قصة

أقدار ساخرة

أيمان السنوسي وهلي

من أعمال التشكيلي الليبي محمد البرناوي.
من أعمال التشكيلي الليبي محمد البرناوي.


حرارة شديدة ورطوبة أشد، ورتابة عنيدة لا تتبدد، مر ذلك المساء على الجميع كغيره من مساءات أغسطس القائظة التي لا تحمل أي جديد، المدينة مصابة بلعنة اللا مبالاة، لا شيء يستثير الناس، لا الجمال ولا القبح.. لا الخير ولا الشر، غرقى في نوع من الروتين المريع الذي لا يكسره سوى أصوات الرصاص التي تخدش السكون من وقت لآخر، والسباب الذي يتبادله سائقو السيارات خلال شجاراتهم التي تحدث لسبب ودون سبب ؛ لم يكن ثمة ما يميز هذا المساء عن غيره بالنسبة لكثيرين ممن يراوغون شبح الاكتئاب، ولكن بالنسبة لأمل فقد كان يوما لن يشبه في سائر الأيام، بل سيظل نقطة فاصلة في تاريخها الشخصي..

أربع سنوات طويلة انقضت على اليوم الأول لذاك للعامل المنزلي محمد لومومبا، الذي جاء ليعمل كحارس لمنزلهم، شاب أسود البشرة بوجه لا يخلو من وسامة، هادئ وانطوائي ورشيق الحركة، كان في البدء حارسا لبيتهم فقط ومن ثم صار حارسا للحي بأكمله، وبعد ذلك تعددت مهامه وتشعبت، حتى تضمنت إحضار طلبات الجارات من الخضار والمواد الغذائية وأحيانا بعض الوجبات الجاهزة والشطائر من المطاعم القريبة، وإصلاح بعض الاعطال البسيطة في الاجهزة الكهربائية، وإيصال الاطفال للمدرسة، وغيرها من المهام التي تستجد في كل يوم، كان محمد أو لومومبا وهو اسمه الرسمي يقوم بكل ما لا يقوم به الرجال؛ بسبب الانشغال وضيق الوقت ؛ أو بسبب الأنفة المعروفة عن الرجال الليبيين، يوما بعد يوم أصبح اعتمادهم عليه شبه كلي، فتوزع رقم هاتفه عند كل الجارات بعد أن كن يتصلن بأم امل كي ترسله إليهن، بمرور الوقت أصبح هو بمثابة المحرك الاساسي لكل تلك البيوت، ومسؤولا عن المهام الحيوية التي تكون عظيمة التأثير ولكن لا أحد يدرك أهميتها تلك سوى حين يتوقف من كان يؤديها عن ذلك، إذ ذاك يختل توازن المنزل.. وهكذا فقد كان محمد هو من يحفظ توازن بيت الحاج وبيوت جيرانه كذلك.

وعلى الرغم من كل ذلك فإن حياة محمد لم تتحسن بعد أن اكتسب كل تلك الاهمية، بالواقع حياته صارت اسوأ من ذي قبل، لان أهميته تلك لم تكن مفيدة قط على الصعيد الإنساني ولم تجلب له تقديرا شخصيا، وإن كانت تفيده كعامل يتقاضى مرتبا عن خدماته ويضمن بقاءه بعمله، في البدء كانت خدماته تقابل بالامتنان والتقدير وكن – نساء الحي – يحيينه حين يمر بهن، وأحيانا يرسلن له بعضا من الطعام الذي يطهينه، ويتذكرنه في المناسبات وبخاصة في مساءات رمضان التي تدفئ الروح، إلا أن كل ذلك تغير بفعل مرور الوقت واعتيادهن على خدماته، فبعد الشهور الاولى بات وجوده هاما ومن ذاك النوع الذي لا نبذل جهدا لنضمن استمراره، ككثير من النعم التي نتوقف عن الامتنان لوجودها ؛ لأننا اعتدناها ولم نعد نرى فيها نعمة تستحق الشكر.

