كان أول لقاء بالحاج “أحمد الصالحين الهوني” في منتصف الخمسينات في بنغازي، وبالتحديد في جريدة “الحقيقة” التي كان يصدرها ويرأس تحريرها الأستاذ “محمد بشير الهوني”.
وواقع الأمر أنَّه كان دائم الأسفار فيما بعد، وقد عَرَضَ عَلَيَّ أثناء تواجُدِه في طرابلس الغرب العمل معه في جريدة الحقيقة بنغازي فاستأذنت من الأستاذ فاضل المسعودي صاحب جريدة “الميدان” وعميد الصحافة الحرَّة في تلك الفترة بأنني سأنقطع عن العمل في جريدته لأنَّ لَدَيَّ عرض من جريدة “الحقيقة” فوافق.
وعلى ضوء تلك الموافقة أبلغتُ رئيس تحرير “الحقيقة” باعتزامي السفر إلى بنغازي للعمل معه هناك.
ونَشَرَ الأستاذ المسعودي خبراً بارزاً في “الميدان” عن عملي الجديد في جريدة “الحقيقة”.
وشأن جرائد الماضي –في العهد الملكي- كانت صحيفة “الحقيقة” لا تَضُمُّ عشرات المحررين والمستشارين وأهل الاختصاص في الإخراج والتوضيب وغير ذلك بل تَضُمُّ لزوم ما يلزم فقط دونما اكتظاظ وزحام ومُبَالَغَة.
ويكفي أنْ نعرف أنَّ جريدة “الحقيقة” في ذلك الوقت البعيد كانت تحتوي إضافة إلى رئيس التحرير ثلاثة أشخاص لا أكثر هم الأستاذ رشاد الهوني وهو “دينامو” تلك الجريدة والأستاذ إدريس الهوني مسؤولاً عن الرياضة بكافة أنواعها والأستاذ زاقوب لإدارة الشؤون المالية.
وصِرْتُ مُنْذُ ذلك الحين رابعهم.
قال لي الأستاذ رشاد الهوني بصوت يَقْطُرُ مودَّة:
– إنَّني سعيد بقبولك ومجيئك للعمل معنا. وستكون مُرتاحاً مع أسرة تحريرنا.
ثم نَشَرَ في الباب الذي يكتبه باستمرار في الصفحة الأخيرة من جريدة “الحقيقة” فقرات ترحيب بعملي معهم في الصحيفة.
وكان مقر الجريدة في نفس الطابق الذي تسكن فيه عائلة الأستاذ محمد بشير الهوني. وهو أول مقر لتلك الجريدة الغراء.
وواصل رشاد الهوني حديثه لي قائلاً:
– أنا أُقيمُ في شقة صغيرة “أستوديو” لا تَبْعُد عن هذه العمارة. والشقة مُلاصِقَة لمبنى الديوان الملكي. وقد قررت أنْ أُخصِّصُها لك. وفي تلك الشقة تليفون ثابت ودار نوم تامَّة الأثاث. وهناك صالة واسعة بها زاوية استعملتها فيما مضى كمطبخ. وهناك أيضاً حمام مريح بالماء الساخن والبارد. وسوف أذهب بك بعد قليل إليها وها هي المفاتيح للباب الرئيسي وباب الشقة.
– وكان الحاج أحمد الصالحين الهوني يستمع إلينا ونحن نتحدث. ومن عادته حين يأتي من طرابلس الإقامة في منزل محمد بشير الهوني وعائلته.
قلت لرشاد الهوني منشرح الأسارير:
– أشكرك على تخصيص الشقة الصغيرة لي.
ثم طلبت منه إعطائي صلاحيات للاعتراض على المقالات أو الأخبار التي قد أرى أنَّها مُنَفِّرَة للقارئ ولا تلائم مستوى الجريدة الذي نأمل تطويره.
فأجابني على الفور:
أوافق من جميع الوجوه على ذلك.
فعقبتُ قائلاً:
– سأقوم بإخراج الجريدة إخراجاً فنيّاً وعندي مؤهل دراسي منذ سنين المهجر المصري يُمَكِّنَنِي من ذلك، وسوف أعرضُ عليك وعلى رئيس التحرير “ماكيت” الإخراج للموافقة وإضافة ما قد تقدرون أنَّه ضروري ولازم للماكيت.
