من أعمال الفنان محمد الشريف.
قصة

كبُة الصدأ

قيل الكثير عن “اللافي” وسيارته العجيبة!
حين ظهرت تدب في قرية “ارميلة ” مثل كائن غريب تفزع البهائم وتخيف الأطفال اللاهين في الجوار.
حين ركنها اللافي قرب بيتهم الطيني باتت قبلة رجال البلدة لأيام حتى بعد ان بنى لها ظليلة من سعف النخيل ليخفيها عن أعين الفضوليين.
سألوه كثيرا عن هذه الآلة العجيبة الأقرب الى لعب الاطفال فقد كانت مركبة صغيرة قياسا بسيارات “الجيب” التي عرفتها القرية حين دخلها الانجليز في الحرب الكبرى.
ياتي ايضا رجال غرباء من اقصى اطراف القرية ويسأ لون اللافي الذي ينتصب في زهو امامهم ويتظاهر بنفض الغبار العالق بالأبواب وأحيانا يمضي ابعد فيدير محركها ترحيبا بالضيوف الأكثر اهمية!

قيل ان اللافي قد استبدلها بقطعة من ذهب قديم وقيل ايضا انه استولى عليها من سائق تائه في الصحراء دون ان يهتم احد بمصير الضحية المسكين. لكن القصص جميعها بهتت مع الزمن وانصب اهتمام الناس على تلك السيارة العجيبة التي لم يجد لها احد تصنيف ولم يبادر اللافي نفسه لتسميتها حتى وهو يشرع في تفكيكها وتبديل ملامحها القديمة فبادر الناس واسموها تندرا “بالكبة” لتشابك أجزائها الغريب.
كانت صغيرة تشبه اللعبة وبسيطة بلا تعقيد : اربع عجلات ، ومقود وأبواب يمكن تخطيها والجلوس مباشرة على قطعة من الجلد المتآكل المليء بالشقوق والتجاعيد بفعل الشمس والاحتكاك.
كان لها صندوق صغير ينبت خلف الكراسي افلح في استغلاله في جلب الرمل الاسود الناعم من أودية جبال “عبود” المسيجة بالصخور والتي يقال ان دبابات رومل هابته وهي تعبر تجاه العلمين قبيل الحرب الكبرى.
لكن اللافي افلح في جلب الرمل الثمين الذي كانت تستخدمه البلدة في بناء الفساكي .
يقال ان ذلك جلب لللافي ثروة استطاع ان يدخل بها شراكة في دكان بقالة ويشتري قطيع من الغنم .
هكذا هو اللافي لاشيء حوله الا ويحمل تكهنات خصوصا بعد ان باتت كبة المعدن هي لعبته وبيته وعالمه الذي لايغادره.

اعاد فكها وتركيبها مئات المرات صار يحفظ تفاصيلها التي باتت اقل تعقيدا بعد ان تخلص من معظم اجزائها واختصرها حتى باتت مستطيل صغير ومقود وكرسي واحد سهل الفك والطوي ذاك كرسي السائق اما باقي القطع و الأبواب والزجاج الأمامي والسقف فقد خلعها جميعا وكومها في الركن .
باتت بلا كراسي لهذا من النادر ان يصطحب احد ويقله معه في تلك البلوى التي اسموها كبة. واذا اضطر فان على الراكب ان يجلس على حافة القضيب يمين السائق ويتجه الى الجنب ويدلي رجليه في الفراغ لان وسط الكبة أصبح تجويف يطل على الأرض و كثير ما تسبب في الدوار لكل من جازف واضطر للركوب ولم يتجاهل تراجع الأرض السريع تحت قدميه .!

اختفت معظم الملامح القديمة من الكبة و لم تعد سيارة بالمعنى الحقيقي
وافلح في تركيب وصلاتها ومعظم قطعها بطريقة ملتوية حتى أصبحت محصنة ضد السرقة اما الشيء الوحيد الذي لم يتغير هو صوتها المدوي الذي تتخله بعض الفرقعات احيانا .
صارت قطعة معدن تشبه سحلية مقطوعة الذيل تزحف على عجلات ومع هذا فليس من عادته ان يبقى طويلا على أي شكل .حتما سينتصب في منتصفها سيفككها ويعيد تركيبها وتصبح شيء آخر هكذا يقول كل أهل “ارميلة”.
كثيرا ما يتندر الناس ايضا بهوس اللافي العجيب بالكبة وتفكيكها وتعديلها حتى انه كثيرا مالا ينتبه لبراد الشاهي حتى يحترق وهو منهمك في الفك والتركيب. بل يتندرون انه في يوم عرسه غافل ضيوفه وانتصب في منتصف الكبة ليكمل الفك والتركيب.
لم يتوقف الا حين انتشله بعض الرجال وأعادوه مكرها لمراسم الزفاف.

