قراءات

في وصف حالتنا: الحداثة المشوهة

رضا بن موسى

 

يواجه مجتمعنا الليبي مأزقا خطيرا.. حيث نعيش في أتون صراع ضار يستنزف المقدرات الانسانية والمادية، ونتخبط بدون أن تكون لنا القدرة على صياغة رؤيا للتجاوز والعمل على تخطي العقبات. فلماذا وكيف وصل الحال بنا إلى هذا الوضع؟ وبأي قوى ووسائل سيتسع الأفق باتجاه الدولة الحديثة الديمقراطية.
هذه الاسئلة هي اهتمامات العلوم الاجتماعية وعلم الاجتماع بالخصوص، المشغول ببلورة صياغتها بما يساعد على تقديم الإجابات، فهو المعني بدراسة حياتنا الاجتماعية: مجتمع وجماعات وأفراد، علاقات وعمليات، يبحث في أنماط سلوكنا لفهم تجربتنا التاريخية الحضارية، ومعرفة مانحن عليه فكرا وعملا، وبالتالي يكشف لنا عن حقائق ـ قد نجهلها ـ وعن زيف كنا نعتقد أنه طبيعي وصحيح.

صراع الخيمة والقصر كتاب الدكتور مصطفى عمر التير

ومن هنا تأتي أهمية كتاب (صراع الخيمة والقصر .. رؤيا نقدية للمشروع الحداثي الليبي) الذي نحن اليوم بصدد مناقشته، عبر عرض رؤية وخلاصة أبحاث مؤلفه عالم الاجتماع الدكتور مصطفى عمر التير، والتي تتعلق بمسيرة تحديث المجتمع الليبي، عبر رصده لحركة التغير الاجتماعي في هذا المجتمع وفي خصوصيته الخاصة، وبتفصيل مسهب، متضمنا كما من البيانات والمعلومات، وبما يمكن تصنيفه ـ على رأيه ـ بالتاريخ الاجتماعي الليبي، حيث يسجل غالبية الاحداث التي مرت بهذا المجتمع خلال السنوات الستين أو السبعين الأخيرة، وحيث تشير الارقام الخاصة بعدد من المقاييس الكمية لمؤشرات التحديث المادي إلى أن المجتمع الليبي قطع شوطا في هذا المجال، لكنه، وكما يخلص في استنتاجاته استنادا إلى نظرية التحديث التي يتبناها رؤي ومنهجا، لم يؤد إلى الحداثة.
وقد استخدما مصطلحا التحديث والحداثة، ولأول مرة في أوروبا، للتعبير عن حركة مجتمعية، من عصر النهضة إلى عصر التنوير، وشملت مختاف مجالات الحياة، وبقيادة قوى اجتماعية، قادت إلى إحداث التقدم في الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. وبذا يعبر التحديث عن المظاهر المادية والعمليات التي يتم بها التغيير الجديد، وتكون الحداثة هي التمثل على مستوى الشخصية بالعقلانية والعلمانية والقيم الحرة وبما يجعل الفرد قادرا بفعالية على المشاركة في التحول الحضاري العميق. ثم تجاوزت هذه الحركة حدودها الجغرافية، بعد انتشارها طوعا أو كرها عن طريق الاستعمار، حتى أن مكونات التحديث على المستوى المادي أو الثقافي قد اكتسبت صفة العالمية، وبعد مساهمات متعددة من ثقافات أخرى.
وتفترض (نظريات التحديث) أنه بالامكان تحقيق التنمية والتقدم من خلال اتباع نموذج الدول المتقدمة حاليا، وكأن المجتمعات في حركة تحديثها تطور أنظمة ومؤسسات وأنساقا متشابهة، باعتبار التحديث برنامج عمل له أهداف ووسائل تضمن الوصول إلى احداث التقدم.
وعلى ضوء هذه الافتراضات، يوجه كثير من الباحثين، ومنهم الدكتور الليبي علي عبد اللطيف حميدة، سهام النقد لنظريات التحديث، لوقوعها في التحيز عند المقارنة بالنموذج التاريخي الأوروبي، وبالذات في تركيزها على دور الدولة الوطنية والاقتصاد الحر، خاصة أنه وبالرغم من التحولات الرأسمالية أثناء الاستعمار وما بعدها، لاتزال مجتمعاتنا تعاني استمرار العلاقات القبلية، وتزايد الحضور القوي للجماعات الأصولية الدينية الرافضة للحداثة، بالاضافة إلى قيود التبعية الاقتصادية السياسية بسبب المركزية الامبريالية التي تواصل تدخلاتها التعسفية لمنع حدوث أي تطور مستقل وذلك بفرض نموذج الكمبرادور لإدارة الدولة الوطنية في المجتمعات النامية والمتخلفة.
