الطيوب | مهنَّد سليمان
تتماس عادة حوادث السياسة مع حركة التاريخ بل ربما التاريخ هو المُحرّك الرئيس لمنطلقاتها الفعلية أو بالأحرى المؤسس لجذورها الأولى فإذا أردنا تفكيك تشابك حدث سياسيّ ما عدنا إلى بواعث قاعدته لإعادة قراءة أسبابه الموضوعية بغية التوصل لفهم يُقرِّبنا من منطق الحال ويُيسِّر لنا رؤية أبعاده بشكل أعمق، التاريخ والسياسة عاملان شائكان الرهان عليهما مستمر لا يوقفه زمن محدد، وإن كان للعواطف دور ما كونها تساهم في تُوجيه دفة أمريهما، والمسألة تلتبس حولها النتائج فتتداعى دلالات أكثرها سلبي ووخيم، ويجيء كتاب (بنغازي…نظرة جديدة للفشل الذريع الذي دفع أميركا وعالمها إلى الحافة) في 371 صفحة كأحد المفاتيح لطرح هذه التوطئة للدبلوماسي الأمريكي “إيثان تشورن” الصادر ترجمته حديثا عن منشورات دار الفرجاني للنشر والتوزيع بترجمة أنيقة لفرج الترهوني فهذا الكتاب يُعيد عقارب الساعة التي ماتزال واقفة تراوح مكانها على مسرح الأحداث في بلادنا فهو يبحث تحليل اخفاق الإدارة الأمريكية في التعاطي مع واقعة الهجوم على مقر البعثة الدبلوماسية للولايات المتحدة الأمريكية في مدينة بنغازي 11 سبتمبر عام 2012م ومقتل السفير “كريس ستيفنز” حتى أنه يصف بعنوان فرعي بأنها نظرة جديدة للفشل الذريع الذي دفع أمريكا وعالمها إلى الحافة.
العودة بعقارب الساعة
يضع الكاتب أشبه بالرسم الكروكي للشخصيات المحورية اللذين تمتعوا بأدوار رئيسة في كل من طرابلس وبنغازي إبان توقيت الهجوم المذكور ولاقى بعضهم حتفه بواسطة مهاجميّ مقر البعثة بالإضافة للمسؤولين في إدارة الرئيس باراك أوباما ومن الفاعلين في الحزب الجمهوري كما أورد الكاتب أسماء مجموعة من الشخصيات المحسوبة على التيار الإسلامي المتورّطة في اقتحام البعثة علاوة على بعض أدوار النخب السياسية الليبية، ولفهم أعمق سبر الكاتب لما سماه بالجدول الزمني لعدة تواريخ شكلت ضمنيا دوافع ما جرى ليلة الـ11 سبتمبر 2012م بدءا من تأسيس حركة الإخوان المسلمين في مصر عام 1924م، ونيل ليبيا لاستقلالها كمملكة دستورية اتحادية بقيادة الملك إدريس السنوسي، وفرص اكتشاف النفط لأول مرة وبيعه تجاريا عام 1959م، مرورا باعتلاء العقيد القذافي لمقادير السلطة عام 1969م، وحرب الاتحاد السوفييتي في أفغانستان وما أعقبها من تنامي مطرد للحركات الأصولية والإسلامية في العالم كله بما في ذلك التحاق مجموعة من الليبيين للقتال في أفغانستان والإعلان عن تأسيس الجماعة الليبية المقاتلة، وأضاء الكاتب بصيغة بانورامية على أبرز المحطات التي شهدتها فترة السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات وأوائل الألفية الثالثة وما مر بها من أحداث، فضلا عن علاقة الإسلاميين بالقذافي وتنسيق الاستخبارات الغربية معه لتسليمه عددا منهم ، وربما الأغرب من ذلك هو رهان إدارة أوباما على جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها التيار الأصولي الأكثر اعتدالا ! الذي سيكون بمقدوره مساعدة الأمريكان على إرساء الديموقراطية في منطقة الشرق الأوسط من جهة ومن جهة أخرى تسخيره كرأس حربة في مواجهة المجموعات الإسلامية المتطرفة وتلميع سمعة السياسة الأمريكية .
