/ن أعمال التشكيلية امباركة زيدان.
قصة

الإحساس المروكي

Embarka_Zidan_01

” أنا أفضل منك، أنت لا تساوي شيء من دوني “.

سمعت هذا وأنا أضع الجزء الثاني من كتاب ” الشياطين ” على الرف، كنت قد قرأته دون أن أجد الجزء الأول. كان الأمر غريباً، أرهفت السمع وأنا أتباطيء في وضع الكتاب.

“لا تحاول شيئاً، هكذا هي الحياة، مكانتي العلمية أفضل، درجتي الوظيفة و ترتيبي في الحياة أفضل منك “.

ثم ضحكة غريبة ومقززة، كانت ضحكة تذكرني بحدث محزن. بشخص شامت. كانت لهجة مستفزة وقاسية لأبعد حدود، كنت في مواجهة إهانة بشرية من النوع السافر. حاولت أن أتطلع لمصدر الصوت، فيما كنت في قسم الأدب – الأدب الغربي. كان الصوت نابعاً من الأسفل، كما خمنت من مركز تصوير الشعاعي. الصوت الخشن، الذي يلوح كصوت أخلاقي عميق في الإعتداد بنفسه أو الشاعر بالبرودة القاسية من كثرة المتفوقين عليه، يفرغ غضبه في شخص واحد من منظومة التراتبية الإدارية، تذكرت حديث صديق قديم:

” في ليبيا، الترابية الوظيفية، تحدد مدى عمق عبوديتك لمرؤوسيك “.

كان الأمر نابعاً من تجربته الخاصة.

لم يكن يهمني رأيه إلا من هذه الناحية.

وضعت الكتاب واقتربت من الأفريز الفاصل بين القسمين، العربي والأجنبي. نظرت إلى الأسفل و استطعت أن أرى بوضوح، تلك الفانليا المخططة، بالأبيض والأحمر وبشيء من الخطوط السوداء. كان يتراجع حتى أرى مؤخرة رأسه، شعره خاضع لمادة زيتية مثبتة، لامع على هيئة إبر، كتفه وظهره تحكيان عن شاب مليء الجسد. لم أستطع تحديد إن كان الصوت صادر عنه أو إن كان هو من يتلقي التقريع الأسطوري. عدت بهدوء إلى مقعدي حاملاً مذكرات ” كازانتزاكي – تقرير إلى غريكو” كنت قد قرأته عدة مرات. لا أعرف لم أخذتها وأنا كنت أهم بالرحيل. شعرت بأن القدر يقف في تلك اللحظة بجواري، وإنه يتوجب علي فهمه. بعد مدة من ذلك المساء من سنة 2005 أمطرت سماء بنغازي. رأيت من خلال الزجاج السميك، أشجار الدوم تلمع سعفها النخيلي، تقطر ماء لامعاً بفعل الأضواء. كان البرد يتسلل من مكان ما، إحكام إغلاق المكان و دفء الكتب لم تنجح في منح المكان الدفء الكافي. كنت أشعر بضلوعي ترتج بشكل غريب. لم أعرف إن كانت إثارة التي كنت أشعر بها بسبب الغضب أم البرد هو السبب. كنت ألبس جيداً، أخذت احتياطي بعناية تامة، كي أعمل ليوم متواصل على مدار الأسبوع. جلبت قفازين جلدين اشتريتهما بثمن جيد، كذلك جوارب ثقيلة داخل حذائي الرياضي الذي يحتضن رجلي بدفء لذيذ. طوال الطريق على إحدى حافلات الربع تمتعت بالدفء و موسيقى المروكية المنسابة. بنغازي وقتها كانت غارقة في أحزان مروكية سلسة. أراقب انسياب مياه المطر الملونة في انزلاقاتها البطيئة على الزجاج. الأحاديث القصيرة من بعض الركاب المتميزين بروح فكاهة طيبة. أغلبهم من المناطق المحيطة ببنغازي. فمواطني المدينة كانت نفوسهم متحجرة من المعيشة والكبت. المدينة تقف في جهة غير مقدرة لها. رجل صغير، بدين يحمل مجلات كثيفة في يده. نظر لكتاب الذي أحمله – أسمي أحمر. ابتسم: ” أورهان باموق “. نظرت إليه، كنت متعطشاً لأي حديث عن الأدب. فشلي الذريع في فهم الحياة المدينة جعلتني أبحث بشكل محموم عن قراء أدب. لسنة كاملة خلال ترددي على دار الكتب لم أجد شخصاً واحداً. كان الجميع يقفون في وحدة بالغة، أو محاطين بأصدقاء موثوق فيهم. الأدب بطريقة ما يقود دوماً إلى الخوف. كان البدين ينظر في وجهي و هو يتحدث عن اسطنبول.

