قصة

صلاة لأجل الكسيانوس

إلى :فرج عبد القادر ولؤي اسماعيل

تبدو الوقائع التي أعيشها في أغلب الأحيان كما لو كانت أحلاما أو بالأحرى كوابيس لكنها ليست كذلك، فتلك الرؤى الغامضة لا تحدث ليلا أثناء ساعات النوم إنما تترآى لي وبشيء من العجرفة في وضح النهار، لحظة انهماكي في قراءة قصة العاشق المجهول الذي تعرض للنسيان والاهمال، بعد أن جمعت وقائع حياته من مصادر شحيحة، أو كتابة بحث عن قصة حبه التي لم يبق لها أثر في التاريخ.

لا يمكنني مهما فعلت من السيطرة على تفاصيل تلك الرؤى الغامضة، والأنكى من ذلك أنها بعد زمن قصير من حدوثها تبتعد وبطريقة ما تنفصل عن زمنها الخاص وتتخلص وسط ذهولي من الأمكنة التي وقعت فيها، وتصبح مع مرور الأيام كما لو كانت مقتطفات من رواية قرأتها على عجل أو مشاهد من فيلم شاهدته في زمن سابق. وحين أعيد سردها على نفسي، على الأقل، تبدو ذاكرتي في أول الأمر مغلفة بالصمت وشيئا فشيئا أعود ممتلئا بالشك وأحاصر نفسي من كل الاتجاهات متهما إياها بالكذب واختلاق قصص ملفقة.

كثيرا ما أبديت ميلا إلى تلك الأوقات الحميمية التي امضيها صحبة شخصيات عظيمة ومهملة ولا يعرف عنها إلا النزر اليسير، وتقبع وقائع حياتها في متاهات كتب نادرة متناثرة في بقاع مختلفة من العالم، فقد بلغت حدا من الضجر من أولئك الفرسان ذوي الأنفاس الملحمية على غرار حنبعل وسيبتيموس وسبارتاكوس.

ويُخيّل إليّ وأنا في ذروة القراءة أو التنقيب في مقابر الكتب أنني ذلك العاشق المسكين “الكسيانوس” الذي أضناه حب لم يتحقق وأشبعه المؤرخون اهمالا وتجاهلا، لكن أحيانا أؤمن بأن هذا الحنين الغامض للوراء نتيجة غياب المرأة في حياتي ولا سيما قد تجاوزت عتبة الخمسين من عمري. وكذلك اندثار أحلامي في عالم أفضل تحت سنابك واقع مظلم وحجري لا يضيئه أملا ولا يعتوره تغيير.

لهذا السبب أصبحت الكتب التي تلقي مزيدا من الضوء على حياة “الكسيانوس” ثمينة كالذهب ولا أكف عن تفحصها بنظراتي وأعماقي. لكن ما حدث مساء اليوم في “شاش” كان مختلفا ولهذا السبب هرعت للقلم والورق، كيلا يتعرض ما حدث هذا المساء – وما رأيته من رؤى مدهشة – للتلف والعبث بواسطة تيارات النسيان التي تتحرك مثل الرياح على سطح ذاكرتي.

هل ينبغي لي أن أشرح تفاصيل القصة كاملة؟ أن أقدم أفكارا واضحة ؟ نعم، لكي أحول فيما أعتقد دون انهيار الثقة بيني وبين قاريء لم أحدد بعد قابليته على تصديق ما لم أجرؤ على تصديقه يوما.

أعرف أن ما حدث بالغ التعقيد. ولا أظن أن احدا عاش تلك اللحظات التي من الصعب تصديقها أو تصنيفها، وخاصة لشخص مثلي عاش أحداثا كثيرة تشبه الأحلام السيئة أو الكوابيس ولا وجود لها إلا في قصاصات ورق وكأن هناك فراغ أو فجوات تملأ ذاكرتي.

قبل الدخول في صلب القصة أود الإشارة إلى أن الأطباء عجزوا عن تحديد أسباب المرض، وفشل حدسهم وتخمينهم في كشف الغزاة المجهولين الذين يعبثون بذاكرتي، أو تلك الروح العاشقة القادمة من أقصى التاريخ لتحتل عقلي.

استخدمت مختلف أنواع الأدوية، لكن في برلين أخبرني أحد الأطباء أن ذهني تحول إلى تربة خصبة لنمو بذور تخيلات وهوامات مشتقة من التاريخ ونصحني بقضاء عطلة لمدة سنة بمنأى عن الكتب.

وفي روما صارحني الدكتور باولو كوريتي بصدق صديق أولا، ثم بشيء من القلق على مستقبلي ومستقبل الطلبة الذين أشرف على تدريسهم في قسم التاريخ، وذكر لي أن جسدي سليما من الناحية الطبية لكن ما يحدث في ذهني لا سبيل إلى معرفته.