ولأنه كان مدركا لموقعه في نظرهم فلم يتوقع الكثير، كل ما كان يريده هو أن يستمر بالعمل عند هذه الأسرة ريثما يجمع المال الكافي لعبور البحر، لذا كان يعمل بهدوء على شتى المهام الطارئة في النهار ويمضي ليله أمام باب الفيلا برفقة كتاب يزجي به الوقت، ويشغل به عقله وتفكيره كتعويض عن الحياة الاجتماعية التي يفتقدها كثيرا في عزلته تلك، كان محمد بطبيعته انعزاليا نوعا ما، ولكن حياة العامل الغريب ضاعفت انطوائيته وجعلته ريابا كثير الحذر، لذا حين فوجئ ذات ليلة برؤية أمل مع حبيبها في الشارع الخلفي، تظاهر بأنه لم ير شيئا، كان كمن بوغت، تفصد جبينه عرقا وعلا وجيب قلبه أكثر منها في تلك اللحظة لأنه رأى شيئا لا يفترض به رؤيته، فهو مجرد عامل مغترب وحواسه قد تصبح خطرا عليه، بهت بالموقف وحين استرد انفاسه، وجلس في حجرته أصبح مرتعبا من فكرة انها قد تبادر فتتهمه بأي شيء لتخرسه، وحين لاحظ أنها بدل أن تنقم عليه أو تعاقبه عقابا استباقيا باتت تقدر صمته أصبح يشعر بالامتنان الاخرس تجاهها.


بالمقابل كانت هي ممتنة له لأنه كتم سرها، ولم يقم باستغلاله كما يتوقع من تجار الاسرار، ولأول مرة باتت ترى فيه الانسان وتحترمه، هي التي لم تكد تلاحظه من قبل أصبحت الآن مدينة له ؛ لأنه كتم سرا كان سيكلفها انكشافه الكثير.

في مساء اليوم التالي حضرت له فنجان قهوة مع قطع بسكويت وأخرجته له بنفسها، طرقت باب الحجرة ثم حين تأخر بفتح الباب وضعت الطبق وذهبت لتجلس في الحديقة قليلا، أما هو فقد هاله الموقف حين رأى انعكاس صورتها على زجاج النافذة وهي قادمة نحو حجرته، تظاهر بالصمم حين طرقت الباب ولم يفتح، وحين فتح الباب بعدها بقليل ببطء شديد ليحمل الطبق للداخل فاجأته قائلة له: أنت لست نائما إذا.

أطرق ثم أجاب بعد ثوان من الصمت: الآن استيقظت.. شكرا على القهوة.

الموقف برمته كان مربكا وغير اعتيادي، أن تقف ابنة السيد الغني ذو الوجاهة مع العامل الافريقي وتحادثه وتحضر له قهوة بيديها اللتين ما اعتادتا خدمة أحد، لذا كان الارتباك الذي ظهر في سلوك محمد الأخرق طبيعيا جدا.

بعد دقيقة جاهدت فيها الخجل قالت بصوت خفيض:

– أشكرك على موقفك النبيل، أعني.. أنت تعرف عم أتحدث.
– لا عليك، أفهم.. أنا لم أر أي شيء.

صمتت قليلا ثم أردفت:
– أعرف أن الأمر قد لا يهمك ولكنني تركته، أعني الشاب الذي كنت برفقته، لقد خرجت إليه البارحة بسبب إلحاحه؛ ولأنه هددني بأنني إن لم أخرج إليه سيصرخ ويتسبب لي بفضيحة لذا خرجت وأنهيت معه كل شيء.

لم يرد عليها بشيء، كان مرتبكا ومحرجا ولم يعرف ما الذي يجبرها على أن تخبره أو تبرر له، أجابته في ذات اللحظة، كأنها سمعت ما كان يدور برأسه:
– أخبرك لأنني عرضتك للخطر ولخسارة عملك دون قصد، لتعرف بأن هذا لن يتكرر كي لا تصبح كفاءتك وأمانتك موضع شبهة عند بابا.

منذ ذلك اليوم، أصبح الود الذي تبديه أمل لمحمد ظاهرا للكل، ورغم ذلك فلم يعترض أحد على أحاديثها معه، ولا على فنجان القهوة الذي تحمله إليه كل مساء، في البدء كانا يتحدثان على استحياء وباقتضاب، ثم تشعبت الاحاديث وتنوعت فتحدثا عن كل شيء تقريبا، كانت الأحاديث تولد تلقائيا ودون بذل أي جهد، يقفزان من موضوع لآخر دون أن يتسبب ذلك في بترها أو تشويهها، وكأنهما يقفزان من شجرة يقطفان منها ثمرة حلوة كثيرة العصارة ثم ينتقلان للأخرى دون أن يشبعا، وذات مساء سألته عن عائلته وأهله، وعما إذا كان مرتبطا أو له زوجة وأطفال في بلاده البعيدة، راوغ دون أن يمنحها جوابا ودون أن يدري قدح فضولها فأضرم فيه نارا لن تطفئها سوى روايته للحكاية، بعد عدة أيام تخيلت خلالها سيناريوهات عدة أعادت طرح السؤال بإلحاح عنيد، فرضخ لفضولها وحكى لها حكايته.