وإذا كان من المهم اكتشاف آليات التغيير الخاصة بمجتمعاتنا، والتي قد تؤدي إلى نتائج مغايرة ومساعدة على التطوير، إلا أنه من الطبيعي والضروري الاستفادة من التجارب العالمية والأوروبية بالخصوص سواء على المستوى المادي أو الثقافي.
ويتابع المؤلف مسيرة التحديث في المجتمع الليبي، التي بدأت على نطاق ضيق منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر خلال العهد العثماني الثاني، حيث تعرفت نسبة متواضعة من السكان إلى بعض المؤسسات التي تعتبر ضمن برامج التحديث مثل المدرسة والمستشفى والبلدية والصحف والمطابع وجمعيات المجتمع المدني، ثم كانت الصدمة الحضارية مع الاستعمار الايطالي وتجلت في منتجات التقانة من معدات الحرب والمظاهر المادية ثم الافكار والتي كان أثرها محدودا حيث أن الليبيين ـ كغيرهم ـ اعتبروا ثقافة المستعمر ثقافة غازية وتتضمن في مكوناتها موقفا سلبيا من القيم السائدة المستمدة من المكونات الثقافية، والتي يعتبر الدين الاسلامي والثقافة الليبية العربية من أهم مصادرها.
ويحدد الدكتور التير الفترة الرئيسة التي يتم التركيز على دراستها ـ في الكتاب ـ بتلك التي تبدأ مع الانقلاب العسكري في سبتمبر 1969 بحكم أن تأثيرها ـ كما يتوقع ـ سيمتد لفترة طويلة، بسب الظروف المصاحبة والمرتبطة بثروة النفط وغياب القوانين والأبعاد النفسية للحاكم، ويكمن الأثر في التغيير الذي حدث في نسق القيم وتداعياته في ممارسات سلوكية لدى أجيال عاشت وتربت خلال تلك الحقبة وانعكس سلبا على مسيرة التحديث. وكان قد شرع في التحديث مع النخبة الوطنية التي تولت مقاليد ادارة الدولة، مع الاستقلال في ديسمبر 1951، بالرهان على التعليم كمتغير رئيس في احداث التقدم، ثم ومع النفط اصبح بالإمكان التوسع في تنفيذ برامج التحديث المادي في مجالات التوظيف والخدمات والصحة الأمر الذي انعكس ايجابا على مستوي المعيشة، وصار التعليم في مقدمة الأولويات، لكن المعدلات الواردة في تقارير التنمية البشرية، لاتقدم صورة حقيقية، فمستوى التعليم تدهور، ولم يعد متغيرا يقود إلى الحداثة، فلايزود الطالب بقواعد المنهج العلمي ولامقومات التفكير الحر، أو يقوي مستوى الإبداع واتخاذ القرارات المصيرية، وحيث لامجال في ليبيا للمشاركة الحرة، فلم يؤد إلى ارتفاع المشاركة السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وكذلك يعتبر وضع المرأة من ضمن المؤشرات الهامة للحداثة، ومع مسيرة التحديث فتح الباب أمامها للتعليم ثم للعمل، ومنحها القانون 15 لسنة 1984 مزيدا من الحقوق، ولكن الدراسات تشير إل أن المرأة لاتزال تعاني آثار المجتمع التقليدي. .
وبالتالي فإن انتشار المظاهر المادية للتحديث لم تؤد بالشخصية الليبية للوصول إلى مستوى الحداثة، التي تتعلق بمكونات شخصية الفرد المتأثرة بالمكونات الثقافية، بل اكتسبت خصائص مختلفة عن نموذج الشخصية الحديثة، وبالمقابل لم يحافظ الليبيون على خصائصهم التقليدية وانما برزت أشكال لحداثة ـ يطلق عليها المؤلف ـ الحداثة المشوهة أو كما يصفها آخرون بالحداثة المعطوبة أو المجهضة أو الكسيحة. فما الذي حدث من معرقلات؟
يحددها الدكتور التير في مجموعة عوامل يسميها بمرحلة التغيير المبرمج، وهي:
1ـ غياب الديمقراطية السياسية