العلاقات الليبية الأمريكية
أهم ركيزة بنى عليها الكاتب تحليله هي توتر العلاقات الليبية الأمريكية وإغلاق السفارة الأمريكية بطرابلس عام 1981م، فحسب ما يرى إيثان أن الولايات المتحدة على تعاقب إداراتها لم تكن ملمة تماما بما كان يدور داخل دهاليز أروقة الحكم في ليبيا أي أنها أهملت الملف الليبي بأن جعلته في ذيل أولوياتها السياسية، فالأمريكان وجدوا أن العقوبات التي فُرضت على النظام في طرابلس على خلفية اتهامه بإسقاط طائزة (بان أمريكان) فوق قرية لوكربي الاسكتلدنية عام 1988م قد أتت أُكلها وحققت المرجو منها إذ نجحت في تحجيم تحركات القذافي وعزله عن محيطه الإقليمي، بينما يشير الكاتب كذلك إلى أنه بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003م والقبض على الرئيس “صدام حسين” عندئذ استشعر القذافي بالخطر المحدق حوله، وتصوّر بأن الأمريكان سيمارسون لعبة الدومينو وستمضي الولايات المتحدة في الإطاحة بالأنظمة العربية الأخرى تباعا وأن مستقبل نظامه على المحك بيد أن الأمريكان لم يكونوا في واقع الأمر يخخطون قط على الأقل مرحليا لإسقاط القذافي ليبادر الأخير في التودد لإدارة بوش والتنازل عن مشروعه لتطوير البرنامج النووي ورغم بدائية المشروع وسذاجته غير أن الأمريكان تلقفوا عرض القذافي محاولين من خلاله اتخاذه كحُجّة أو مطيّة لتسويغ غزوهم للعراق بداعي أنهم يسعون لنشر الديمقراطيات في دول المنطقة، ومما أورده تشورن في كتابه أن شخصا ليبيا يدعى ابن الشيخ الليبي اعتقلته القوات الأمريكية في أفغانستان وسُلِّم للمخابرات المصرية لاحقا وأخذ منه اعتراف قسري مؤداه أن عراقيين تابعين لصدام حسين درّبوا اثنين من عملاء القاعدة على كيفية استخدام الأسلحة الكيمياوية والبيولوجية، ولم يصدق مسؤولو المخابرات الأمريكية حينها هذا الاعتراف واعتبروه محض هراء لكن يُبيّن تشورن أن هذا الاعتراف كان حاسما بالنسبة لتصورات جورج بوش الخاصة عن مصداقية الادعاء بأن القاعدة والعراق كانا مرتبطين ببعضهما البعض.
الدبلوماسية الاستكشافية
الكتاب لم يضم شيئا مثيرا أو كاشفا للأسرار بقدر ما هو فاتح لشهية التساؤلات،واجتهادات بذلها إيثان تشورن مؤلف الكتاب لتوثيق ما حدث مستوحاة من واقع تجربة عمله في ليبيا منذ عام 2004 أي غداة فك العزلة عن نظام القذافي وعودة العلاقات الليبية الأمريكية تدريجيا، وعرّج تشورن على علاقة كريس ستيفنز بليبيا وبالمسؤولين الليبيين وبصور حياة المجتمع الليبي قبل تعيينه سفيرا للولايات المتحدة في ليبيا، حادثة بنغازي كانت مأساة قتل أربعة أمريكيين نتيجة وضع اتفقت التحقيقات لاحقا على أنه كان من الممكن تفاديه هذا ما أشار إليه مؤلف الكتاب في مستهل إحدى الفصول فكان طوال سياق مادته يؤكد على أن كريس ستيفنز اهتم بليبيا وطمح إلى أن يكون لبلاده دور كبير فيها لاسيما عقب التدخل الأمريكي في 19 مارس 2011م للحيلولة دون وقوع ما اتفق على احتمالية حدوث(مجزرة) سيتعرّض لها المدنيون في بنغازي إنما في المقابل كان الأمريكيون حسبما بدا مترددون للغاية في أن يكون لديهم وجود استراتيجي على الأراضي الليبية، والغريب أنهم رفضوا في أكثر من مناسبة زيادة قوات الأمن الخاصة بحماية سفيرهم كريس وبقية موظفي السفارة بل إنهم ذهبوا لأبعد من ذلك حين قاموا بتقليص أعداد قوات الأمن الخاصة بسفارتهم بطرابلس لتعتمد البعثة الدبلوماسية الأمريكية في تنقلاتها على أفراد شرطية محدودة ومسلحين من كتيبة (17 فبراير) في بنغازي، وكان لهذا التداعي المريب آثاره الوخيمة التي أدت إلى استباحة البعثة الأمريكية وقتل السفير والطاقم الدبلوماسي الموجود، ونطالع في متن الكتاب أيضا ما سُمي في إدارة بوش بالدبوماسية الاستكشافية المحفوفة بالخطر وهي جُعلت للإشارة للبعثات الدبلوماسية قصيرة المدى لدعم العمليات العسكرية الأمريكية في كل من العراق وأفغانستان، والتي قبِل كريس بشروطها مذ جاء لبنغازي على ظهر سفينة شحن يونانية أبحرت من ميناء فاليتا بمالطا إبريل 2011م.
