة أو عطوس) أو كَيفٌ بريء لا يتبرمُ أحدٌ منه ولا من متعاطيه، كانت هي الأخرى حزينة ذلك المساء وتتبادل الأسى و(التعديد) على الرجل الذي حيّرني حزنهن عليه!!..
أمّا الثالثة فمن درنة وكانت أقربهن إلى قلبي وأكثرهنّ جمالاً، لها عينان لوزيتان وشعرها ناعم مصفوف بجمالٍ وعناية ظاهرة، وكانت سيدة في أهلها، تزوجت وطلقت مراراً ولم يكن لها عَقِب غير أن الجميع يحبونها وهي بمثابة الأم لهم. أسمها الحاجة فاطمة جمالها -على كبر سنها- يحكي عن الصبية الشقراء التي كانت، وقوة شخصيتها تُفسر تبرّمها من الرجال الذين ارتبطت بهم، وخفة دمها تأسر من يراها.. لها ضحكة واثقة تتسرب لمن حولها فينعشهم إنبساطها ويسعدهم، ولها أيضاً نظرة تثير فينا الرعب إن صاحبتها تكشيرة مناسبة للحال!! إن اقترفنا فعلة صغيرة ولم تقبلها منّا…
تسكنُ بصحبة أسرتها بغرفةٍ محاذية لغرف أبناء عمها ونسائهم في البيت الكبير! لها إجلالٌ خاص (وكبارة) كما يقولون ولها (الشيرة والدبارة).. أيضاً هي سعيدة بعزوتها وعزوتها سعداء بهذه السيدة الهصور التي تُعرَف بكنية عائلتها، فإن نُطق أسمها تلبّسَ المكان صمتٌ حتى يتبين الجميع أحوال القادمة إليهم إن ابتسمت إبتسموا وإن تجهّمَت صمتوا حتى يعرفون مابها ويراضونها!!..
هي الأخرى تشارك صويحباتها عشق النفّة غير أن الدلال ظاهرٌ عندها في اختيار العلبة وفيمن يمدونها بأفخر أنواعها… لا تغيب هذه السيدة عن مناماتي وتزورني دائما وآنس بوجهها الجميل وحكمتها الحاضرة التي تتناقلها أجيالٌ من عائلتي حتى نهار الناس هذا.
أمّا ذلك النهار فتعاظمت حيرتي وقلقي على نساءٍ أحببتهنَّ وينشغلن عني الآن بالتعديد على الرجل المجهول حتى استطعتُ ببعض تشغيلٍ لمجساتي القوية أن أسمع الإسم إنهن يعدّدن على رجلٍ يدعى (كينيدي) سمح، وصغيّر، وبلاده بعيدة.. قتلوه وبجانبه زوجته الصغيرة وخبر مقتله وصل لدرنة فبكت عجائزها وسامته وشبابه!! لازال ذِكرُ هذا الرجل مرتبطٌ لدي بذلك النهار الذي غابت فيه ابتسامة-من لا أعرفهنَّ إلاّ بها – ثلاثُ عجائز من مدينتي.