2ـ خطاب زوارة

3ـ السابع من أبريل

4ـ اللجان الثورية.
وهذه العوامل شكلت نمطا مختلفا من التحديث، أطلق المؤلف عليه نموذج “انتصار الخيمة على القصر ” أحدثت خلخلة في نسق القيم، عندما تحول الشعار إلى مؤسسة ارتبطت بها فلسفة وفكر واستراتيجيات ونمط علاقات، وبحيث صارت شؤون الدولة تدار بعقلية شيخ القبيلة وأعوانه ثم أبناؤه، وليفتح الباب للمحسوبية والواسطة ونهب المال العام والثراء بدون جهد, وهكذا صار الفساد أهم خصائص المجتمع، وصار النجاح المادي هو الهدف. وذلك عبر برنامج ممنهج لتحطيم البناء الهرمي للبيروقراطية واستبداله بنظام هلامي، يعتمد معيار الولاء بدلا من الكفاءة، وبالتالي لم يعد للتعليم أهمية في احداث التغيير الذي يوسم بالتحديث. وفي المقابل عطلت القوانين وألغيت الصحافة الحرة بعد التأكيد على حظر الاحزاب، الممنوعة منذ الاستقلال، وأودعت النخب السياسية والثقافية السجون، وصار فكر الزعيم هو الرؤية السائدة، عبر خطاباته المرتجلة والمكررة، واعتماده كتابه الأخضر منهجا عمليا ودراسيا، ولم يبق في الساحة سوى اللجان الثورية التي صارت تتمتع بنفوذ واسع ولاتخضع لقانون أو محاسبة، وباستخدام أبشع الوسائل للسيطرة والقمع، بأنماط سلوكية منحرفة عن نسق القيم الثقافية السائدة، استولت على المؤسسات والوزارات والثروات.
أما أهم أسباب تعثر حركة التحول نحو الحداثة فهي من وجهة نظر المؤلف:

1ـ نموذج الاقتصاد الريعي

2ـ ترييف المدينة

3ـ تخلف التعليم وعسكرته

4ـ برامج ذوبان شخصية الفرد في الجماعة.

