قصة

مـا وراء الحـب

إلى هالة وما حولها من احلام صغيرة..

 

كانت الرياح قوية والسماء تمطر، خرج من البيت وقفز في سيارة تاكسي ومضى إلى الشارع، توقفت الأمطار برهة وما لبثت أن عاودت السقوط ناعمة في البداية وشيئا فشيئا بدأت تشتد، اندفع مسرعا خلال المطر إلى داخل مقهى وملابسه مبللة، تناول كوب ” مكياطا ” وخرج، وقف لحظة تحت مظلة المقهى، تابع الأمطار وهي تتساقط بغزارة، حبات كبيرة من الماء تهوي على الأرض القذرة بلا هوادة ، لم يعد يرى المطر، أصبح يرى نفسه ممسكا بيدها ويركضان ويرقصان تحت المطر، عندئذ وقف إلى جانبه رجل ثيابه تقطر من البلل، لم يتبادلا كلمة واحدة، منح أحدهما الآخر هزة من رأسه ونظرا معا إلى الرياح وهي تمرجح شآبيب المطر.

توقف المطر وما تزال السماء مثقلة بالسحب، ارتشف ما تبقى من القهوة ورمى الكوب على الأرض فجرفته الرياح، سار متجنبا بقع المياه المنتشرة على الرصيف، واتجه ناحية عربة مبطنة بقطيفة حمراء يجرها حصان أبيض جاثمة لوحدها في الساحة الخضراء، صعد وهو يلتفت في كل الجهات، جلس إلى جانب السائق وهو يفرك يديه، بدأت السماء تمطر بضراوة، اغمض عينيه وحينذاك استطاع أن يراها تمشي مبطئة في اتجاه السرايا الحمراء بمعطفها الأحمر دون أن تلقي نظرة للوراء، فتح عينيه ونظر إلى السائق ذو الوجه الأبيض الضارب للاحمرار، يرتدي معطفا ثقيلا ويدخن.

قال السائق :

–       لا أظن أنها ستأتي اليوم.. مطر !!

أشعل سيجاره وكور كفه حولها كيلا تتعرض للبلل وقال :

–       ستأتي !..

مجّ السائق نفسا وقال :

–       النساء كاذبات.

لوح بيده أمام وجهه نافذ الصبر، ألقى السيجارة في بركة ماء تشكلت للتو وعقد يديه إلى صدره، تطلع إلى المقعد المجاور ورسوم القلوب عليه، نظر بتعب إلى الحصان ويده حول فمه ثم إلى الأرض المبللة المغطاة بأعقاب السجائر والأوراق، سحب علبة السجائر من جيبه وأشعل واحدة، وضع ساقا على ساق، رفع كم معطفه ونظر إلى جرح في ساعده، تشمم الجرح الذي اندمل وخُيّل إليه أن رائحة دمه الكريهة ما تزال تنبعث، عقد يديه إلى صدره ثانية ونظر إلى مجموعة من الرجال يحمون رؤوسهم بمعاطفهم ويركضون، حدّق بتكاسل إلى مزقة صحيفة عند قدميه التقطها وتطلع إليها لحظة ثم نظف بها حذاءه وألقاها، دفعتها الرياح قليلا واستقرت أخيرا في بركة ماء، استغرق الانتظار وقتا طويلا، وبدأ صوت القلق يعلو، رمى سيجارته على الأرض وقفز من العربة، نظر أولا لوجه شاب مكفهر يمشي بخطوات كئيبة ورأسه يهتز بين كتفيه، هبت الرياح من دون مطر فقلب ياقة معطفه وتابعت عيناه حمامة بيضاء مبللة جامدة في بقعة ماء، نظر طويلا إلى عينيها المتواريتين وراء جفنين رماديين، سار نحوها وحركها بقدمه فتحت عينيها البنيتين، رفعت رأسها ونظرت إليه بعينها اليسرى، ذرقت وخطت إلى الأمام قليلا بقائمتين يكسوهما ريش متسخ ومجددا توارت العينان وراء الجفنين، ابتعد عنها عدة خطوات ونظر إليها من وراء كتفه وهي تحاول الثبات في وجه الرياح، سار ببطء وقد تجهمت تعابير وجهه، وحين وصل إلى منتصف الساحة توقف فجأة وتنهد بعمق، فقد رآها تمشي بخطوات وئيدة كما لو كانت تمشي فوق جراح مفتوحة الشفاه إلى أن وقفت أمامه بمظهرها الرقيق، كانت ترتدي سروال جينز أزرقا ومعطفا أحمرا وشعرها المبلل يتطاير في الهواء، مد يده بحذر للمس أصابعها، أبعدت يدها عن مسار يده فقال :