” بنغازي قدرها مثل قدر اسطنبول، يجب أن تعيش في تناقضات هائلة، التاريخ الديني الكبير للدولة السنوسية والرغبات الملحة لشبابها في حياة ليلية جامحة “.

ابتسمت وقتها لأنني ظننته معارضاً سياسياً. قلت:

“بنغازي رائعة “.

” قدرها أن تكون مدينة كوزموبوليتانية “.

على جنباتها الواسعة، وأنا اسير ليلاً في أزقتها و شوارعها، شعرت بها تتثاءب و تتكوم في دفء فراشها للنوم، لم اشعر مطلقاً بأنها قد تنجح يوماً لتقدم على تلك المغامرة. في كل شارع ثمة أخيلة كالخيوط الضوئية لبنغازي في طفولتي. حين كنت اتيها زائراً من تازر – الكفرة، أغلب زياراتي كانت في فصل الشتاء. كان المطر هو رمز بنغازي. حين أعود للصحراء، لعمق ألف كم في الصحراء، أقول لرفاقي عند زوايا الحارات – بنغازي هي المطر. شيء ساحر وأنا أرى الرغبة تشتعل في أعينهم. لم أنجح في رؤية المدينة، كما يراها ذلك البدين. وقد تكررت لقاءاتنا مراراً على متن الحافلات وأحياناً في حديقة الضريح. كنا في كل مرة نعمل على محاولة لوضع صورة للمدينة. بالأحرى كنت أحاول أن أجعله يفعل. كان في الستينات من عمره، خفيف الشعر، يرتدي نظارات غليظة، تبدو عينيه واسعتين كعيني بقرة وديعة. فانيلته رمادية تركية – كما قال ذات مرة – سروال جينز يناسب حجمه الضخم. وجهه الطفولي يشع بذكاء فطري هائل وهدوء غريب. شعرت بأنه بدوره يبحث عن شخص يحادثه في الأدب. شعرت بأنه بالرغم من هدوئه شخص انفعالي جداً. منحني جريدة وطلب مني متابعتها. كانت ” أخبار الأدب – عدد قديم ” تأبطتها دون أن أطالعها مستمعاً لحديثه عن بعض الشخصيات الثقافية في البلدة. كان يرى بأن الأمر يغدو مؤسفاً لو حاولنا أن نضع الأدب النابع من بنغازي بجوار الأدب النابع من اسطنبول. ولعه كان شديداً لهكذا مقارنات، لاحظت ذلك بعد لقاءنا الثالث. دائما يجلب مدن كموسكو والأسكندرية ليضعها بجوار بنغازي. يرى بأن الدولة تعمل على قتل ذلك الجانب من بنغازي. الجانب الذي يجعلها قادرة على الوقوف في صف واحد مع اسطنبول وموسكو. أنها تقف بضياع شديد غير قادرة على جمع تناقضاتها الكثيفة.

” التناقض هو بنغازي “.

هكذا لخص الأمر، وفكر بشيء سحري عن التوافق الغريب الذي يحاول أن يصنعه لكي يضمن مدينة كاملة.

” لو فقط جمعنا هذا التناقض في كل شيء ضمن توافقية قابلة للنمو”.