الانقسام السياسي
ويوضح مؤلف الكتاب تشورن أن الهدف من كتابه هو لدراسة ظاهرة حادثة بنغازي كنوع من الصدمة التي لم يتم فحصها من قبل أمريكا ككل والتصالح مع ما فعله الحدث بأمريكا يتطلب إعادة فحصه مع الاستفادة من الإدراك المتأخر، وفي هذا الصدد تطرق تشورن إلى أن حادثة بنغازي دخلت في معجم الفضائح السياسية للولايات المتحدة لدرجة أنها أحدثت نوعا غير مسبوق من الانقسام الحزبي داخل الحياة السياسية الأمريكية تحديدا بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري فقد اعتاد الحزبين المذكورين التعاضد القومي والوطني خصوصا في الفواجع والأزمات الكبرى والترفع عن الخلافات الأيديولوجية الضيقة لكن في حادثة بنغازي اختل هذا الميزان كثيرا حيث وظّف الجمهوريون حادثة بنغازي كورقة لابتزاز الديموقراطيين بخسّة كبيرة لحرمان أوباما من الفوز بولاية رئاسية ثانية ليدخل أقطاب الحزبين في مماحكات وتراشق محموم بالاتهامات، بينما يورد تشورن بعض التفاصيل عن زيارة كريس ستيفنز لبنغازي ومن ثم لدرنة أثناء حكم القذافي ودخوله إلى المدينة ليلا مستأجرا سائقا يتحدث الإنجليزية ولهذا السائق قريب يعيش في درنة، وذكر تشورن أن ستيفنز كان مشغولا بسؤال لماذا درنة باعتبارها شكلت بيئة حاضنة للعديد من المتشديين الإسلاميين وقتذاك حتى خُيّل لكريس أنه يحاكي مرحلة عمل القنصل الأمريكي “جيمس كاثكارت” في عهد يوسف باشا القرامانلي”.
الحلقة المفقودة…الفجوة الحضارية
بنغازي كتاب دسم ولا يخلو من طرافة التشويق لكنّ السؤال المُلح هل ضحّت أمريكا بكريس ورفاقه ؟ هل كانت البعثة الدبلوماسية الأمريكية بمثابة بالون اختبار لعودة أمريكا للعب دورما في ليبيا ؟ إن تشورن يسترعي انتباه وعناية القارئ في أكثر من موضع لحدوث فجوة تُعزى لتخبّط خطط السياسة الخارجية للولايات المتحدة فمثلا أوباما تحاشى مرارا توصيف حادثة بنغازي بالعمل الإرهابي والإصرار على أنها جاءت نتيجة ردة فعل على الفيلم المسيء للمسلمين فحتى قرار تدخله العسكري في مارس 2011 عائد لعوامل جيوسياسية محضة، وهنا تظهر حتمية الحلقة المفقودة هل بنغازي هي بداية أزمة ستنخر عظام قوة الولايات المتحدة في العالم في ختام الكتاب يقول تشورن إن على الولايات المتحدة أن تجد بطريقة ما أسلوبا لمعالجة انقساماتها الداخلية وتأمين ديموقراطيتها بأن تُنمي وتحمي المؤسسات الضرورية لصنع قرار سليم وإلا ستفقد ميزتها لصالح الأيديولوجيات الأكثر شؤما.