قصة

حبال سرية

التف حبل  العلاقة على عنقي فأصبت بالاختناق، فطاردتني يد خشنة كانت الأسفكسيا أخف منها على قلبي الصغير، ربما لأن اليد أتت من عالمٍ لا يتقبلني، لم أكن يومها سمعت شيئاً عن (الباستيل) وإلا أمكنني وصف ما فعلته بي وصفاً يعرفه التاريخ ويليق بالتأريخ.

كنت أشعر بأن استسلامي لتلك  اليد الخشنة المعاملة،استسلام شبيه بالموت الذى عرفته وخبرته، فكان أول شعور أحسه وأعايشه واستعمل قلبي به، إنه أول الأشياء التى تجعل القلب يضرب بعنف تمريناً له على تجارب ضرب مقبله.

 ووجدتني عالقة فى حبال العلاقة المشبوهة بيني وبين صاحبة  البطن الكبيرة التي سبحت فيها متحررة من الجاذبية والتملك والأقاويل والانحياز، وجدت أيضاً يد غليظة  أخرى تمسكني من رأسي حتى تحدد فيه جميع الحجرات التى صنعتها السباحة فى المجهول، لقد شعرت بقبضتها تضيق  تلك الحجرات  وتضييق معها نفسي.

ثم وجدت مادة لاصقة على عيني، زالت عقب الضربات التى تلقيتها على قفاي وكأني تلميذة مدرسة، بزوال تلك المادة  بدأت أول تجاربي  للبكاء، ومنذ ذلك الحين تعرفت على مالا يحصى من الأيادي الخشنة  المنتمية إلى بعضها، وأعرف واحدةً منها صفعتني على قفاي، أمسكت بي من قدمي ودلتني فى الهواء، إلى الخلف تارة وإلى الأمام  تارة أخرى، ثم دلقتني بجردل ماء بارد، فدخلت الحياة وسمعت جلبتها،  أناس وسيارات ومحاكم ومواشي وباعة وأنعام وألات وو……..

وإثر تلك الانتفاضة التى أصابتني صرت أكبر كلما وقع ما يجعلني أنتفض، حتى كبرت أكبر ممن ولدوا معي، لقد لفوا جسدي بحبلٍ طويلٍ من القماش الأبيض، وتبسم لي قلة منهم لغرض الشماتة فيمن كتلتني داخل بطنها!

ولم تفعل المرأة التى أمسكت بي فى حجرها  شيء سوى أن أشاحت بصرها عني إلى الرجل ذي اليد الغليظة التى شد بها عنق خروف كان يجره إلى الطنجرة التى لا يملأها جسمه.

كان الرجل غاضباً بلا مبرر، وقد وزع غضبه على الآخرين وظل لديه الكثير منه فلم يبخل به على أحد، حتى مسجل النفوس فى البلدية الذى ارتكب فاحشة السؤال عن الاسم الذى اختاره لثالث بنت!!

أما المرأة فكانت غاضبةً منى غضباً متواتراً، ولو كنت أحتمل ضربة منها لا تقتلني لضربتني وما تأخرت!

إن لها هى الأخرى يد غليظة جافة ألصقتني بها فى ثديها، لسقايتي سائلاً مراً ظلًت اكرهه مدى حياتي لالتصاق مذاقه بمذاق العقاب عندي، كما ظلت هى تتجمل بدره لي لالتصاق مذاقه بمذاق  الصبر عندها.

وهكذا استمرت الحياة متجهمة يغلب عليها مذاق الذنب إلى أن أتى يوم لم يكن فيه الرجل الغاضب غاضباً ولم تكن الأيادي خشنة ولا غليظة ولم يفرز

جسد المرأة أى شيء مر كالعقاب،  كما وأن السكين  كانت كبيرة وجديدة في يد الرجل، والخروف يملأ الطناجر كلها ويفيض وأنا والطفلة قريبة الشبه بي نتعلق بأطراف ثوب المرأة، فتدفعنا  عنها بيدين زادت غلظتهما، فنبتعد المرة ونتمسك الأخرى، لنراها تضع المكافآت النقدية أسفل كتلة جسدها الذارفة لسائل أبيض تذوقنا حلاوته لأول مرة من فوق شفتي الطفل الصغير الذى لم يصحو  مذ وفد إلى العائلة.

همست لأختي:

-إنه جميل.

همست لي أختي:

-أجل  ولكنه لا يفتح عينيه!

همست لأختي:

-ربما لم يضربوه جيداً على قفاه ولم يخبر البكاء بعد.

همست لي أختي:

-بما سنناديه ؟

همست لأختي:

-سننظر ما يفعل الكبار ثم نفعل مثلهم.

همست لي أختي:

-تستحقين مزيداً من الأيدي الغليظة على قفاك،ألم تسمعينهم ينادونه ب(عيل علي رأس بنتين )

همست لأختي:

-ولمَ هذا الاسم الطويل جداً ؟!

لم تهمس أختي بشيء، لم تعد تهمس على الإطلاق، فقد قررت الأسفكسيا إسكاتها وتغيير أسم الطفل الثلاثي، لم اعرف آنذاك  بأنها ستحملني وحدي  ثقل رأس الصبي الجميل الذى لم يستطع فتح عينيه  أبداً مهما حاولوا !

بنغازي 2002/2/5

مقالات ذات علاقة

لا تقرءوا كلــماتي

غالية الذرعاني

منـــصـور

صالح عباس

مــــوت السّيدة “ف. م”

المشرف العام

اترك تعليق