اخبرها عن والده:
والده اسمه دوغلاس، وهو مسيحي كاثوليكي من بلدة صغيرة اسمها ميتيانا في أوغندا، ولد في أواخر الأربعينيات من القرن العشرين، وكان من أوائل التلاميذ الذي اختيروا للدراسة في المدرسة البريطانية التي انشأتها حكومة الاستعمار في العاصمة كمبالا، وعلى الرغم من أنه دخلها متأخرا نسبيا إلا أنه برهن على ذكائه ونجابته فكان من أوائل الصفوف، وحين تخرج من المدرسة عين مدرسا في مدرسة بعيدة في ضواحي مدينة ليرا لأن الدولة كانت حريصة على ان تنشئ المدارس بعيد الاستقلال؛ واحدة على الأقل في كل مدينة وكان سياستها تنص على أن المتعلمين أن يشاركوا في تنمية الإنسان أينما وجد ؛ وهناك شغف حبا بفتاة مسلمة تدعى أيشا، وأحبته هي حبا عظيما كذلك، ولأن الاسرتين ترفضان هذا النوع من الاقتران بين المسلمين والمسيحيين قررا الفرار معا، فهربا معا نحو العاصمة كمبالا حيث عمل في عدة وظائف هامة في بعض أجهزة الدولة حديثة التأسيس، وحين استولى عيدي أمين على الحكم اصبح حانقا من الأحوال وهو المثقف الحالم بدولة مدنية ديمقراطية فانضم للمعارضة وعندما اندلعت الحرب الاوغندية في عام 1978، كان يدعم الجبهة الوطنية لتحرير أوغندا بشكل سري ويجند لها الشباب، ويكتب المنشورات، ويصيغ الخطابات حتى قرر ذات يوم أن يحارب مع الجبهة ضد قوات الرئيس أمين جهارا ؛ مما سبب خلافا مع والدته أيشا، التي كانت تحب الرئيس حب عبادة، فاتهمته بالخيانة وبالاستهتار وتركته إثر هذا الخلاف الذي لم يدم طويلا حيث إن الموت خطفه على يد مجند ليبي كان يحارب مع الرئيس في مدينة ماساكا ، آنذاك قررت أمه – والتي كانت حاملا به أخيرا بعد 6 أعوام من الزواج – الثأر لأبيه، ربما إرضاء لروحه التي أوجعتها حين كان على قيد الحياة، وربما لتخرس بذلك صوت ضميرها المعذب، فانتقلت به بعد أن وضعته وهو بعد رضيع إلى قرية صغيرة في أطراف عنتيب، حيث كانت تستغل عملها ببيع الثمار التي تجنيها من المزارع القريبة للاحتكاك بأفراد الكتيبة الليبية وجمع المعلومات وتسريبها للتنزانيين وللمعارضة، توالت الأحداث ودارت رحى الحرب في عنتيب واشتعل كل شيء، تساقط الرجال كالذباب في كلا الجانبين، حصدهم الموت سويا ووحدهم رغما عنهم، وبعد ليال طويلة نابت فيه نيران القذائف عن الشمس في إنارة عنتيب انتصرت المعارضة تحت غطاء جوي اسرائيلي، وعندما فر الجنود الليبيين الصغار المذعورين والمنهكين ممن زج بهم في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بعيدا عن وطنهم وأمهاتهم ودفء الأسرة وضحكات الأصدقاء أمام نيران المدافع التنزانية والاوغندية المعارضة وتشتتوا وضاعوا في الغابات وأصطادهم القرويين الحانقين واحدا إثر واحد ؛ لينتقموا من النظام الجائر عن طريقهم، او التهمتهم الوحوش البرية الجائعة، كانت هي تكابد الضياع وتعيش صراعا داخليا، كانت ترى كيف كان الشعب المسعور يفجر غيظه وغضبه في وجه هؤلاء الجنود المذعورين الذين كانوا يسحلون أحيانا وهم أحياء، كانت تبكي طويلا كل ليلة حتى يطلع الفجر كمن لا سبيل له لتكفير ذنبه إلا بالدموع ، وتتوه نهارا بين فرح خبيث لأنها ثأرت لزوجها وبين تعاطف إنساني وأسف على مصير هؤلاء الذين يدينون بدينها، كانت تستغفر كثيرا جدا حين تتذكر أنها خانت دينها وتتساءل عن سر تناقضها هذا، هي التي تركت زوجها لأنه يحارب رئيسها ثم شاركت في قتل من يقاتلون لاجل الرئيس ذاته، حتى في النقاشات التي كانت تخوض بها مع النساء الثرثارات كانت تائهة، فكانت تارة مع المعارضة التي دعمتها بشدة، وتارة أخرى تدافع عن أمين ونظامه وعن الفدائيين الفلسطينيين، تسرد الحجج وتدحضها في آن، في مبارزة أزلية لن يعرفها سوى من علق يوما بين مطرقة العقل وسندان القلب.