وكان لهذه الأسباب الأثر في ضياع فرص اعداد الكوادرفي المجالات المختلفة، وعدم بناء رأسمالية وطنية، وبعد التعثر، في تطبيق نظام اشتراكي بدائي، تم الانفتاح بشكل غير منظم على اقتصاد السوق، مما سبب في زيادة الفساد الاداري والمالي، وحلول ثقافة الاستسهال بدلا من ثقافة العمل الجاد، وتفشت الرشوة والعمولة والغش. وشجع سلوك المحافظة على مظاهر الريف والمدينة، مع الغاء القوانين، سيادة ظاهرة ” البدونة ” وظاهرة ” الشخصنة ” بدلا من ” المأسسة ” واعتماد سياسة تقديم الولاء، وخاصة مع تولي ذوي الخلفية البدوية أغلب المناصب الهامة. هذا بالإضافة إلى تخلف التعليم وعسكرته بتعرض الجامعة وغيرها من المراحل التعليمية إلى هجمات شرسة أدت إلى دمار . ولم تتطور خاصية الاستقلال والشعور بالفردانية بسبب السلوك المحكوم بالولاء للقبيلة، التي تحولت من مظلة ضمانية اجتماعية إلى مظلة وطنية سياسية لها تنظيمها الذي تشكل تحت مسمى ( القيادات الاجتماعية الشعبية ) لدعم وتاييد النظام.
ولاينفك الدكتور التير عن طرح الأسئلة حول ما حدث لليبيين؟ ولماذا وكيف حدث ماحدث؟ ولكنه يلخص افتراضاته بالتركيز على دور الحاكم المستبد ويعزو ذلك لطبيعة النظم الديكتاتورية، وطغيان شخصية الزعيم في ادارة شؤون المجتمع، إلى درجة تكاد أن تغيب الدولة والقوى الاجتماعية التي يمثلها، بل وللتفرد الخاص للعقيد القذافي بقيادة عمليات التغيير ولمدة تجاوزت الأربعين عاما، وبالتالي يطرح سؤاله الرئيس: كيف تمكن القذافي ـ شخص واحد ( وهل هو شخص واحد فعلا ؟!) من احداث كل هذا التغيير في النسق الثقافي، والذي انعكس في أنماط سلوكية، لاتنسجم مع الحداثة، وكأنه صار أسلوبا مميزا وخاصا بالشعب الليبي. ويبدو أن الدراسات التي تتناول المجتمع الليبي، خلال فترة حكم القذافي، والتي قد لاتستهدف تناول هذه الشخصية أساسا، لن يكون بإمكانها عدم الالتفات إلى حضوره بسبب أثره الكبير في مجمل عمليات التغيير، وهذا ما دفع الدكتور التير إلى الاعلان، بوضوح، بأن المستهدف هو مشروع التحديث وليس دراسة الشخصية.
وبالمقابل نجد آراء تتعارض مع رأي الدكتور التير باعتبار أن انقلاب سبتمبر كان تعبيرا عن المجتمع الليبي ـ البدوي بشكل عام الذي ينتظم في قبائل مستقلة تعادي الدولة المركزية التي كانت في أغلب مراحل تاريخه استعمارية ولطالما واجه صراعا مريرا معها، وما القذافي سوى المعبر عن مجمل القوى الحاملة للثقافة التقليدية التي تحاول ـ عبر تعثراتها وفوضاها ـ المحافظة على استقلالها وأصالتها أمام الغرب وحداثته الامبريالية.
ولتفسير وفهم لماذا تقبل الليبيون حكم القذافي، يوظف الدكتور التير مفهوم ابن خلدون ” المغلوب مولع بتقليد الغالب ” واصطلاح مالك بن نبي ” القابلية للاستعمار ” وذلك بشئ من التعديل إلى القابلية للاستتباع أوالقابلية للاستعباد “. والمعروف أن هذا المفهوم قد تعرض لانتقادات حادة، رغم أنه ـ من وجهة نظرنا ـ ومن منظور ايجابي ـ يربط المفهوم بين الضعف أو الانحطاط أو التخلف الاجتماعي وبين الوقوع والخضوع تحت سيطرة الغالب، ويكون المستهدف هو إلقاء الضوء على العيوب الداخلية، في مكونات المجتمعات تاريخيا، التي تقع ضحية للاستعمار أو الطغاة، وبالتالي فإن توظيفه ـ حسب رأينا ـ لايعد تبريرا لخضوع طبيعي تاريخي، بل قد يدفع إلى قراءة للبنى الاجتماعية ونقد للقوى الاجتماعية والسياسية التي تساهم ، لضعفها أو انتهازيتها، في تضخيم دور الفرد حتى يصبح نموذجا للحاكم المستبد.
وفي هذا السياق يرى الدكتور التير بأن خطاب القذافي قد تمحور، في البدايات ، حول قضايا كان لها صدى شعبيا مؤيدا، ثم تغير الأمر بعد خطاب زوارة. ولنشر افكاره استخدم مثل المستعمر القوة المفرطة والاعتداء على كرامة الشعب، والسخرية من هويته وخياراته وثقافته، لكسر الارادة وتحطيم خيار المقاومة لديه وهزيمته نفسيا، وشكلت اللجان لنشر أفكاره مهما تعارضت والثقافة السائدة ولتنفيذ أوامره مهما كانت شاذة وغريبة مع استحواذه على مهمة التفكير والتجريب وإعادة التجريب، وليصبح سلوكه ـ كما يقول الدكتور التير ـ مثالا يحتذى ولتصبح القيم التي تبرر أفعاله من ضمن النسق الثقافي السائد.
ويعدد الدكتور التير مجموعة العوامل التي مكنت القذافي من السيطرة وفرض تصوره ومن ثم ظهور حالة ” القابلية للاستتباع ” وهي:

1ـ ضعف النظام الملكي.

2ـ مستوى الطموح العالي للزعامة.

3ـ نظرة الغالبية التي تعاني الأمية أو تحصلت على بعض التعليم.

وبذلك تحصل القذافي على التأييد كمنقذ وكبطل، من قبل الغالبية، ومما يضع الحالة التعليمية كأهم متغير في تحديد مكانته خلال السنوات الأولى، ثم من قبل المستفيدين من التغييرات المتتالية، والتي استبدلت عبرها قيما بأخرى تتيح الاعتداء على حقوق الآخرين، وصلت إلى سلب الممتلكات والأموال والاعدامات والاغتيالات، ودون استنكار، الأمر الذي دفع إلى بروز انماط سلوكية جديدة، منها ارتفاع درجة الطمع وتوظيف السلطة والاستغلال والنفاق والسكوت عن الاخطاء.

وعلى ضوء المقولة الشهيرة ” السلطة مفسدة والسلطة المطلقة فساد مطلق ” يرى الكتور التير أن القذافي مثًل نموذجا لشخصية ” القائد المدمر ” حيث اختزل الشعب في نفسه وبذلك غاب الوطن، وسوق أوهاما عاشها الليبيون متغاضين عن واقع أليم.. وتصرف كأنه قدر محتوم للبلاد، بل وللعالم، مما رفع درجة القابلية للاستتباع. ولذا قابل انتفاضة فبراير بالاستغراب، وكان رده عنيفا قاسيا، ساعد في الدفع إلى عسكرتها، والتي تبين مخاطرها فيما بعد، معبرة عن استمرار نمط السلوك، وبما يمكن اعتبارها نسخا كربونية لسلوكيات الرمز الذي غاب ولجانه وكتائبه.. وبما يؤكد مدى التغييرات الجوهرية التي حدثت على نسق قيم الثقافة الليبية.
ومن أهم مكونات الشخصية الليبية التي يذكرها الدكتور التير: 1ـ ـ غياب المبادرة واستبطان الاتكالية و2ـ ـ الخوف والتردد والتلكؤ بدل اكتشاف الجديد و3ـ ـ التقليد بدلا من الابتكار بسيادة خطاب اللون الواحد للقذافي الذي تسابق الانتهازيون للاشادة به وبابداعه و4ـ ـ التعصب للرأي والذي استمر مع انتفاضة فبراير وماحدث من وقائع يؤكد ذلك و5ـ الهروب نحو الماضي أوالهروب إلى الوراء ومعادة الحداثة من منظور أنها تؤدي إلى الاستلاب والتغريب والوقوع في شرك الاستعمار، وقد تعرض المنتمون إلى الجماعات الدينية السياسية للاضطهاد، وبكل السبل إلى درجة ارتكاب المجزرة الوحشية المعروفة بمذبحة ” أبوسليم” و6ـ ـ تداخل العم مع الخاص أو الدمج بين العلاقات الرسمية والعلاقات غير الرسمية.
وفي هذا السياق، نشير إلى دراسات أخرى، أصبغت بعضها على الشخصية الليبية ما يشبه الصفات الثابتة كالمنصف وناس في كتابه ” ثالوث القبيلة والغنيمة والغلبة “، أوكما يذكر الدكتور محمود أبوصوة بأن البلدان المتخلفة لم تغادر مرحلة الاقطاع، وحيث لاتزال تتبدى علاقاته في التشردم أو التجزئة، ويرتكز على الولاء والاقتتال وهيمنة الدين على حياة الافراد والمؤسسات.