لكن اللافي لم يتجرأ ابدا ويدخل وسط البلدة مذ تأسست حامية البوليس بعد اقل من عام من ظفره بكنزه الثمين. ليس خوفا من الزحام كما يشيع بعضهم بل لأنه كان يعرف انه سيقع في قبضة البوليس فتلك المركبة العجيبة لم تكن تحمل أي لوحة او وثيقة تسجيل ولم يكن هو نفسه حائزا على إثبات هوية .
تجنب منطقة السوق ووسط البلدة حتى اتم تعديلاته الأخيرة وتخلص من معظم الأجزاء و باتت الكبة أشبه بحوض مجوف يتوسطه مقعد هوعبارة عن قضيب معدني مغطى بقطع من الخيش المحشوة بالأسمال.
ابتسم بمكر و اندفع في احد الاصباح نحو السوق وما كاد يصل اول الطريق الذي يقسم السوق الى نصفين حتى اطلق رجل بوليس صفارة استيقاف وسارع رفاقه نحو الصيد الغريب. قبل ان يصل البوليس كان اللافي قد اوقف الكبة تماما وطوى الكرسي وتخلص من قطع الخيش وانتصب في المنتصف.امسك بالحافتين ورفع الكبة عن الارض سار عدة خطوات مقتربا من رجال البوليس المندهشين ثم توقف.
قال أكثرهم أناقة:
اين اوراق السيارة؟
التفت اللافي وتظاهر بالبحث عن المخاطب ثم اجاب:
هذه ليست سيارة يا سيدي . هذا “كرطون بشري” !
ضحك احد البوليس وتحسس عصاه لكنه تأكد من ان اللافي لم يكن يمزح.
فقال احدهم: وكيف تقود “الكرطون البشري” بلا أوراق؟
ضحك اللافي باستهزاء وقال حسنا:
اقرأ القانون يا سيدي فالكرطون لا يحتاج لترخيص.
أحس رجال البوليس بأنهم في ورطة فطلبوا منه المضي لمركز البوليس.
توسط اللافي كبة المعدن ورفعها عن الأرض وسار حتى وصلوا المركز القريب.
وما كاد يصل حتى هرع اغلب رجال البوليس يستطلعون امر الصيد الغريب لكتلة مجهولة من الحديد الصدئ.
سارع الشاويش الى رئيسه فخرج مستطلعا امر المركبة العجيبة.
ادى الرجال التحية وخاطبه الرجل الانيق قائلا امسكنا بهذا الرجل مع هذه الكتلة الغريبة ذات العجلات ونحتاج لرأيك سيدي.
نظر الى اللافي بتعجب وسأله:
من اين اتيت بهذه “الكرهبة ” العجيبة ايها السائق؟
رد اللافي بابتسامة ماكرة :
ياسيدي هذه ليست “كرهبة”. انه “كرطون” بشري!
ومد يداه نحو الجانبين ورفع الكبة عن الارض واستدار بها نحو الوجهة الأخرى. كانت عجلاتها الصغيرة في الهواء. وبات اللافي في المنتصف فصار كأنه يلبس تنورة عملاقة من معدن . حين التفت الى رئيس البوليس الذي صار خلفه تماما وجده يستر فمه بيده ليقاوم ضحكته.
ثم قال احدهم مبروك عليك “القوناااا”
وشرع الجمع في ضحك هستيري ثم قال الرئيس:
من الآن لن يمسك بك احد وسأعطيك تصريح بالإعفاء من الاستيقاف ..ابتسم اللافي ومشى عدة خطوات حاملا فستان المعدن بكلتا يديه حتى عبر الشارع واختفى عن حلقة البوليس ثم ادار المحرك واختفى.
مذ ذاك لم تعد الكبة حديث القرية وحسب بل باتت قبلة للسواح ايضا حين رمقها رجال التنقيب عن البترول الأجانب الذين جابوا القرية يومها وصادفوا اللافي وآلته العجيبة والتقطوا لهما الصور.
قصده كثير من السواح التقطوا معه مئات الصور كان آخرهم رتل وصل في أواخر الصيف ودعوه لصحبتهم في رحلة للأودية القريبة. ابلغه المترجم أنهم سيقصدون الجبال الغربية باكرا قبل ان يتجهوا شمالا وانهم سيقيمون حفلا في الخلاء!

ما كان اللافي ليرفض الدعوة وقد لاحظ ان سائحة بدينة قد ابتسمت له مرارا حين كانت تتأمل الكبة بفضول.
اعاد بعض الأجزاء للكبة واصلح الأضواء وتبث قطعا أخرى وصندوق مليء بالأدوات قبل ان يتذكر فجأة صديق له كان قد خدم مع الطليان اشتهر باتقانه تقطير اللاقبي قصده على عجل قبل المغيب وجهزا معا حاجيات الرحلة وحملا قربة من اللاقبي ورافقا الموكب عند الصباح .
سار الرتل عبر الطريق القبلي حتى تجاوز آخر كثبان الرمل ثم استدار غربا وبلغوا جبل “عبود” الصخري وقت الضحى.
كان يبدو من بعيد مثل كتلة واحدة مغروسة في الأفق اللامتناهي مثل قبضة من طين تحجرت اومثل شجرة وحيدة تتوسط الافق .استمد من ذاك المنظر بالذات اسمه وهيبته وكانت صخوره البركانية المحروقة الملساء تتراص في استحكام في شكل دائري كبتلات زهرة عملاقة مغمضة تنتظر الشروق.
لايوجد في الجبل الا ممر وعر يصعد في خط مائل من جهة الغرب حتى يبلغ القمة .فينبسط بعض الوقت قبل ان يعاود الانحدار نحو قلب الجبل
من ذلك الفلق العظيم في الأسفل كان البعض يجلب رملة سوداء ناعمة اهتدى اليها اصحاب الصنعة القلائل لتكون البلسم الوحيد للفساكي التي تسرب الماء.
سار موكب السواح حتى اصبح عبود على يمينهم فبدا صامتا مهيبا وما ان تجاوزه الرتل وانبسط الافق غربا وشمالا توقف الموكب واختار مساحة للمبيت. صعد بعضهم الدرب الضيق وبلغ القمة راقبوا في اندهاش جلال المشهد وامتداد الافق وسحر الغروب.