ما زلت أجهل متى حدث الأمر للمرة الأولى لكن وفقا لقصصات الورق التي تحتل مساحة كبيرة من غرفتي أن الحادثة الأولى التي تمكنت من تدوينها وقعت في منتصف النهار في “سرت ” في الثاني من ” حزيران ” يونيو 1996.

فبعد يوم منهك من القراءة والتفكير وجدت نفسي فجأة على مسافة فراسخ من ” آيميس1″ بين صخور وأشجار يابسة، كنت راجلا وخلفي عدد من الفرسان، تحركت ببطء على الطريق، توقفت وتشممت الأرض بنظري ككلب صيد حسن التدريب، توقفت وأنحنيت فوق كل ورقة أو غصنا حديث السقوط أو قشة أو حبة رمل مقلوبة لقص أثار أقدام حافية للصوص مجهولين نهبوا محتويات معبد ” إيلا كابل “.

وفجأة انحنيت طويلا ثم تقدمت إلى الأمام ببطء توقفت ونظرت كانت آثار قدم واحدة مطبوعة على طبقة الأرض الهشة فيما الأخرى طمستها حوافر قطعان ماشية ما تزال تثير على مدى الرؤية سحابة من الغبار، وعند ذاك، سمعت وقع حوافر أولا ثم رأيت سيبتيموس يسير خلفنا على متن حصانه الأبيض، تيبست في مكاني كصخرة، كان هناك أربعة أو خمسة من الفرسان على يساره وكنت أحس بطعم خوف ورعب وحين تقدم صرخت فزمجر بشيء من الغضب :

– من سوء حظ قصاص الأثر أنه دائما خلف طريدته وليس أمامها ولهذا السبب يفقد الأثر الكسيانوس.

كنت أرغب في الركض بعيدا لكن نظرته الصارمة كانت تقيدني وصاح في غضب :

-انهض الكسيانوس.. اقترب.

وحين اقتربت أخذ يضرب رأسي بقبضة يده بشكل مؤلم ويصيح :

– لا أريد أن أراك في هذه الأنحاء الكسيانوس. فهمت ؟. وقبل أن ترحل أريد أن أعرف ماذا يدور هنا في هذا الرأس الموصد الكسيانوس ؟

كانت ضرباته مؤلمة حتى شعرت كما لو أن حريقا شبّ في فروة رأسي وشهر سيفه لضرب عنقي لكن أحد معاونيه منعه من ذلك فصاح حانقا :

– اغرب عن وجهي.

كنت أعرف أن سيبتيموس قد اكتشف للتو ما يذاع هنا وهناك عن حقيقة مشاعري تجاه ” جوليا 2 ” لكنه عاد وتوجه مع رجاله نحو ” آيميس ” بأقصى سرعة. شعرت بالشفقة حيال نفسي وفيما أخذت ألكم صخرة بقبضة يدي عاجزا عن اقناع نفسي بحقيقة ما حدث، كان كل شيء قد مر بسرعة عندما اكتشفت أن الصخرة التي ألكمها بيدي وأركلها بقدمي لم تكن سوى مرآة في غرفتي وقد حطمتها ويدي مدماة، لم أستطيع تجنب الانقباض في قلبي والمرارة التي تلتهب في حلقي.

عشت بعد تلك الواقعة مع زمرة من الصيادين غريبي الأطوارعلى سواحل ” خليج سرت ” قرب ” شاش ” لصيد كلاب البحر. كانت أوقاتا مذهلة، تركت الكتب والقراءة وراء ظهري، وأصبحت صورة الكسيانوس يوما بعد يوم تتجعد في ذهني وتتلاشى تدريجيا لولا معركة نشبت دون أن أعرف الأسباب بين صيادين لم تمضي سنة على وجودهما في ” شاش “.

البحر ميتا. وعلى امتداد جلده الأزرق الذي يتحول إلى البياض لا يختلج بموجة، وكأن قرونا مرت على موته. كانت هناك أكواخ واطئة وقد بنيت من الصفيح ومغطأة بالسعف، وأمامي كان صيادا بذراع واحدة – متوحدا على الدوام ومنزويا – يقوم بطلاء مركبه .

كنت نصف عاري تحت الشمس وفجأة جاء صياد يسمى بالكلب لشراسته بدا كأنه لم يراني، ثائرا، ممزقا بقايا قميصه الأحمر، دفعه الصياد النحيل بيده وحينذاك نشب بينهما الصراع، رأيت أن الكلب قد أجهز على صاحبه ونشب أصابعه في رقبته نهضت واثبا وقد وقفت بينهما لفصلهما وكما لو كانت الأرض تهتز، رأيت حجرا في الهواء وسمعت بعد ذلك صوتا خشنا يصطدم برأسي.

