متابعات

خليفة التليسي مؤرخًا… مقاربة أولية 1930 – 2010

الأستاذ عمار جحيدر

الثلاثاء الأول من كل شهر له نكهة خاصة، إذ يجيء ويجيء معه موعد النشاط الثقافي للجمعية الليبية للآداب والفنون “أصدقاء دار حسن الفقيه حسن” حيثُ كان اللقاء هذا الشهر مع محاضرة قيمة بعنوان “التليسي مؤرخأ… مقاربة أولية 1930 – 2010” قام بإلقائها الباحث والدارس الاستاذ عمار جحيدر، وكما لاحظنا فقد اختار الباحث أن يتناول شيئا يسيرا وجانبا معينا من اهتمامات هذه الشخصية الوطنية، فالتليسي كما هو معلوما للكثيرين باحث في مجال التاريخ ومترجم وشاعر وناقد أدبي إلى جانب كتابته للنقد الفني التشكيلي أحيانا واهتماماته اللغوية التي كللها بإصداره لقاموس النفيس من كنوز القواميس… إذن بعد تقديم المُحاضر والتعريف بالباحث لمن لا يعرفه وهي المهمة التي اضطلع بها الشاب بدر الدين الورفلي والتي استعرض من خلالها أهم المحطات التي مر بها طيلة مسيرته البحثية.

أستلم الأستاذ عمار جحيدر دفة الحديث ليلج بنا في صلب الموضوع، ولكن قبل ذلك وفي لمحة تدل على الوفاء والأحترام لمبدعينا طلب الأستاذ الباحث قراءة الفاتحة على روح الفقيد ثم سرد على أسماعنا قصة هذا البحث الذي بدأ بورقة بحثية طلبها منه الراحل علي فهمي خشيم كمساهمة في ندوة تخص التليسي العام 2010، ومن تلك الورقة المحدودة توسعت وتشعبت الدراسة لتنتهي في شكل كتاب أو مخطوط وضعه الكاتب وراكم مادته طيلة السنوات الخمس أو الست الماضية، وبعد تلاوة فقرات مطولة من مقدمة الكتاب أشار الباحث إلى مكانة التليسي المهمة والبارزة داخل منظومة المؤرخين الليبيين في القرن العشرين التي بدأت مع نخبة من المؤسسين لتنتهي عند الجيل الأخير من طلائع الجامعات الليبية والعربية والعالمية من الليبيين وذكر أسماء كبير مثل الطاهر الزاوي ومحمد مصطفى بازاما ومصطفى بعيو وعلي مصطفى المصراتي وخليفة التليسي وصلاح الدين السوري وعبد الكريم الوافي وغيرهم من المؤرخين ممن تحولوا تاليا للعمل في المؤسسات البحثية في الدولة، وفي حين ركَّزَ بعض المؤرخين – بحسب الباحث – مثل بعيو وبازاما على جانب محدد كان التليسي والمصراتي أكثر تنوعا في عطاءهما حيث شمل مراحل أكثر وكان متوسعا بشكل ملحوظ مقارنة بالآخرين.

وفي الفصل الثاني من الكتاب – إذ أن هذه المحاضرة وكما يدل عنوانها – هي اختصار واستعراض مستعجل للكتاب المخطوط الذي نأمل صدوره في كتاب قريبا، في الفصل الثاني الذي عنونه الباحث ب “التليسي مثقفا” وعبر إحصائياته الدقيقة التي اشتغل عليها الباحث استعرض كتب التليسي وتتبع فترات الذروة في النشر عند التليسي وحاول الفصل ما بين تواريخ الكتابة والإنجاز للكتب وما بين تاريخ النشر إذ أن بعض كتب التليسي  التاريخية ظلت فترة طويلة كمخطوطات ولم تُنشر لأسباب عديدة بيَّنَ الباحث بعضا منها في سياق سرده وتتبعه لهذه الجزئية المهمة، وبالأرقام والنسب المئوية التي لجأَ إليها الباحث ووظفها في دراسته وصل إلى استنتاجات يمكن الركون إليها وفق المنطق الرياضي، ولم يكتفي الباحث الجاد بذلك بل أنهُ أخضع التليسي وهو صاحب الشخصية الموسوعية التي انصرفت إلى الترجمة والكتابة النقدية والتأريخ ووضع المعاجم، بالأعتماد على معطيات واقعية، أخضعه للمنطق الرياضي وحصل على نسبة لكل مجال من المجالات السابقة في شخصية التليسي وما تمثله بالأرقام في قائمة اهتماماته. وفي حديثه عن التليسي تطرق الباحث إلى اللقاء التاريخي الذي أجراه الأديب يوسف الشريف مع التليسي ونُشِرَ بمجلة الفصول الأربعة سنة 1992 واتخذ منه الباحث مرجعا لعديد من الأستنتاجات والمعلومات وذلك بإشارته إليه في عدة مواضع من المحاضرة التي شهدت حضورا نخبويا لافتا، ومن ضمن ما ألمح إليه، قول التليسي في تلك المقابلة “أن الترجمة تعد رافدا من روافد الإبداع”.