لم أكن أحاول أن أتجاهل كلامه. كان ذلك قدر أغلب القبائل القاطنة في هذه المنطقة من ليبيا. كنت أسعى منذ أكثر من سنة للبحث عن تاريخ قومي داخل أوارق المكتبة الوطنية. متجاهلاً أحاديث أناس سبقوني في الأمر، طلاب التاريخ و المغامرين الساعين للإكتشاف الذات الجماعية، في سبيل الوقوف على مادة صلبة. كنت قد قرأت الكتب القليلة، الهزيلة في الجناح – قسم التاريخي الخاص بليبيا. عبثاً، كنت أركض بلا هدف. بضعة اسطر، سجلتها بصبر كبير في دفتري. ورفعت رأسي بجهلي، غصت بعمق في الشوارع المدينة. كانت الحياة أشبه بالأفلام الأسطورية من عالم هوليوود. كنت تلك الشخصية الدائبة في أرفف الكتب للخلق عالم خيالي، عالمي لم يكن هوليوودياً بالكامل. كنت أقف في وسط سحابة غير مكتلمة من الأفكار، الخيالي أبعد شيء عني. أفتح الكتب أقرئها بصمت كامل، متجاهلاً البرد والأصوات وإغراءات الكورنيش والحفلات الليلية، بحثاً عن خيوط هزيلة دمر البعض حياتهم لأجلها. دون أن أتساءل : لو وجدتها، ماذا بعد؟! تجاهلت حتى التساؤل وأنا أدفن وجهي في الأوراق المصورة والقديمة والكتب التي سمعت بعناوينها دون أن أراها. كنت أقضي الليالي في تفكر عما تحويه. لأحياناً كثيرة، أجد خيبة الأمل. قليلة هي تلك المرات التي اشتعل فيها رأسي نشوة وفرحاً. كنا في حافلة المتجهة لبركة – بوهديمة، الليل بدأ يسدل ببطء غلالة باردة، الأمطار قليلة، تلك الزخات السحرية، كحبات ملونة، تتكسر على زجاج الحافلة، دائماً موسيقى المروكية السلسة. لم اكن أرى الأمر إلا على نحو مغرق في الفن، ظننته ضيقاً جداً، كأن أبحث عن تاريخ التيدا داخل المكتبة الوطنية، متعثراً في الإغراءات الأدبية.

” لا تتوقع بأن شيئاً يضيع، نحن نضع لبنات بسيطة لوجودنا “.

لا أعرف أين قرأت هذا النص، ربما كتبها صديق من تازر، ربما كتبها ماركيز، لا أعرف. ما أعرفه أن التاريخ الماركيزي كان عبارة عن فعل أدبي صرف، ثورة الألف يوم غدت أمراً أدبياً بإمتياز. كنا نتحدث عن هذا في بلدتنا الصغيرة، في أحياءنا الأصغر.

الأدب هي اللحظة المتوقفة للتاريخ.

ربما بهذه الفكرة البسيطة وجدت نفسي غارقاً في قراءة ” الأخوة كارامازوف ” بحثاً عن التاريخ الصحراوي لليبيا، ثم اكتشفت كازانتزاكي بقلبه الأفريقي، ذات مرة أراد أن يُخرج فراشة من شرنقة بنفسه الأفريقي الحار. كان الأمر بالنسبة له تحدي حقيقي. سيقف لاحقاً لينظر لصديقه الشاعر في محاولاته الخارقة لإحياء شخص ميت، عبثاً. كنت أود أحياء تاريخ ميت، العاجل قاتلة.

” التناقض أمر جوهري “.

قلت له – محاولاً أن أبدو أكثر وضوحاً. حدق وهو يلوي بعض العضلات في وجهه، أعاد تنصيب نظارته السميكة وقال-

” أجل، التناقض كذلك، المعضلة هي في فهم جزئياتها “.

” وجودنا هو نوع من التناقض بالنظرة الدينية للمدينة “.

قلت بشيء من التحدي. اشتعلت عيناه للحظة وقال:

” النظرة الدينية لبنغازي – أترانا موتى؟ “.

” أعتقد ذلك، فأنت لا تحلم ببناء ديني، ولا أنا “.

” لنرى، ليست هناك معتقدات راسخة تضاد تواجدنا، أفكارنا مقموعة دوماً من قبل سلطات لا دينية – علمانية “.