كانت رأسي ملفوفة بقميص ممددا على ظهري أمام الكوخ وأصغي إلى همهمة الصيادين من حولي. أحس بالعطش كأني لم أشرب يوما. جاء الرايس سحب صخرة دائرية الشكل ليجلس وقال:

– إن سمك الشولا النيء يساعد الجرح على الالتئام سريعا.

لم أنظر إليه فقد كانت هوة عميقة في ذهني مفتوحة، وإلى جانبها كومة من ثياب جوليا وعطرها يسكرني، عاد صوت ركض يتصاعد في رأسي. الهوة قريبة جدا من نشيد الحب العظيم، الحب الأكبر من البحر والتاريخ والعالم والأقوى مذاقا من روما ونبيذها، وشيئا فشيئا تلاشى الألم وراح البحر يبتعد وأخذت الأشجار السامقة تحل محل وجوه الصيادين المشعرة الكالحة وصوت أقدامي على الآرض الموحلة يسمع بوضوح.

كنت على يقين من أنني أركض في كارنوتوم3، توقفت لاهثا وسط ضباب الصباح والصمت ثم اخترقت دغل من الأشجار الكثيفة للعثور على مخرج أو طريق ما، وبدلا من الركض ناحية اليمين حيث تنتشر المستنقعات وتزداد كثافة الأشجار استدرت وقفلت عائدا من حيث جئت وعندما تجاوزت الكثير من الجذوع المحروقة رأيت ” جوليا ” تحمل ” گيتا4 ” بين ذراعيها. كانت لوحدها، صامتة وفاتنة، ترتدي ثوبا طويلا شفافا وخصلات شعرها تتماوج حول وجهها الناعم، بقيت برهة أتأملها وأخيرا هتفت :

– لم يشاهد أي منا الآخر منذ خمسة سنوات..

وحين دنوت منها خطوة أو أكثر متلهفا لضمها بين ذراعي سمعت أصواتا تناديني :

– الكسيانوس..

ثم ظهر من بين الأشجار سيبتيموس راجلا وكان على يساره أربعة أو خمسة من الفرسان. لم تنطق جوليا بكلمة واحدة كما لم تلتفت إلى أية جهة. مشى سيبتيموس بخطوات مستقيمة حتى وقف أمامي مباشرة ودمدم من بين أسنانه بغضب :

– كنت أنتظرك إذ أن رائحتك تشي بك. لكن سأتركك هنا مقيدا وبعد غروب الشمس سوف تتناهشك كلابا برية.

وجلجل صوته مرة أخرى :

– أنيابا حادة تكفي لحملك إلى هوة من الظلمات.

تراجع للخلف برشاقة رافعا يده اليمنى وقيدني حبل رمي عليّ من الخلف. اقترب مني رجال سيبتيموس ونظروا إلي بازدراء. كانت الحبال تقيدني أمسكوا بي وحملوني ووجهي إلى أسفل مرت اغماءة رأيت خلالها الشمس فاتحة فاهٍ أدرد ولعابا أصفر اللون يغطي وجهي.

فاحت رائحة التربة المبللة ولم اتمكن من حبس دموعا مصاغة من حب لا يهزم. كنت أحس بشيء يجذبني لجوليا، هي وحدها التي تأسرني، أما سيبتيموس وبقية العالم الرخو بالنسبة لي لا شيء. لقد نشأ حبها وترعرع في قلبي مذ رأيتها للمرة الأولى جالسة خلف والدها في معبد ” ايلا كابل ” وأصبحت رغبتي في النظر إليها وامتلاكها أقوى من الحياة وأكثر مسرة من منادمة برتناكس 5.

لقد أصبحت عاشقا، كائن يحب ليعيش، ويقتات على نظرات تماثل نداء هائما على وجهه في البرية.

وجاء الليل، الليل المحبوك من شعر جوليا. وظهر القمر فوق الأشجار، لا جدوى من الزحف فقد كان اليأس كثيفا والحبال تقيدني إلا أني كنت قويا وشعرت أن الحبال كالقدر تقيد يدي وعنقي لكن قوة الحب ستهزمها. حركت رأسي بصعوبة بالغة، كانت تأتي من الغابة مع وشوشات الأغصان وصوت الريح صرخات حادة.

وفيما كنت أزحف في اتجاه شجرة كثيفة الأغصان، رأيت مجموعة من الكلاب تتحرك في حذر وعندما وصلت إلى المكان المكشوف بين الجذوع المحروقة حيث القاني رجال سيبتيموس وقفت وتقدم كلب نحيل بأنف موجه نحوي وزمجر وكشر عن أنيابه. لم اقو على الصراخ أو النظر في كل الجهات، حام حولي مزمجرا ثم قفز بوحشية. وقفزت من نومي فجأة مرعوبا مددت يد مرتعشة نحو قنينة ماء مكسوة بالخيش موضوعة عند رأسي لكنها وقعت.