وسقط نظام أمين وفر الرئيس الأبدي، وتولت المعارضة الحكم فرجعت للعاصمة حيث تم تكريمها كزوجة مناضل ومناضلة وخصص لها راتب ضئيل لتعتاش منه، ولكن الحياة كشأنها بعد كل الأزمات لا تعود تشبه نفسها في شيء ؛ لأن تبدل الاوضاع السياسية يحدث تبدلا رهيبا في كل شيء، حيث تتنكر كل الأشياء آنئذ لذواتها القديمة، فوجدت آيشا نفسها دون أهل ولا سند، تربي طفلا صغيرا لوحدها في بلد غير مستقر ، وبعد ثلاثة أعوام عجاف قررت أن ترجع لأسرتها التي تبرأت منها، عادت لهم حاملة في يدها ابن ذاك النصراني الذي ” أغواها ” فهربت معه، لم تتقبلها الأسرة بالطبع وفي أول لقاء بهم ضربها إخوتها حتى أوشكت على أن تسلم الروح بين ايديهم، بيد أنها لم تبك ولم تطلب الصفح، ففي قرارة نفسها كانت مقتنعة اقتناعا تاما بأنها لم تخطيء، كانت تتلقى الشتائم والضربات بصمت موجع، وحده الصغير كان يبكي ويصرخ ويرد على شتائمهم بأخرى، وفي النهاية حين تركوها ” كالكلبة ” كان يرجوها كي يرحلا عن هذا المكان إلا أنها طلبت منه أن يجلس بجانبها بهدوء وأن يصمت، وحين ارتفع صوته بالبكاء صفعته وأجلسته بالقوة، ظلا على هذه الحال لثلاث أيام متتالية، ينامان في العراء ويرسلان نظرات متوسلة حتى رق قلب أمها، فأرسلتها لبيت خالتها لتظل هناك ريثما تهدأ النفوس التي هدأت بالفعل بعد شهرين حين رضى والدها أخيرا أن تسكن قريبا منهم على شرط أن تربي ابنها تربية اسلامية، فكان محمد لومومبا نصراني الأب ولكن باسم اسلامي، وهكذا عاش بين أخواله في قريتهم ذات الغالبية المسلمة، وكانوا يعيرونه بكونه ابن النصراني رغم أنهم ينادونه باسمه المركب ” محمد لومومبا “..

هكذا اختصر حكاية والده ووالدته، وبدأ حكايته هو:
– ولكنني لست مسلما ولا مسيحيا، بالواقع أنا أرفض هذا النوع من التصنيف الذي لطالما ارتبط بالمجازر، لأن كل الفظاعات التي يرتكبها البشر هي نتيجة التصنيف، فحين تقسم الناس إلى أقسام يبدأ الجنون الذي ينتهي بأشنع الجرائم التي يتصورها عقل، وأنا تعلمت ذلك بطريقة مكلفة من خلال تاريخ أسرتي وبلدي الذي أرهقته الكراهية المتبادلة بين ابناءه ولا أرغب بتكرار ذلك التاريخ، صحيح أن اسمي الرسمي لومومبا ولكنني محمد أيضا وربما سأكون مستقبلا ديفيد أو ايزاك، كل هذا ليس سوى قشور، ما يهم هو أنني أعرف الله وأصلي له وأتمسك بالتزامي الأخلاقي.. أتعرفين!! أنا لم أعرف أبي سوى من حكايات أمي المغرمة به والتي قد يفقدها الهيام جزءا كبيرا من واقعيتها، ولم أشعر بدفء العائلة لأن أسرة أمي لم تتقبل وجودي قط، حين أتممت سنتي السادسة درست القرآن على يد شيخ سوداني كان يقطن بالقرية، وتعلمت الكتابة والقراءة بالعربية ثم التحقت بالمدرسة وأنا بسن التاسعة ببلدة ليرا التي تبعد عن قريتنا مسير ساعتين كنا نمشيها يوميا ذهابا وإيابا، وعندما أكملت الابتدائية قررنا أنا وأمي ان أكمل الدراسة في كمبالا، وتسجلت بمدرسة هناك ولكن قبل أن أرحل طلبت مني والدتي فجأة أن أفوت تلك السنة لأعمل مع جدي بالحقل، وأؤجل الدراسة للسنة القادمة، وهذا ما رفضته أنا، لأن طلبها لم يبدو لي منطقيا.
كانت لدي أحلام كبيرة وكنت مندفعا اندفاعا عارما ولم أشأ ان اضيع سنة اضافية في تلك القرية البائسة، تجادلنا ثم صرخت في وجهها وخرجت وسافرت بالفعل على متن باص متهالك للعاصمة؛ وبعد ثلاث أسابيع على وجه التحديد أتاني شخص من قرية والدتي ليخبرني بأنها توفيت، كانت تلك أقسى ضربة يوجهها القدر لي، شعرت بأنها ما رفضت مغادرتي إلا لشعورها بأن رحلتها القصيرة في هذه الحياة كانت على وشك الانتهاء، لم ابك، لم آت بأي رد فعل، كنت مذهولا وحسب، بادئ الأمر لم اصدق، كان الامر أقرب للنكتة السمجة بالنسبة لي، كنت واثقا بأنني سأعود من كمبالا لأجدها أمامي، بضفائرها السوداء التي تنافس الليل ووجهها الذي كان قمري وشمسي وأنفها الشامخ وعينيها الذي يستلقي بهما حنان الكون كله.