واقتداء بعمل ” إنكلس وسميت ” طور الدكتور التير مقياسا لدرجة حداثة الشخصية، يتألف من أبعاد رئيسة، يفترض أن موقف الفرد منها يشير إلى مدى تشربه للحداثة، وتتمحور الأبعاد حول: احترام العلم والابتعاد عن التفسيرات التقليدية للظواهر، والتخطيط والانضباطية واحترام الوقت والقانون، وربط العمل بالانجاز والاتقان ثم بالعائد المادي، والتمييز بين الخاص والعام في العلاقات الرسمية وغير الرسمية وفي العلاقة بالمال، والاستقلالية والثقة في النفس والطموح والمخاطرة والتطلع نحو المستقبل، والأخذ بمبادئ الحرية واحترام مبدأ اختلاف الآراء والقبول بالمساواة والولاء للوطن… وكانت النتيجة وجود فروقات كبيرة بين الليبيين بالنسبة إلى القضايا التي لها علاقة بالحداثة، أما المجال الذي اتفق علية الغالبية فهو التعليم.
ولذلك فإن التخلص من الديكتاتورية لايقود حتما إلى نظام ديمقراطي، حيث أن للديمقراطية قيم يفترض تشربها واحترامها، وهي تغطي جانبا من قيم الحداثة، ولن يكون بالامكان ـ كما يرى الدكتور التير ـ بناء نظام ديمقراطي قبل أن يكتسب نسبة كبيرة من السكان هذه القيم وهي مسيرة لها مراحل وتتطلب زمنا.
هكذا يتمحور الفرض الرئيس للكتاب: المرحلة الأولى نحو الحداثة بدأت لكن المراحل التالية لم تتحقق بعد، رغم أنه قد تتوافر ظروف تشجع على تطبيق عدد من المهام المرتبطة بالديمقراطية، كما حدث، لبعض مظاهرها كالانتخابات للمؤتمر ثم للبرلمان، ومع ذلك لم تترسخ بعد. ونختتم، مع الدكتور التير، بأن شعارات فبراير تظل في مستوى التمنيات إل أن ينجح المجتمع في ازالة مخلفات العقود الأخيرة والخروج من أية قيود تعيق الانسان على تأكيد حقه في المشاركة الحرة. وإلى أن يتحقق هذا ستكون ” الحداثة المشوهة ” هي أنسب وصف للمسيرة الليبية نحو الحداثة، ويبقى المشروع الحداثي الليبي هدفا بعيد المنال؟.

_________________________

النص الكامل للورقة التي أعدها وألقاها الكاتب “رضا بن موسى” في الندوة التي نظمتها الجمعية الليبية للآداب والفنون في 4-4-2017، بدار حسن الفقيه حسن ، وكانت الندوة حول كتاب الدكتور “مصطفى التير”: (صراع الخيمة والقصر…رؤية نقدية للمشروع الحداثي الليبي)..

مقالات ذات علاقة

بنغازي تقود أميركا إلى الحافة

مهنّد سليمان

الوجه الآخر للماء في سيرة عالية

مهنّد سليمان

قراءة في كتاب ضمير وطن!

المشرف العام

اترك تعليق