كانوا سيمكثون يوما آخر لولا انه في مساء اليوم التالي زحفت سحبا من جهة الشمال وأرسلت نسيما رطبا ثم توغلت شرقا و ماكان اللافي اورفيقه ليخطأن القراءة فثمة مطر وسيل وجو عاصف في الأفق.
اقلع الموكب واتم رحلته نحو الشمال اما اللافي ورفيقه فقد كان عليهم عبور جبل”عبود” من حافته الغربية وسلك ممره الضيق دون الدوران حوله لاختصار المسافة واستباق السيل والا حال بينهم وبين البلدة.
أي حيلة ملعونة تلك ومن ذا الذي اوحى لهما بتلك الفكرة الغبية وليس هناك ما يخشى من سيل قد يأتي وقد لا يأتي. ثم الم يكن من الأسلم لهما ان يبيتا حيث هما حتى اليوم التالي؟.
لكنه اللاقبي اللعين الممزوج بنصف زجاجة أخرى من خمر قدمه السواح.
كم كانوا مخطئين حين ظنوا انهم سيهزمون صخور “عبود” بكتلة المعدن الصدئ تلك.
وصلا الممر الضيق بعد المغيب وكان عليهما ان لايعبرا ذاك الممر ليلا
وهو الذي استعصى على القوافل في وضح النهار.
ظن اللافي انه يحفظ الممر الوعر الذي سلكه مرارا حين كان يبيع الرمل قبل سنوات.
نسى ان الأودية تتغير كما البشر ايضا. تنمو الصخور وتأتي من عدم تسد المسالك والدروب وتنتصب كالجبابرة في وجه العابرين.

سارت الكبة ببطء عبر الممر حتى بلغت المنحدر حينها اصطدم جنبها الايمن بصخرة في الطريق وتكسر المصباح الامامي المثبت على قضيب في أقصى الركن الايمن. لكنهما لم يتوقفا.
بهت الضوء وبات سواد الصخور يمتص جهد المصباح الأيسر الوحيد،
ثم هوت فجأة وباتت تنحدر بشكل عمودي .
حل الخوف محل اللاقبي في رأسيهما لكن احد منهما لم ينظر للآخر .
ازدادت سرعة الكبة واشتدت الريح وزحفت ظلمة الصخر أكثر
نادوا باستجداء على كل اسماء من حفظوا من ألأولياء لكن الكبة لم تتوقف.
تشبت اللافي بالمقود لم ترمش عيناه رغم غزارة الدموع بفعل الريح.
ثم ارتطام و دوي رهيب ملأ إرجاء “عبود” بصرير المعدن ودوي الصخور.استمر تمازج الصوت والصدى قبل ان تشتعل النار في كرة المعدن.استقرت في قاع الواد السحيق كتلة النار والدخان والأشلاء.
قيل ان السواح الملاعين قد عبثوا بالمكابح في غفلة من اللافي ورفيقه
وقال آخرون ان موكب السواح لا اثر له وان الجان هم من قاد اللافي ورفيقه لوديان “العبود” المسكونة.
هكذا كانت الكبة وسائقها العجيب نبع لا ينفذ للأقاويل والحكايات ثم أضفت تلك النهاية في جبل عبود معين جديد يشحذ مخيلة الرواة.

حين وصل رجال البلدة ليدفنوا الأشلاء لم يفلحوا الا في لملمة بعض قطع المعدن والقضبان وضعوها في كومة وردموها بالحجارة ثم صبوا فوقها الجبس البلدي فصار الشكل على هيئة قبر ابيض عملاق . دون ان يدروا وضعوا أساس لموقع جديد صار يستوقف السواح والفضوليين الذين باتوا كقطعان الودان يطلون من أعالي قمم عبود نحو الكتلة البيضاء في الأسفل والتي تبدو من أعلى كحوت ابيض عملاق في بحر اسود متحجر قيل ان دفاتر السواح تمادت في مديح المزار الجديد قائلة:
” موقع نهاية الكبة العجيبة وسائقها المهرج الذي أمتع السواح طويلا”.

مقالات ذات علاقة

ظـل اللـيل

إبتسام عبدالمولى

الإحساس المروكي

شكري الميدي أجي

الكرسي

حسين نصيب المالكي

اترك تعليق