الهدوء يعم الشاطيء عند الأصيل وكانت السماء تتلبد بسحب خفيفة. رفعت رأسي بصعوبة وشاهدت المراكب الغامضة وهي تتأهب لملاحقة أسرار البحر، الأشرعة مرفوعة والأعلام المصنوعة من بقايا جوالق الدقيق تخفق في الهواء. مركب الرايس الغريب ” ألوان الطيف الباهتة ” والرايس واقفا في مقدمته عاريا بلحيته الكثة والمجعدة، مطلقا صرخاته في وجه البحر، منشدا نشيد غزواته المائية. وفجأة رحلت إلى ظلمتي وعندئذ رأيت الكلاب مستلقية على وجوهها وسهاما مغروزة في ظهورها والكلب النحيل ما يزال ينازع الموت على مسافة مني، سمعت وقع خطوات خلفي وأغصان يابسة تتحطم وبخنجر حلت وثاقي، ولما شعرت بالحرية فركت يدي وراء ظهري وتحسست عنقي ثم جلست والتفت للوراء.

في أول الأمر اكتفينا بالصمت والنظرات وبعد ذلك جلست إلى جواري وقالت :

– إن الحياة تبدل كل شيء. يوما ما قد أصبح امبراطورة. عندما رأيتك للمرة الأولى قبل مجيء سيبتيموس إلى آيميس كنت فارسي والآن.. ارحل كيلا تموت بسببي .

وسكتت. أسندت رأسي إلى كتفها وطبعت قبلة مسموعة على عنقها ونهضت. كان هدير رعد الحب يسمع فيرتج جسدي كله :

– لم يكن الحب سوى قوة بدائية عمياء وهائجة. ولم يعد الهروب ينفع لذلك ليس أمامي سوى مجابهة مصيري، أن أنتظر، وليس في مستطاعي الآن سوى أن اترك الوقت يمر لأقف وجها لوجه مع الموت كعاشق يخسر كل شيء إلا مروءته.

وطلع النهار وفي تلك الأثناء بدأ المطر بالسقوط، ثم رأيت سيبتيموس إلى جانبي. لم يتملكني الرعب. نظرت إليه بثبات.

نهضت جوليا نظر إليها سيبتيموس بشكل موارب ويده على مقبض سيفه وترتجف من شدة الغضب وقال :

– لا أحد سيصلي لأجلك الكسيانوس. ولا أحد سيذكرك لأني سأبذل كل ما في وسعي لأمحو أي أثر لك في الدنيا وفي الحياة الآخرة.

بدأت بالاقتراب. كان سيبتيموس جامدا. سحب سيفه ورفع رأسه ناظرا للسماء والمطر وجوليا ثم متطلعا إلىّ بنظرة، إن لم تكن نظرة غضب فهي نظرة للمكان الذي يمكنه من رؤية أنفاسي وهي تتناثر في الهواء :

– لماذا لم تكن أحد رجالي الكسيانوس فالأمبراطور برتناكس يثير حفيضة الحرس البريتوري والحرب الأهلية تلوح في الأفق.

– ولدت كيلا أكون بطلا مثلك سيبتيموس. ثم إن الحب لا يقل فداحة عن الحرب الأهلية.

وعندئذ رفع سيفه وفي لمح البصر كانت أحشائي بين يدي. مشيت مترنحا ناحية جوليا ثم توقفت في منتصف المسافة حاملا أحشائي قربانا لحب لم يهزم. رفعت رأسي للسماء. لا شي سوى لون المطر ونظرت إليها من جديد فقد كانت شامخة وصحت بصوت أجش :

– إن حياتنا بلا حب كبير ليست مميزة. إنها كأوراق يابسة تكنسها رياح الأيام.

وجاهدت لجمع شتات أنفاسي ومشيت نحوها على غير هدى متخاذل الخطوات لكني تهاويت على الأرض كجبل عند قدميها.

 _____________________

1. الاسم القديمة لمدينة حمص السورية

2.  جوليا دومنا زوجة الإمبراطور سبتيموس سيفيروس

3.  كيتا الابن الثاني لسبتيموس

4.  مقر القيادة الرومانية شرق العاصمة النمساوية فيينا

5.  الإمبراطور الروماني برتناكس الذي اغتيل في 28 مارس 193م واندلعت الحرب الاهلية بعد مقتله .

مقالات ذات علاقة

مهرب النار

عمر أبوالقاسم الككلي

استرداد لحظة…

أحمد يوسف عقيلة

إناء الشاي ذو الزهور الحمراء

أحمد يوسف عقيلة

اترك تعليق