ثم ناقشته طويلاً في مسألة المانشيت وأهمية الإثارة فيه. وكان هو –قبل تَعارُفِي به– مُعْجَباً ومَيّالاً إلى المدرسة الإثارية ومتجهات المانشيت الذي برعت فيه جريدة “أخبار اليوم” المصرية بل هي التي جاءت به وابتكرته في مصر.
فقال الحاج أحمد الصالحين الهوني وهو يتبسَّم:
– أنتما متفاهمان على كلّ شيء.
وكانت “الحقيقة” – قبل انتقالها إلى مقرها الجديد المَبْنِي على طراز مَبْنَى جريدة “أخبار اليوم” وقبل شراء الحقيقة لمطابعها الخاصة بها – تقوم بطبع الصحيفة أثناء اشتغالي بها في المطبعة التابعة للدولة.
وبعدما رجعتُ مرة أخرى إلى طرابلس وجريدة “الميدان” كان الحاج أحمد الصالحين الهوني وزيراً للإعلام والثقافة، وبناءً على توجيه من معالي رئيس الوزراء الأستاذ “عبد الحميد البكوش” اتصل بي الحاج أحمد الصالحين الهوني في مكتبه بالوزارة وقال:
– لقد تَمَّ تعيينكَ عضواً غير متفرِّغ في مجلة “الرواد” الشهرية ومعك كأعضاء شرف في هيئة التحرير الشاعر الكبير الأستاذ “راشد الزبير السنوسي” والشيخ علي مصطفى المصراتي وغيرهم. ثم خرج معي من مكتبه إلى إدارة الشؤون المالية لتسليم قرار التعيين.
وقد نشرتُ افتتاحية لجريدة “الميدان” بإسمي تتضمَّن دعوة لمؤتمر الأدباء الليبيين الأول وحضر هذا الملتقى في عهد الملك إدريس السنوسي الحاج أحمد الصالحين الهوني قبل ذهابه إلى بريطانيا.
وكان من بواعث حماسنا لمؤتمر الأدباء الليبيين الأول أنَّ حكومة الأستاذ عبد الحميد البكوش قررت من جانبها اعتبار مبنى مجلس النواب –أيْ البرلمان– مخصَّصاً لفترة انعقاد المؤتمر الأول للأدباء الليبيين وأنَّ ذلك المبنى المحترم مقر رسمي لجميع جلسات المؤتمر المذكور.
وبفضل هذه الرعاية نجح المؤتمر في تحقيق هدفه. وكان الهدف الذي يتطلَّع إليه الأدباء والكتاب الليبيون هو تأسيس الاتحاد العام للأدباء والكُتّاب الليبيين، وبجانب ذلك أهداف أخرى فرعية تتعلّق بدعم حقوق المؤلفين والمترجمين الليبيين وضمان مستحقاتهم المالية المترتِّبة على ذلك.
ومن المعلوم أنَّ مبنى مجلس النواب متاخم لمجلس الشيوخ يضُمهما بناءٌ واحد من طابق واحد فسيح الأرجاء وأنَّهما يشكِّلان معاً البرلمان الليبي في ذلك الحين من التاريخ. وكان مجلس الشيوخ مجلساً استشاريا يعيِّنه الملك وفقاً للصلاحيات الدستورية.
أمّا مجلس النواب فهو نتيجة للانتخابات الحُرَّة التي كَفَلَ القانون ممارستَها للشعب والدوائر الانتخابية في طول البلاد وعرضها. والحق يُقال أنَّ تخصيص مبنى البرلمان لاجتماعات الأدباء الليبيين مؤقتاً لم تحظَ به أيّ هيئة أخرى. وكان بمثابة دليل ساطع على تقدير الدولة والحكومة والنظام بكامله للأدب والثقافة.
وقد شهد المؤتمر المذكور المشاركة الفَعَّالة لجيل طليعي من السيدات والآنسات المنتجات للأدب والثقافة.
__________________
نشر بموقع الأيام