–       تأخرت كثيرا.

حاول الالتصاق بها لكنها سارت مسرعة، وتعاود النظر إلى الوراء، سار خلفها وقد كف عن الابتسام، دخلا مطعم السرايا، جلس أحدهما في مواجهة الآخر وطلبا كابتشينو. أخبرها أن الحياة من دونها صعبة وقاسية، ويود أن يكتشف معها تلك المنطقة الوردية الكامنة وراء الحب. ابتسمت ودفعت شعرها المبلل للوراء، تحدث عن العطور والصعوبة التي يجدها في تمييز رائحة عن أخرى لكنه أعترف بأن عطرها أخاذ، أخبرته أن للحزن رائحة أيضا. نظر إليها باهتمام، دفعت خصلة شعر تدلت حول عينيها، وضع يده فوق يدها الرقيقة البيضاء المفرودة على المنضدة سحبت يدها ووضعتها في جيب معطفها. ذكرها بأنها تتصرف بطريقة غريبة، نظرت إليه وابتسمت، أخبرها أن الحب أخذ وعطاء. هزت رأسها نافية وشرحت أن الحب خبرة. نهض ودار حول المنضدة وجلس بجانبها. نهضت ودارت حول المنضدة وجلست في مواجهته. وصلت القهوة فتنشقها وارتشف عدة رشفات وفكر أنها تسحبه بردودها المقتضبة وصمتها إلى منطقة لا تقطن فيها خبرته، رفع بصره، كانت تنظر إليه من دون حركة، سألها عن أحلامها، لم تجب ؟! كانت تنظر إلى ساعة معلقة فوق الباب بلا عقارب، نظر إليها رجل في المنضدة المجاورة وتلاشى وجهه الشاحب وراء جسد النادل، أخذت تنظر حولها ومن وقت لآخر كانت تلقى نظرة على قوس قزح عبر الزجاج، حاول أن يقول شيئا لكنه أبحر في الصمت وبدلا من الكلام نظر إلى ملامحها الناعمة الحزينة وظلت عيناه تلازمان عينيها الهادئتين، شعر بقلبه يخفق. رفعت كوب القهوة إلى شفتيها رشفت بعضا منه وسألته عن الموت وإذا كان في مستطاع الموتى أن ينهضوا من موتهم، كيف سينظرون إلى وجوه الذين ساقوهم إلى الموت ؟ ضحك مندهشا وأسند ظهره إلى المقعد وأمعن النظر إليها من نهديها إلى شعرها المتموج بفعل المطر والريح وتوقف عند شفتيها الورديتين وأخبرها أن الحديث عن الموت لا يناسب رقتها، أرادت أن تسأله عن والده لكن النادل وصل فجأة، سحب أكواب القهوة وذهب، دخل رجل ومشى إلى منضدة خلفهما وطلب قهوة بصوت خشن، نظرت مجددا إلى ما وراء الزجاج، كان البرق يومض والسماء تمطر في الخارج، التقطت حقيبة يدها وأخرجت شمعة سميكة الحجم، رفعتها عاليا قريبا من وجهها ونظرت إليه وابتسمت. ألقت ابتسامتها ظلا ثقيلا على وجهه، أخرج سجائره وأشعل واحدة وقال دون أن ينظر إليها :