كنت أحاول مجاراته، لم يكن أمامنا سوى الغموض في إطار لغة عامية لا تحتمل الكثير من الغموض، غالباً ما تتحول أحاديثنا إلى نوع من السخريات المتتالية. كان يتوجب علينا أن نعيد جملنا عدة مرات، فيما كنت شخصياً فاقداً لتلك المصطلحات العامية، أنا الصحراوي الذي لا أستخدم العربية إلا ساعات دراستي التي لا تتجاوز الأربع ساعات . كنت في غمرة حماسي أتعثر بين الكلمات، أفكاري لا تصل إلى مداها الحقيقي من الوضوح، كان البدين مهتماً، يعيد تركيب كلماتي على نحو يلوح لي غريباً، فرودوده تجنح نحو مواضيع أكثر تشعباً ودقة في استخدام المصطلحات السياسية ذات الوقع المدوي. سنة 2005 كان استخدام كلمة مثل العلمانية أمراً نادراً وبلا معنى غالباً. أظننا استخدمناه عشرات المرات، دون أن تضع اية ظلال أو تصنع أية مشاعر.

“العلمانية الحقيقية هي ما تحتاجه بنغازي “.

تلخيص أخر دقيق ابتسم بعدها مضيفاً-

” هذا أيضاً نوع من التناقض “.

فهمت تلك الفكرة عن العلمانية الغير الحقيقية التي كانت تعيشها بنغازي، محولة هوائها إلى مادة صلبة، تضغط على صدور الجميع. كنا نستعمل تلك الفراغات في جملنا. لا نتحدث بشكل كامل ولا نبتعد بشكل كامل، هذه عادة يكتسبها أي ليبي بعد مدة وجيزة في بنغازي. على الحافلات يمكنك أن تعرف جزء لا بأس به من المدينة. في ردهات المكتبة توجد فراغات مماثلة. فأنت تدخل لتقرأ ” الشياطين – الجزء الثاني ” دون أن تجد الجزء الأول. تكتفي بذلك القدر، فكرة وجود وريث للقيصر، أمر مدغدغ للمشاعر. بل مجرد تذكر تلك الأحلام الديستويفسكية تقود لأحلام غاية في الضخامة. في نهاية الرف الخامس للقسم التاريخ ثمة كتاب ضخم يتحدث عن تاريخ ألمانيا الهتلرية. كما يوجد في الرف المقابل كتاب للرحالة ألماني يتحدث عن تاريخ الصحراوي لليبيا، إنه يضع ذات الصفات الألمانية القاسية في الصحراء.

” التاريخ نفسه يعتبر قمعاً لبعض الحقائق “.

تفكر قليلاً، كانت خلفه التماعات المتوسط الأبيض ونحن في طريقنا على حافلة جليانة، المطر المتساقط في عمق البحر، سفن راسية كالقصور مضأة. كنت في حالة دفء هائلة.

” تاريخنا المقموع “.

قال وقلب نظره في مجلة صغيرة وأضاف-

” يبدو أن كل شيء مرتبط بعدم التحرر، كأن التاريخ الحقيقي لا يظهر إلا بعد الإنهيار الأخلاقي التام “.

كلمته هذه انتهت بضبط أمام محكمة الشمال، فيما كان الميناء لا يجلب سوى الشتات من أوروبا ومن العالم الخارجي. نظرت للرافعات الصدئة وفكرت في كلامه، كان انسياب المروكي هشاً هذه المرة.

” الأمر مرتبط بدخول العالم نفسه لهذه البلاد، نحن نعاني إنغلاقاً فكرياً قبل كل شيء “.

