محمّد نجيب عبد الكافي
… وكلاء الوزارات (4)
أواصل بعون من الله الحديث عمّن عرفت فصادقت أو معه عملت وتعاونت، حسب ما أملته الظروف في النصف الأخير من الخمسينات وكامل عشرية الستينات من القرن العشرين، بينما ليبيا المستقلة حديثا، تبني نفسها بنفسها بفضل عناية وإخلاص أبنائها. لكنّي اليوم أقف في حيرة، جابهتني وأنا أعدّ كتابي “نسالة الذكرة” الذي أكثرت ذكره فمعذرة، حيرة ناتجة عن حرصي على قول الحقيقة مبتعدا ما أمكنني عن العاطفة، التي لا مفرّ منها، إذا دخلت القرابة أو الصداقة. فحسمت الأمرآنذاك بحل وسط: أطعت العاطفة فكتبت، وأذعنت للعقل فلم أنشر، فكان اللوم والعتاب من الأقربين والأبعدين. لذا سأحاول عدم الوقوع في نفس الزلة، لأن قريبي المرحوم أبوبكر الزليطني الذي أنزلني عنده ضيفا في غريان، فتمتعت برحلتي الأولى في منطقة جبل نفوسة، أصبح – في مستهل الستينات – وكيل وزارة الداخلية. فهل أهمل الحديث عنه، وقد عرفته كما عرفت الآخرين؟ وقريب أخر هو الأستاذ إبراهيم البكباك الذي تولّى ضمن ما تولّى من المناصب وكالة وزرارة التجارة والاقتصاد؟ عدت إلى الصراع بين العاطفة والعقل، وإذا بذاكرتي – أثابها الله – تمنحني حبل النجاة متمثلا في حدث خصّصت له إحدى حلقات هذه السلسلة، فأكون قد أصبت هدفين برمية، وكفى الله المؤمنين القتال.
– أحمد صالحين الهوني
وكيل آخرمن وكلاء الوزارات الذين يشملهم إطار حديثي فسأحاول قدر الجهد، وأنا أسترجع ذكرياتي، أن أنصف الرجل دون مبالغة ولا تحيّز لأن صلتي، به وبآل الهوني، أصبحت ذات جذور يتعدّى ذكرها حدود المشاهدة والانطباع. جذور، أكثرها عمقا ورسوخا، صاحب هذه الصفحة مديرنا المحبوب الأستاذ مهدي الكاجيجي، الذي سنح لي بالتحدث إلى قرائها الأفاضل، وهو أصدق مثال لما تميّزوا به جميعا من صفات حميدة. لم أكن أعرف المرحوم أحمد لكن تكرّر اسمه مرات أمامي فلم يشدّ انتباهي لجهلي عمّن يدورالحديث، إلى أن رُبط اسمه بقضية قدّمها ضد حكومة ولاية فزان، وحكمت المحكمة لصالحه، فاعتنيت واستفسرت لغرابة الأمر، فأطلعوني على ما يكفي لإرضاء التطفل. لم يمض وقت طويل حتى طلع علينا، بقامته الضخمة، ونحن جلوس في ما أسميه نادي مقهى البريد، حيث يجتمع كل مساء عدد دائم من كبار الموظفين، وينضمّ إليهم آخرون غير قارين منهم البرلمانيون والوزراء ووكلاء الوزارات كأحمد صالحين وهو وكيل وزارة الإعلام. جلس فعرّفونا ببعضنا فكانت البداية. بداية علاقة أصبحت متينة مع االأيام فتعدّى عمرها نصف القرن، ففسحت المجال للتعاون والتعامل بأشكال مختلفة أهمها الإذاعة، ثمّ مراسلاتي جريدة العرب، التي بعثها من لندن فكانت أوّل صحيفة عربية حقّا تصدر في المهجر. عرفت علاقتنا وصداقتنا أيامها المشرقة والضباب والسحب، لكنها لم تفقد قط الاحترام والودّ الصادقين.
عرفت فيه – رحمه الله – الذكاء الوقّاد، واللسان الصريح، والجرأة المقدامة، وفهم طينة الناس، فعرف كيف يؤخذون ومن أين تؤكل الكتف. أحبّ ليبيا بطريقته وأسلوبه، أحب الملكية وأخلص للملك إدريس لأنه – حسب فهمي – كان معجبا بدور الحركة السنوسية في نشرالإسلام بإفريقيا، وأحب كلّ العرب بحبّ المدافع عن المظلوم ومناصر الحق. نجح وفشل في مسيرته، لكنه لم يفقد قط صراحته ولسانه الطليق. ترك بصماته في وزارة العمل والشئون الاجتماعية والحج والاوقاف ووزارة الإعلام، كما ترك أثرا يُخلّد ذكره يتمثل في صحيفة العرب الغرّاء. فهل ستبقى كما أرادها؟
بالذاكرة المزيد فلي عودة إن طال العمر.