ولكنها كانت قد رحلت وتركتني وحيدا وأنا لا ازال هشا وغض العود، عدت ولم أجد سوى الفراغ المرعب الذي خلفته أمي وراءها، وضميري الذي سيظل يبكتني عمري كله، ودموعي التي لن تكفر عن ذنبي تجاه أمي التي لابد أنها بكت بحرقة ليلة رحيلي عنها.

بعد موت أمي استشعرت من سلوك أخوالي أنهم يرغبون بشدة بإخباري صراحة أن لا شيء يربطني بهم بعد اليوم، فقررت أن أوفر عليهم عناء ذلك وأرحل من تلقاء نفسي، كان شعوري بالوحدة يثقل علي كثيرا، ومرارة الفقد تهدم روحي هدما، وكرد فعل فكرت بالبحث عن جذوري والتعرف إلى عائلة أبي، وحين استفسرت اهتديت اليهم بسهولة، وجدت إثنين من اعمامي على قيد الحياة، وقيل لي أن الثالث مات مقتولا في الحرب الأهلية، وأما جدي وجدتي فقد رحلا منذ زمن بعيد، استقبلوني بجفاء ظاهر ولم يحسنوا وفادتي كما توقعت، وخلال الأيام الخمسة التي قضيتها بينهم كانوا ينادونني بالمسلم، مؤكدين على صدق الحكايات التي سمعتها عن كرههم لأمي ورفضهم لها، ولهذا رحلت في اليوم السادس بهدوء، لأعود غريبا كما كنت، مسلما بين المسيحيين ومسيحيا بين المسلمين.

عدت لكمبالا، كنت أدرس في المساء وأعمل في الصباح؛ عملت في كل شيء من المزارع والحقول إلى الخياطة وتفصيل الملابس عند خياط هندي، عملت أيضا في صيانة الاجهزة الكهربائية وحتى بخدمة المنازل، فعلت كل شيء ممكن لأعول نفسي وأؤمن مصاريف دراستي، وحين تخرجت من المدرسة بعد جهاد طويل عملت على تطوير لغتي الفرنسية؛ عل ذلك يفتح لي أبوابا يطل علي الحظ من خلالها، وسعيت أيضا للحصول على منحة تمكنني من إتمام دراستي الجامعية إلا أنني لم أوفق في ذلك، فبدأت أدرس على حسابي إلا أن تكاليف الدراسة كانت أكثر مما أطيق فتوقفت عن الدراسة، وهكذا قادني القدر لأصبح مدرسا خصوصيا لأبناء الأسر الميسورة -رغم أن الميسور عندنا ليس هو ذاته الميسور عندكم- ولكن كان ما أجنيه كافيا لإبقائي على قيد الحياة والأمل، وفي الأثناء ذهب صديق لي في بعثة تبادل ثقافي لألمانيا قضى بها أربعة أشهر ثم عاد ليخبرنا عن تلك البلاد، عن تاريخها وعراقتها، عن فلاسفتها وأدبائها، ومبانيها وبناها التحتية وجامعاتها والحدائق ومكتباتها وحتى نساءها، حكى لي كل شيء عاشه هناك من تجارب ومواقف، حتى المشاعر التي اختبرها وهو يرى كل ما رآه لأول مرة حكاها بمهارة جعلتني أتخيل أنني أنا من عاشها، باختصار.. لقد صور لي ألمانيا على أنها الجنة التي كنت أحلم بدخولها حين أموت بعد أن أغادر دنيا الشقاء هذه، بدأت فكرة الهجرة تنبت في رأسي منذئذ، خاصة أنني كنت أسمع عن فلان الذي وصل لإيطاليا وعن فلان الذي يعمل في مصنع في بريطانيا ويتقاضى راتبا كبيرا، سمعت عشرات القصص عن أشخاص ابتسم لهم القدر حين غادروا أوغندا، لذا حاولت أن أجمع المال الكافي للرحلة، ولكن ذلك استغرق مني 5 سنوات كاملة ظللت خلالها أعمل – اعذريني على التعبير – كالبغل لأني وحيد دون ممتلكات ذات قيمة لأبيعها ولا أسرة تستدين لترسلني ولا ام تجترح معجزة لتدعمني.