هذا ما قلته في فوضى كلامي أو هكذا أتوقع لأنه في اللحظة التالية شرع في حديث مسهب عن العزلة. كان أمر فريداً، أعرفه كباطن يدي، غالباً ما يُفرض من الخارج، ولكن الأسوء هو ما يأتي من الداخل تماماً. حين أجلس أمام احدى أكشاك القهوة أشعر بتلك الدغدغة الداخلية، أتذكر مقطعاً روائياً أو نصاً تاريخياً عن أوائل القرن الماضي في بنغازي، حين كانت الحياة اكثر فقراً وضعفاً ومشاركة، أشعر بذلك الرثاء التاريخي النابع من كلمات والدي، ومن في جيله. أنظر للسماء الرصاصية المثقلة بالغيوم، أرتشف حرارة قهوتي وأظل هكذا، مقتنعاً بأن لا شيء يمكن أن يظل مهماً، حتى الضياع. صورة الثابتة. الوجوه التي بدت أكثر طراوة، عجوز بكامل لباسه الرسمي يجلس على كرسي بجانب الطريق. أخترق الطرقات، متطلعاً لواجهات المحال، أدخل المكتبات، أتجول بعيني عبر الأرفف، الكتب العلمية، النشرات القصيرة، مجموعات التاريخية التي لا يثق أحد بها، الفهارس التي تضم العائلات والقبائل، تشرح من كان يسكن بضبط هذا الشارع أو ذاك، ابان الحكم الإيطالي الاستعماري أو فترة الملكية أو حتى أثناء الحكم العثماني. بعض الرحالة، الذين أصبحنا نسميهم بالسياح يجولون في البلدة المعزولة، يلتقطون صوراً ويرافقهم شاب ملتفح بفانيلا قطنية مخططة، تذكرني بصاحب التقريع، يعبث في جهازه الصغير، فيما يشرع آخر في الحديث عن المباني. يقال في حكاية نادرة بأن أحد السياح توقف أمام بناية وأخذ يتأمل فيها، يحدق في البلكون، فيما الملابس النسائية منشورة لتجف، الأمر أثار سخط أحد شباب، تقدم من العجوز سائلاً بسخطه –

لما تصور منزلنا؟!

التفت السائح العجوز بابتسامة إلى المترجم، حين فهم السؤال، تحدث بجمل قصيرة ومد يده لحقيبته الصغيرة أخرج صورة باهتة ألتقطت من أكثر من نصف قرن – فقال المترجم:

” كان هذا منزلهم في السابق، هذا هو في البلكون “.

الأمر يحدث في كل أرجاء ليبيا، ثمة من يحمل ذكرى لمكان فقده فيما نعيش في مكان نفتقد لذكرياته.

” دوماً التناقض يعيش بيننا “.

” ما يربطنا هنا، هو اننا جميعنا نفتقد لشيء ما “.

” دوماً، شيء كالهوية “.

” أجل، وربما يتعدى ذلك، كل شيء أتى من الخارج”.

ضحكت وقتها وقلت بسخرية:

” من هنا يأتي الجديد “.

ظننت بأنه سيبتسم على الأقل ولكنه أضاف متفكراً بحزن:

” كأننا دوماً بحاجة للتجديد، أرواحنا القلقة سريعة السأم “.

دوماً في محطتنا النهائية، في قلب الفندق البلدي أراه يسير متأبطاً جريدته، متجهاً ناحية الظلام. كنت أعرف بأنه ينزل في احدى الفنادق. لم أهتم للأمر كثيراً، الليل كان كنوع من التمرين الروحي أستمر في أدائه دون ملل. النجوم المختفية دوماً، السحب التي أشعر بها تسبح عبر الظلمة، السكون التام بعد العاشرة أسفل أشجار الدوم التائهة. أجلس على المقعد البارد لإحدى الحدائق، فيما تمر قطة ببطء شديد وآمان تام، تبحث في القمامة. تنصت لصوت دقات القلوب، ثم تنصرف. أقلب دفتري لأخط عدة أسطر. مطالع لسرد تاريخي لكتاب أزمع جمعه حين أبلغ الأربعين، أجمع صوري، أراقب ذاتي وهي تتشكل بعيداً عن كل شيء آخر. على مقعدي في المكتبة الوطنية، أختم الليل دوماً. نص تاريخي قصير كتبته خلال شهرين. مراجعي الغير الدقيقة والغير الموثوقة بجواري، نصوص مترجمة عن لغات لا أعرفها. لدور نشر لا أعرفها وأيضاً لمترجمين لا اثق بهم. ما أملكه كان فقط ذاتي التي أحاول رصدها بكامل وجودها. كنت قد أخذت موعداً مع كاتب اشتهر قليلاً لكتابته بضعة نصوص سردية، ينفي هو بأنها تنتمي لجنس الرواية، ويقول بأنه أقرب لتأملات الشخصية، نافياً أن تكون إلا شذرات سيرة ذاتية. كنت قد أخذت عنوانه من صديقي البدين. أسفل مبني المرافق كان جالساً على كرسي أمام مقهى رائع. عرفته مباشرة، كما عرفني، صافحني بيديه الدافئتين. أحسست بأني يدي باردتين جداً، سألني أن كنت أريد شرب شيء. وفي النهاية طلب لي قهوة تركية. كان يحرك قهوته بأصابعه النحيلة، فوجدتها فرصة لتأمله، في عينيه نوع غريب من السكون، وجهه الحنطي بدا مستسلماً لحركة يديه والمكان.