–       عيد ميلادك ؟

لم تجب وظلت صامتة تنظر إلى الشمعة وهي تشتعل، مرت بيدها على شعرها وطوحت به إلى الوراء، هزت رأسها نافية، وتحدثت في آسى عن والدها الذي ولد في مثل هذا اليوم ومات قبل ولادتها بيومين وذكرت أنها ولدت في الليلة الأخيرة من شهر أبريل 1977. وكررت تاريخ ميلادها مرتين. راوده شعور بأنها تتلاعب به وأصبح متوترا، وكان على وشك أن يسألها أين مات والدها لكنه سكت فجأة وأحس بأنه ينهار عندما تسلط عليه عينيها الهادئتين الحزينتين، خلع معطفه ووضعه على قدميه المتصالبتين ونظر إلى وميض البرق من وراء كتفها، ارتفعت جلبة داخل المطعم ونهض بضعة رجال واتجهوا نحو الزجاج ناظرين إلى الحمامة وهي تقاوم سطوة الرياح، فرقع أصابع يده وتطلعت عيناه بصرامة وقسوة إلى الشمعة التي تذرف دموعها على طلاء المنضدة اللامع. استدار ونظر إلى الساعة الميتة فوق الباب، وضع يديه فوق وجهه وهمهم :

–       يبدو أن الوقت غير مناسب للحديث عن الحب.

نظرت إليه دون أن تجيب. زمجر الرعد في الخارج وأعقبه وابل من المطر. وضع يديه فوق وجهه ثانية وقال من بين أصابعه :

– لقد تأخر الوقت.

وافقته بهز رأسها. نهض واقفا ومعطفه في يده، مستندا على ذراعي المقعد، زمّ شفتيه، والتفت باتجاه الباب بضجر لكنه تهاوى على المقعد وتمتم :

–       لم تخبريني عن موت والدك. كيف مات ؟ وأين مات ؟

نظرت طويلا في وجهه وقالت :

–       في السجن. بسبب..

سكتت، أصغى لحظة لصوت الرعد. نظر إلى شعرها، أشقر متماوج، عيناها تومضان بحزن وقال :

–       بسبب ماذا ؟

نظرت إليه بحدة مضيقة عينيها وهمست بلطف :

–       بسبب وشاية من والدك.

بقيا برهة صامتين بلا حراك، لم يكن في مستطاع عينيهما تبادل النظرات، رمى السيجارة تحت المقعد ودهسها بقدمه، ما تزال رائحة السجائر عالقة في المطعم. نظر إليها مقطب الجبين ثم نظر فيما حوله، بعض الرجال يتهامسون ويضحكون والبعض الآخر يتجادلون حول كرة القدم، بدا الغضب يجري ساخنا في عروقه، انحنت للأمام بملامحها الناعمة لتطفيء الشمعة، منحته نظرة هادئة وقالت :

–   كان بريئا كنسمة. لم يكمل دراسته لأن والدك حصد روحه !! لأي سبب ؟. ما هي جريمته ؟. قل لوالدك إن اللقمة التي يرفعها إلى فمه مغموسة في دموع وعذاب أسر الذين ساقهم هو ومن على شاكلته من الوشاة إلى الموت والمجهول.

حاول الدفاع عن والده لكن لم يكن لديه من الشجاعة سوى قدر يكفيه كي يواري غضبه ويصمت. نظرت إليه برهة وقالت بشيء من العصبية :

–       لو كان الأمر بيدي لجعلت لوالدك ولكل الوشاة ذيل خنزير.

ضرب المنضدة بقبضة يده فأثار انتباه رواد المطعم والنادل خلف ماكنة القهوة. حدّق طويلا في وجهها، وحدقت هي أيضا في عينيه، وفجأة نهضت، ابتسمت له ونظرت إلى ما وراء الزجاج إلى اللون الرمادي الذي يلف السماء ثم نظرت إليه مجددا وقالت برقة :

–       لن تجد من يحتمل رائحة ماضي والدك الكريهة.

ثم حملت حقيبتها وسارت باتجاه الباب.

مقالات ذات علاقة

طريقنا ليس في نفس الاتجاه

المشرف العام

قصة كلب…. حقيقية

يوسف الشريف

مديـنـتي الجـديـدة

عزة المقهور

اترك تعليق