خلال ذلك تجاوزت الخامسة والعشرين من العمر، وتعرفت على فتيات كثيرات، إلا أن أي منهن لم تفلح في جعلي أنسى حلمي وأقرر الاستقرار في بلدي، كنت دائم الشعور بالاغتراب ولم أجد وطنا لا في قلب أنثى ولا في وطني الحقيقي، لذا عزمت أمري وقررت الهجرة، وظللت خلال ذلك أحاول بالطرق المشروعة إلا أن كافة الدول التي طلبت منها اللجوء لم تقبل بذلك؛ لأنها لم تعد تريد عمالة جديدة وأغلقت ذاك الباب، ثم حدثت عدة مشاكل سببها مهاجرون فازدادت الامور سوء، لم يكن ثمة خيار سوى الهجرة بطريقة لا شرعية وكنت أتوقع ذلك مسبقا، وذات صباح استيقظت بعد ليلة عاصفة شنت بها قوات الشرطة حملة ضد قاطني أحد الأحياء التي كانت غالب منازلها مواخير يملكها رجال معروفون وذو وجاهة، وكانت جل العاملات فتيات قاصرات من الأسر الفقيرة، وانتهت الحملة باعتقال الفتيات بدلا ممن كان يستغلهن، شعرت بأني اكتفيت من كل هذا البؤس والجنون والقبح، وخلال أيام جهزت كل شيء وتوجهت للسودان ومن السودان دخلت لمصر عن طريق الصحراء، ومن هناك حاولنا ركوب البحر من الاسكندرية بعد أن دفعنا كل ما كنا قد جمعناه طوال سنين، ولكن اكتشفنا بعد فوات الأوان أن ما جرى كان عملية نصب كبيرة شارك فيها المهربين الذين هربونا من السودان، وبعد يومين من الجوع والإعياء قضيناهما أنا ومن معي في التسكع في شوارع الإسكندرية، قبضت علينا الشرطة، وبعد رحلة من العذاب تم ترحيلنا من قبل السلطات كل لبلده، فعدت لأوغندا من جديد مفلسا إلا من القهر والخيبات.

ما حدث لم يكسرني، وعلى غير المتوقع دفعني لخوض تحد مع نفسي، فبدأت أعمل شتى الأعمال بإصرار كبير، وأتممت دراستي الجامعية، وبعد مدة من العمل تسجلت للدراسة في إحدى الجامعات في جنوب أفريقيا بنظام المراسلة، وظللت مواظبا على دراستي حتى تخرجت ونلت شهادة الماجستير، كان فرحي في يوم تخرجي غامرا وباذخا، كان ذلك إنجازا عظيما بالنسبة لي، ولأول مرة سمحت لنفسي بأن أثمل وأرقص وأغني بصخب، ولكنني في نهاية احتفالي غرقت في بكاء مر، ظل غياب أمي ووحدتي وحقيقة أنها ماتت وهي غاضبة علي يجثم فوق صدري، ضحكت حين تذكرت كل ما مررت به دون أن ينال من صبري، هنأت نفسي ثم بكيت مجددا، كان يوما لا ينسى لفرط ما قفزت فيه مشاعري من أقصى الفرح لأقصى الحزن والأسى.