” كيف سقطت على أحمد؟ “.

تفاجأت من سؤاله الغير المألوف – كان يقصد صديقي البدين. لم أتوقع منه تلك اللغة العامية المجردة من ذاته الورقية، تعلثمت قليلاً وقلت:

” حافلات الربع “.

ابتسم وهو يرفع عينيه ناحيتي، مرتشفاً من فنجانه.

” أمر معقول جداً، حافلات الربع غدت كالجمعيات السرية في بنغازي “.

لم يترك لي مجالاً لتعليق أضاف قائلا-

” أحمد تحدث عنك و عن أفكارك “.

لم أعرف ما يقصد بأفكاري ، كنت لا أملك أفكاراً ولكني واصلت النظر إليه. الأمر نموذجي هنا في بنغازي فأي شيء غير مألوف يجعلك مفكراً.

” رائع أن يوجد من يفكر في الأدب والسياسية في هذا الوقت “

حضر النادل، مصري، وضع فنجان قهوتي، وكوب ماء، غادر، كان يلتزم اللباس الرسمي وكأننا في فندق ما.

” قبل أشهر شرعنا في إنشاء جلسة تستمد أفكارها من الخارج “.

كان الأمر كالصاعقة، كلمة الخارج دوماً مرتبطة بالمال والخوف. في حالتي كانت مرتبطة بالخوف فقط من دون أي مال. نظرت إليه بنظرة حاولت أن تكون موضوعية غير متلهفة.

” لا نريد ان نغامر بطرح اسماء معروفة، لأننا لا نريد أن تغدو مواضيعنا سهلة ومألوفة مثلاً فكرتك عن التناقض في بنغازي امر يهمنا “.

لم أكن أعرف بأنها فكرتي، طوال حديثي مع البدين – الذي عرفت بأنه أحمد الآن – كنت أظن بأنها من أفكاره الشخصية، جعلني أتحدث بها.

” أنت من الكفرة، أليس كذلك؟ “.

” نعم “. “

أنا أدعوك لحضور حواراتنا في مكتبة علي الفزاني، أنت تعرفها أليس كذلك ؟”.

” نعم “.

“نحن نجتمع هناك، يومياً لمدة ساعتين – الثانية حتى الرابعة، إنها فترة تقل خلالها الحركة في الطرقات “.

كانوا سبعة اشخاص، في بذلات رسمية على الدوام، ينتعلون أحذية إيطالية و يحملون تلك الحقائب الجلدية التي تضم خلاصاتهم الفكرية، سير ذاتية اقرب إلى انطباعات عن المدينة وأزقتها السرية، أرفف المكتبة الوطنية والصفحات الكتب التاريخية، دراسات عن علم الكلام وحديث دائم عن دوسوسير، كانوا يحلمون ببناء فكري خاضع للوغوس الأثيني، من الداخل. كنت اقف وسط ذلك التموج سنة 2005 في مدينة مجهولة تحاول أن تنهض كما فعلت اسنطبول ذات مرة، كان التاريخ هو اكثر مرتكزات الأحاديث. العجوز الذي أخذ دور المعلم كان يقود الأفكار بشكل هاديء، يمنح المجموعة فرصة الحديث إنما بمراقبة لصيقة، الأحاديث التي تجنح نحو السياسية توتر أمينة المكتبة المحجبة، كان يعمل على كبحها وضخها في حديث ثقافي غير مؤثر، كان على الجميع أن يتعلم كيفية الحديث دون كلمات دالة عن السياسة التي تنتهج في المدينة، المدلولات كانت غائبة وخيالية. في مكتبة علي الفزاني بجانب سوق الحوت على بعد قصير من محكمة الشمال والميناء معاً كان يتوجب على أن أتعلم كيفية القراءة مجدداً. حين إلتقيت بالبدين في الحافلة المؤدية إلى البركة – بوهديمة، كان يرتدي فانيلة رصاصية حاملاً صحيفته، ابتسم وسألني عن رأئي في المجموعة. قلت-

” إنها جديدة جداً، غريبة بعض الشيء “.