وفي كل ما تناوله الباحث حرص على انتهاج الأسلوب العلمي، وهذا ما عمِلَ على اتباعه أيضا في الفصل الثالث من الكتاب، والذي أسماه “مدونة التليسي التاريخية” وعبره استعرض مجهودات التليسي من خلال بعض مصنفاته التاريخية مثل “بعد القرضابية” و “برقة الخضراء” و”معجم معارك الجهاد”، لم يتوقف الباحث عند ذكره للكتب على عرض محتواها ومنهجها وغيره مما يتطلبه التخصص في التاريخ بل ذهب أبعد من ذلك حين سرد ظروف كتابتها وتواريخ إنجازها وتاريخ نشرها ودوافع كتابتها مستندا إلى معطيات كثيرة من بينها بعض المقالات التي كان ينشرها التليسي، خاصة في صحيفة الأسبوع الثقافي الليبية، وأيضا متكاً الباحث على أرقامه وجداوله الرياضية وإحصائياته البيانية التي يضع فيها ثقته كل مرة لأنها تقوده في الختام إلى استنتاجات منطقية.

كثير هي المعلومات والنتائج التي وصل إليها الباحث بعمله الدؤوب ومجهوده الذي يستحق الشكر والثناء عليه باعتباره توثيقاً لسيرة علم من أعلام ليبيا الكبار في التاريخ الحديث. وعرفنا نحن المتلقين أن التليسي أهتم بالتاريخ الحديث لليبيا بخلاف رفاقه الذي اهتموا بالتاريخ القديم . وغم هذا التوسع والموضوعية والإحاطة بهذا العلم البحر في المحاضرة، لم يتوقف الباحث الأستاذ عمار جحيدر من خلال إشاراته وتلميحاته على بث روح البحث والدراسة والمثابرة في نفوس الباحثين الشباب وحثهم على مواصلة النبش في التراث الثقافي حتى تكتمل الرؤية وتعم الفائدة، وهذا ما يمثل في تصوري بعضا من توصيات الباحث أو لنقُل الرسالة التي أراد لها الوصول للأجيال الطالعة حتى لا ينقطع حبل التواصل والبحث العلمي الرصين الذي إذا ما واجه عقبات فإن ذلك سيعد خسارة كبيرة تلحق ليس بالعمل الأكاديمي فحسب بل بالوطن أجمع.

وبهذا البحث الموسع الذي يلاحظ كل من اطلع عليه من خلال المحاضرة التي استمرت لحوالي الساعة، المجهود الكبير الذي بُدِلَ في وضعه، إذ أضاء الباحث تقريبا كل جوانب هذه المسألة ولم يترك جزئية إلا وحاول تغطيتها قبل الأنتقال إلى الجزئية الموالية في تجربة التليسي التي تستحق الدراسة لعمقها وأهميتها ولما تشكله من رافد أساسي في الثقافة الليبية الحديثة فالتليسي في تصوري الذي يوافقني عليه الجميع تقريبا باحث وأديب كبير لا يمكن المرور على تجربته الغنية مرور الكرام.

ثم وتحت عنوان “التليسي مؤرخاً ثقافياً” تحدث الأستاذ عمار جحيدر عن الدراسات الأدبية التي وضعها التليسي مبكرا مثل دراسته عن الشاعر احمد رفيق المهدوي التي ظهرت من خلال سطورها بوادر اهتمام التليسي بالتاريخ وشغفه بهذا الجانب واستدل بنص ورَدَ في الكتاب المذكور يوضح اللمحات التاريخية التي كان التليسي يسربها ويبثها عبر كتبه الأدبية والتي أظهرت كما أسلفنا شغفه المبكر بالتاريخ مستفيدا أيضا من إجادته للغة الإيطالية التي ساعدته كثيرا في بحوثه ودراساته المختلفة.