ورغم أنني حصلت على وظيفة جيدة وراتب معقول نسبيا؛ إلا أنني كنت مسكونا بحلم البحث عن الوطن، وطن آخر أكون فيه غريبا حقا وأبدأ به من جديد، سافرت مجددا للسودان ومن ثم عبرت الصحراء ووصلت لليبيا عن طريق الكفرة، ومن هناك سافرت لمدينة سبها التي عملت بها لمدة من الزمن، كان العمل في سبها جيدا وتعرفت هناك على كثير من أبناء بلدي الذين يعيشون ويعملون هناك، ولكن ما كان يرعبني في تلك الآونة هو تكرار عمليات السرقة التي يتعرض لها العمال الأفارقة في منازلهم ليلا من قبل بعض الشباب، لذا اتفقت مع مواطن ليبي أعرفه على أن يهربني لطرابلس مقابل ألف دينار ليبي، ووفى لي بوعده ولكن ليس بشكل كامل، فانزلني في مصراتة وكفر عن تقصيره بأن عرفني على إخوة سودانيين يعملون في إحدى المصانع هناك، وبالصدفة كان المصنع بحاجة لعمال جدد فاخبروا المشرف عني ووافق على تشغيلي وبدأت العمل هناك من فوري، واستمررت به لعام كامل ثم أتيت لطرابلس وكان معي رقم هاتف شاب سوداني هو أحد أقارب زميلي في المصنع، اتصلت به حين أصبحت بطرابلس وبالفعل جاء الشاب ورافقته للغرفة التي يستأجرها هو وثلاث من اصدقائه في أحد البيوت بالمدينة القديمة، وبعد أيام استطاع أن يؤمن لي عملا في جهاز النظافة، العمل لم يناسبني ولكنني رضيت به لعدم وجود بديل، وبعد شهرين تحصلت على فرصة عمل بمحطة وقود فقبلت بالعمل فورا، كنت طوال المدة التي عشتها بليبيا قد نسيت علاقتي السيئة بها والتي ابتدأت قبل أن أولد، نسيت أن والدي قتل على يد جنود ليبيين، وأن القذافي أرسل أبناء شعبه ليقتلوا أبناء شعبي، ونسيت أن أمي شاركت في قتل هؤلاء الجنود، كل ذلك كان جزءا من ماض بغيض هو ماضي الشخصي وماضي بلدي، ماض تناسيته بكل ما أوتيت من قدرة على النسيان، ولكن ما ظهر لي لاحقا أن الماضي لن ينساني بل سيظل ماثلا أمامي في كل خطوة أنوي القيام بها.

اعتدت تعالي الليبيين علينا نحن ” الأفارقة” واعتدت كوني ” العبد” ولم يكن ذلك يضايقني في شيء، فحتى الشتائم أصبحت مع الوقت شيئا عاديا لا يثير بي أي حنق، ناهيك عن كوني عاجزا عن الاحتجاج على سوء المعاملة وهكذا كنت أتقبل الإهانات مكرها، وفي كل مرة أمني نفسي بأن الفرج قريب وأني سأغادر قريبا وإلى الابد، في إحدى المرات جاء إلى محطة الوقود شاب ظاهر العجرفة والتهور، تجاوز الشاب من كان قبله وطلب مني مخاطبا إياي بالعبد أن أملأ له الخزان فورا، فأجبته بأني سأملأه له فور انتهائي من الزبون الذي كان قبله، ودون أي مقدمات تقدم مني ولكمني على وجهي وبدأ ينهال علي باللكمات والشتائم، رأيت في عينيه كرها لم يسبق لي أن رأيته في عيني انسان، كره جعل عينينه وحشيتين ومرعبتين كعيني شيطان، كنت مذهولا لدرجة أنني لم أحاول حتى أن أحمي وجهي، وقبل أن أتخلص من ذهولي أخرج سكينا صغيرا وطعنني به، وللأسف لم أكن وحدي المشدوه فكل من كان حاضرا بهت

من هذا العدوان الغريب، وأول من أفاق من هول الصدمة كان والدك ” حاج بدر” فهرع إلي ووقف حائلا بيني وبين الشاب الذي كان يرغي ويزبد متوعدا إياي بالقتل لأني ” رفضت ان اخدمه”، وبعد أن قام بتهدئة الشاب وإرساله بعيدا طلب مني والدك أن آتي معه ليسعفني في المستوصف القريب، لم أعرف ماذا فعلت حينها وبماذا رددت عليه، الصدمة وتدفق الأدرينالين أوقفا عقلي بشكل مؤقت، ولم أستعد صفاء ذهني وإدراكي التام إلا حين كانت الممرضة تقطب جرحي، هناك عرض علي والدك أن آتي للعمل في المنزل لأنه يبحث من مدة عن حارس يحرس منزله بالليل، قال لي أنه أب لفتيات ولم ينجب أولادا ذكورا، ولأنه يعمل بالليل لا يأمن على أسرته، ثم اردف قائلا بأن العمل بالمحطة لم يعد مناسبا لي بعد اليوم فوافقت وجئت لمنزلكم.