كنت قد وجدت مجتمعي أخيراً. حماسي المكبوت أشعل صدري، أردته ان يشرع في حديثه عن تمازج العواصم الثقافية في العالم. في هذه المرة كان صامتاً، عينيه مغروزتين في جريدته السياسية. فضلت أن أكمل قراءة كتابي – مذكرات كازانتزاكي. لكنني بدأت أفكر في أشياء أخرى كالزمن والخسارات، تذكرت عشقاً قديماً كنت أسعى لنسيانه، مرتبطاً بحالتي الخاصة، عزلتي. كان التاريخ يعيش حتى في تفاصيل عشقي. حين وصلت لتلك الحالة التي كنت أعبر شوارع بنغازي لكي لا أصلها – وجدتني محاطاً بظلال كثيفة من الذكريات، قمعتها مستعيداً تفكيري متطلعاً لوجهه المكتنز، بدا لي كشيء مألوف، دافئاً مثل معلم المكتبة، ذات الهدوء، سكون تام. ياقة قميصه منتصبة للأعلى تضغط على كتل المتكونة من رقبته. شعره مقصوص بشكل دقيق ، من الخلف مخففة جداً. عشت سنواتي مؤخراً باحثاً عن هدوء مماثل، كنت أفشل دوماً. مكتبتي لم تكن ممنهجة على خلق ثقافة فكرية كبيرة. في جلسته بدا كأنه واجهة لشيء أكثر جمالاً، خالياً من تلك الكلمات الثقيلة والأحلام الغير ذات جدوى. ماذا يعني أن تملك ثقافة متفوقة في مكان لا تستطيع أن تخدم الناس بها؟ في مكان لا تجد الثقافة فيها إلا أمراً سرياً يحدث على نطاق ضيق في المكتبات الخلفية.

” التنقل في حافلات الربع محملاً بالجرائد، لماذا؟ “.

هكذا سألته بصوت انتشله من تفكيره العميق. هز رأسه قليلاً وكأنه يقلل من أهمية الأمر ومسح وجهه بكفه. حين بدا وكأنه استعاد كامل وعيه قال:

” ألا ترى بأنها أفضل مكان لتفكير والقراءة؟ “.

” لكنه ليس المكان الأمثل “.

” يحدث أن نتلاقى مع اشخاص يقدر لنا أن نراهم فقط في الحافلات “.

” أتعني أنك تركت سيارتك في البيت؟ “.

” “تركتها قبل مدة، كانت أمراً عازلاً “.

” إنها أمر خاص بك “.

” بضبط، بي فقط، الأمر قاتل”.

” سمعت عن أناس يبيتون في الشوارع في أوروبا رفضاً للخطأ “.

” أتظن بأني مخطيء؟ “.

” هل تظن ؟ “.

كنت أفكر أكثر من كوني أسال. كان أمراً باعثاً على التأمل. في يده خاتم رائع من الفضة. مثل زملائه الآخرين ” أحذية ايطالية، ملابس ذات ماركات عالمية ” فكرت في أن الأمر العازل، شيء خيالي.

” لا شيء يعزلنا أكثر من المشاعر– الأفكار “.

قلت كسراً الصمت الطاريء. حدق في عيني تاركاً جريدته على الكرسي الجلدي بيننا، كنا نجلس في الصف الأخير، كيوم لقاءنا الأول ونحن في طريقنا في عمق الليلي على متن الحافلة.

“صحيح، أنت محق “.

هكذا أجاب، نزع نظارته، أعادها برفق إلى جيب سترته المفرودة على ركبتيه. ضغط على ملتقي عينيه بأصبعيه السبابة والإبهام ثم قال:

” العزلة أمر مراوغ. مجرد حدث خارجي، خطأ أخلاقي، فكرة غريبة، فعل غير اجتماعي من شأنه أن يعزلنا تماماً. لنجد أنفسنا في مواجهة عشرات اللحظات الميتة ثم نعتقد بأن ما نعانيه هو بسبب عواطفنا، فننعزل أكثر”.