وكان الباحث عمار جحيدر قد أعد طائفة من البيانات والصور والخرائط والجداول لعرضها بجهاز العرض المرئي والتي كانت من شأنها أن تُثري المحاضرة وتُقرب المعلومة والفكرة إلى الأذهان، سوى أن انقطاع التيار الكهربائي حالً دون تحقيق هذا الهدف فما كان من الباحث إلا أن قام بقراءة محاضرته أو فقرات مطولة منها من الورقة المعدة لذلك وأتبعها ببعض الشروحات والتوضيحات والإستطرادات، وبهذا الشكل المُكثف والمُركز حتى أنني كمتلقي وجدت صعوبة في ملاحقة الكم الهائل من المعلومات والأرقام وهضم التحليلات التي اكتظت بها المحاضرة، وهي مجهود سنوات من البحث الدؤوب والتمحيص والإضافة والحذف والتنقيح كما قال الباحث حاول اختزاله في ساعة من الزمن وهي المهمة التي نجح فيها الباحث إلى حد كبير. وعند هذه النقطة تحديدا اختتم الباحث محاضرته القيمة التي أتى فيها على كل ما يتعلق بالتليسي كمؤرخ والتي على كثافتها وزخمها اعتبرها الباحث مُقاربة أولية، أي أنها مجهود غير مكتمل وقابل للإضافة، في لمحة تدل فقط على تواضع العلماء.

فُتِحَ المجال إثر ذلك للمداخلات من قبل الحاضرين ليتقدم حفيد التليسي ويُلقي كلمة  العائلة التي حضر بعض أفرادها للأستماع للمحاضرة وفيها توجه بالشكر للأستاذ المُحاضر ولجمهور الحاضرين وأعلن في ختامها عن قرب صدور كتابين للراحل الكبير يحملان عناوين “هوامش ومتون” و”حب الرمان” بالتزامن مع ذكرى رحيله السابعة.

أمين مازن صاحب الذاكرة الحديدية والذي ارتبط بصداقة مع الراحل أضاف بعض المعلومات بشأن أسباب تأخر نشر بعض كتب التليسي وهذه المعلومات مستقاة من التليسي شخصيا بحسب الأستاذ أمين مازن. وحول كتاب سكان ليبيا أيضا أشار مازن إلى أن المؤلف الإيطالي أوغسطيني الذي لم يكن يجيد العربية، لم يقوم شخصيا بتأليف الكتاب الذي ترجمه التليسي بعد ذلك رغم الصعوبات والمشاكل التي اعترضت عمله ذاك، وإنما اعتمد في ذلك على المعلومات التي تحصل عليها من السكان أنفسهم بعد جمعها ممن أوفدتهم السلطات إلى الدواخل في إطار إجراء احصائيات، كما أوضح أسباب سوء الفهم الذي نشأ ما بين التليسي ومدير مركز جهاد الليبيين محمد الجراري – باعتبار أن الباحث تناول هذا الخلاف في سياق محاضرته – والذي نتج عنه جفوة وإعراض ساهم في إذكاء نارها أُناس يسعدهم ويُريحهم رؤية شخصين متخاصمين، غير أن وبفضل أُناس خيِّرون لم تطول هذه الجفوة وعادت المياه إلى مجاريها بحسب تعبير الباحث عمار جحيدر.

أما أسماء الطرابلسي الكاتبة والباحثة وعبر مداخلتها أيضا أشارت إلى جوانب أخرى عززت ما سبقها إليه زملاءها من أحكام واستنتاجات وتحدثت عن أول قصيدة ينشرها التليسي وأول قصة قصيرة، لتختتم مداخلتها بحقيقة تقول أن عمل التليسي في الدار العربية للكتاب – وهي دار نشر ليبية تونسية مشتركة – كان رافدا كبيرا له وسانده في ما أنجز. أيضا تحدث يونس الفنادي من جهته عن ترجمات التليسي الادبية وأحال إلى مقالة كان قد كتبها عقب رحيل التليسي . وقبل أن ينفض الجمع ويُختتم المنشط جدد الأستاذ عمار جحيدر عرضه لفكرة كان قد طرحها على أولي الأمر أو المؤسسة المختصة من قبل بشأن تحويل بيت التليسي إلى مزار ثقافي أو متحف بعد تعويض مالكيه تعويضا مجزيا، وفي الوقت ذات حث عائلة الراحل على الحفاظ على تركته وأرثه الثقافي الذي هو بالضرورة أرث ليبي عام بقدر ما هو أرث شخصي وممتلكات تعود للأسرة.

__________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

طرابلس تحتفي بالكتب المستعملة

المشرف العام

خليفه حسين مصطفى… رواية ليبية لم تكتمل‎

حواء القمودي

ندوة حول مشروع الدستور الليبي بطرابلس

المشرف العام

اترك تعليق