فيما بعد أخبرني الحاج انه حين سأل عن الشاب اتضح انه من أسرة…. وأبوه كان ضابطا كبيرا في الجيش قتل في الحرب الأوغندية، وبأن عمه مسؤول مهم في الدولة وكان هو الآخر من المحاربين المشاركين في حرب تشاد وأوغندا، وأنني لولا لطف الله لكنت قضيت بين يديه لأنه معروف بكرهه للأفارقة وأن ثمة حكايات تروي أنه قتل إثنين منهم، ضحكت وهو يحكي لي كل هذا، أضحكني كيف أن ما تتجاوزه لا يتجاوزك بالضرورة، الغبي وحده هو من يظن أنه قادر على فهم جنون هذه الحياة ؛ ومن يعتقد بأنه قادر على التخلص من جنسيته الملعونة وتجاوزها أكثر غباء، وقد كنت وافر الغباء هه.

هكذا اختصر لومومبا قصته وحكاها لأمل دفعة واحدة بعد أن ألحت عليه مرارا، لم يكن مدركا للسبب الذي يجعلها مهتمة بمعرفة حكايته كل هذا الاهتمام، ولم يكن مدركا أيضا للسبب الذي جعل كل تلك الكلمات تنهمر من شفتيه بتلك السهولة والسلاسة، ربما كان ظمأه للتقدير الذي لم ينله من سنين، وربما رغبته بالبوح، أو بأن تراه ليس كمجرد عامل افريقي بل كإنسان متعلم ومثقف وحامل لشهادة عليا ويجيد خمس لغات، لم يكن يطمع لأكثر من نظرة الاحترام التي رآها في عينيها، كان ذلك أكثر من كاف بالنسبة له، كان جد راض.

أما أمل التي تأثرت بقصته بالغ التأثر فقد شعرت بتفاهة حياتها إزاء حياته الملأى بالأحداث والأوجاع والأحلام، لأول مرة تشعر بضآلتها أمام شخص كانت طوال اربعة أعوام تتجاهله وكأنه غير مرئي، أو كأنه روبوت وليس إنسانا من دم ولحم وآمال وأحاسيس، تمر به حين تذهب للجامعة وتعود منها وترسله أحيانا لمحل البقالة أو تطلب منه رفع شيء ثقيل بداخل المنزل دون أن تحتك به على الصعيد الإنساني، كان مجرد ” العامل” ولا شيء عدا ذلك، ولكنها اليوم تكتشف بمرارة أنها لم تكن سوى مخلوق متعال وبائس يعتقد بأنه أفضل فقط لأنه ولد في أسرة ميسورة وبلد نفطي، قارنت حياته مع حياتها فكانت النتيجة مرعبة، فتاة مدللة عالقة في قصة حب فاشلة وتدرس مجالا لا تحبه بل تدرسه فقط لتكون حاملة لشهادة دون أي طموح آخر، وأكبر أحلامها أن تتزوج فقط كصديقاتها وتسافر مع زوجها للسياحة لتري صورها لبنات العم والخال ؛ كي ” تقهرهن “.

خواء حياتها تبدى لها فجأة، وتعرت أمامها حقائق كثيرة خلال هذه المحادثات المسائية، ويوما إثر يوم كانت تلاحظ تبدلا في سلوكها، فجأة أصبحت تهتم بالتنقيب في البشر دون الاكتفاء بظواهرهم، وتسعى بجد لتتخلى عن وهم التفوق، كان الطموح ينسج نفسه بداخلها، فأصبحت تدرس أكثر من ذي قبل، وسجلت لتدرس اللغة الإنجليزية في العطلة، وبدأت تقرأ في التاريخ والأدب، حتى الأسرة لاحظت كل ذلك ولاحظت الأحاديث المطولة مع العامل، وكانوا يتندرون عليها بسب ذلك ولكن دون احتجاج، لأنهم يعرفون أخلاق محمد جيدا ولأنهم لم يسبق لهم أن تعاملوا معه على أنه رجل بل كان دائما يعامل على أنه ” العامل الإفريقي “


هذه العلاقة الإنسانية التي خلقت بينهما علمتها ما لم تعلمه إياها المدارس والجامعات، ولن يعرف من تندروا عليها أو توهموا يوما بتفوقهم على محمد كم فاتتهم دروس لن يعرف ما كان يمكن أن تغير بداخلهم من أشياء سوى أمل.

مقالات ذات علاقة

مصرف العين الحولاء

رضوان أبوشويشة

أخر ثواني

مسرحية الحياة

رشاد علوه

اترك تعليق