كنت أعرف عما يتحدث، الأفعال الخارجية، العواطف – العزلة . قلت له وأنا أسحب جريدته الموضوعة بعناية على الكرسي الجلدي. كانت المدينة تنسحب وراء أضواء ملونة تنعكس في المطر الذي يهمي بزخات خفيفة، متواصلة:

” مع ذلك فهي ليست عقوبة سماوية، العزلة “.

قلت محاولاً أنقاذ شيء ما في داخلي.

” عقوبة! إنها كذلك “

قالها بتحفز كامل ثم ضحك عالياً. شعرت بالغضب تلك اللحظة، سمعت صوت الجريدة الملقاة في ردة فعلي اللا إرادية، التزم الصمت، كأن الامر لم يحدث ملطقاً. كنت أعرف بأن الحياة لا تمنح الكثير. تلك المعرفة لم تكن كاملة، بل وصلتها بعدة خيبات أمل عشتها لوحدي، مدعياً بأني في أفضل حال. كانت أموراً لي وحدي. فهمتها عن ذلك الصراع الذي يتحدث عنه كازانتزاكي. كان هذه احداها! كان المغني المروكي يتحدث عن الغربة والعشق، كان عاشقاً مغترباً، كنت مثله. عشت عزلتي لسنوات حتى الآن. هذا الستيني لم يعش حقائق ما يحاول الحديث عنها. حدقت في الطريق اللامع أمام الحافلة. وأنا أحاول أن أضبط لحن الموسيقي في ذهني. كان الألم كبيراً، الوحدة ناعمة ومستحكمة، كدفق شديد من الذكريات، استطعت أن أرى عـينين صغيرتين للماضي. أحكمت نفسي في وضعية مريحة، و تراجعت إلى الزجاج و ضغطت بقوة على فخذي كيلا أطق أي سباب أخر سأندم عليه لاحقاً. دارت الحافلة وظهر فندق أوزو، اختفى. قمت بصمت، عقلي يتفجر بالسباب. طلبت من السائق التوقف دفعت له ثم نزلت. رأيت الحافلة تعبر بثقل عليها السائق ينظر في وجهي و لمحت ابتسامة بسيطة. قبل أن يغادر بعد دورة صغيرة. كان محرك الحافلة يخترق صمت المكان، سرعان ما غاض وراء. فكرت في نفسي، كان الليل بارداً. توقفت الزخات، كل شيء هاديء. سرت بضع خطوات وصوت سيارة – بي أم دبليو رياضية مارة، بسرعة جنونية. رأيتها تدور حول الجزيرة، كأن جانباً منها تلامس الأرض في احتكاك قاسي. سرت وأنا أقذف من رأسي ذكريات كالصخور، ضحكة التي سمعتها ذات مرة بعيد، عشق ميت للأبد. الرغبات الصغيرة في اكتساب المعرفة. لمعان الأسنان في تلك الضحكة كأرفف المكتبات التي تلوح خاوية. الخوف والأشياء الكثيرة التي تحاول أن تخبر شيئاً. الحياة مليئة بأشياء كثيرة لا تعني شيئاً على الإطلاق. حين أكملت جولتي رأيت من بعيد الحافلة. كانت ملقاة على جانب الطريق، رايت عجلاتها المرفوعة بسبب استلقاء الحافلة على جنبها وسط الدخان. فيما واصلت الإضواء في إمتداداتها داخل الزخات الباردة. على مبعدة كان شخص يخرج من BMW المنقلبة يترنح بتثاقل. وجدت نفسي أركض ناحية الحادث. مجموعة خرجت من الفندق أخذوا يركضون معي على الإسفلت اللامع. كانت خطواتنا تقذف القطرات أيضاً.

_ انتهت _

يناير 2012- بنغازي.

مقالات ذات علاقة

موت سعد البكوش

كامل المقهور

حـكاية جـورب

محمد الأصفر

العطاء المقهور

المشرف العام

اترك تعليق