بقلم وعدسة: زياد جيوسي
كان لقائي الأول مع الفنانة التشكيلية عالمة العبداللات في العام 2008م صدفة في جاليري رؤى للفنون في عمَّان عاصمة الأردن أثناء زيارة سريعة بعد غياب قسري استمر قرابة أحد عشر عاماً بسبب الاحتلال، وكانت جلسة حافلة بالمرح الذي تشتهر به الفنانة، وأيضا بالحوار عن الفن التشكيلي، ودعتني لمعرض لها كان مقرراً بعد عدة أيام في جاليري مركز الحسين، لكني اعتذرت لاضطراري للسفر، حتى التقيتها مرتين أو ثلاثة في معارض تشكيلية مشتركة هذا العام شاركت فيها بلوحة من أعمالها المتميزة كل مرة، وفعلياً حين تأملت اللوحات التي رأيتها أثارت في روحي الرغبة أن ألتقيها وأعمالها المتوفرة كي أمنح روحي بعض الوقت في واحة من جمال وهدوء تفرضها أعمالها على كل من له عشق للجمال والرغبة في الهدوء النفسي.
وحين دعتني الفنانة لزيارة محترفها في بيتها الجميل والتراثي في أحد أحياء عمان الجميلة والهادئة نوعاً ما، كنت سعيداً بتلبية دعوتها قبل أن أنشغل بملتقى أدبي لعدة أيام كنت أعرف أني سأواصل الليل بالنهار به، وفعلياً حلقت روحي وأنا أجول بين لوحاتها وإبداعها الفني، فالفنانة عالمة، وكما ألقبها ويلقبها غيري (شيخة الفنانين التشكيليين في الأردن)، فهي من مواليد 1942، وما زالت شعلة من النشاط والمرح والمثابرة والتجديد بإبداعها الفني، وهي في حياتها الفنية تسعى دوماً لتجديد أساليبها في الرسم سنويا وباستمرار، ومن يتأمل لوحاتها ويدققها يجد تغير أساليب الرسم التقنية التي تستخدمها.
كل لوحة رأيتها للفنانة تستحق قراءة متعمقة فيها، ولكني سأختار أربعة لوحات من أعمالها للحديث عنها، فهي تعبر عن أربعة أساليب استخدمتها الفنانة في إبداعاتها، فالفنانة عالمة تتميز بأعمالها، بشكل عام، بالارتباط بالمكان والطبيعة والألوان الفرحة، فالفنانة في معظم لوحاتها من أتباع المدرسة الانطباعية/ التأثرية في الفن، وسميت بهذا الاسم لأنها تنقل انطباع الفنان عن المنظر المشاهد بعيداً عن الدقة والتفاصيل، وهذا ما نلمسه في غالبية أعمال الفنانة.
في اللوحة الأولى عن الطبيعة نرى مشهد لغابة من الأشجار التي تتشح باللون البرتقالي بصفة عامة متمازجاً مع ألوان فرحة أخرى مثل الأصفر والأخضر والأبيض، تحيط بتجمع مائي مياهه هادئة ساكنة، تنعكس عليها ألوان الشجر الملونة، والتي تبعث الفرح في نفس المتأمل وتمنحه هدوءاً وسكينة، وفي أعلى اللوحة نرى أطراف السماء مع توشيحات بيضاء للغيوم، وفي وسط اللوحة تماماً تلجأ الفنانة لزيادة اللون الأبيض محدثة نوعاً من الانفراج بين شجرتين والكثافة خلفها، فتظهر وكأنها طريق تصعد للسماء معتمدة بشكل جميل على انعكاسات الضوء بدون ظهور الشمس بوضوح، ويلاحظ أنها لجأت، أيضاً، لوجود بؤرتي رؤية في اللوحة الأولى في الوسط، وانطلقت منها لباقي اللوحة بشكل حلزوني، والثانية في أسفل السماء فوق أعالي الأشجار، ومنها تحركت بريشتها نحو الأسفل، وهذا الأسلوب في استخدام انعكاسات الشمس نجدها تحرص عليه في العديد من اللوحات الانطباعية المرتبطة بالطبيعة، وفي معظم اللوحات نجد أن المياه على شكل مسطحات أو جداول موجودة ومتمازجة مع الطبيعة وكثافة الأشجار، ما يمنح اللوحات جماليات خاصة وشكلاً تأثرياً بالطبيعة ما بين غابات حرجية وأشجار ملونة ومسطحات الماء الهادئة دوماً في لوحاتها.
بينما في اللوحة الثانية نجد أن المكان هو المكوّن الأساس فيها، ونجدها تميل لاستخدام اللون الأزرق المتمازج بالأبيض في تدرجاته المختلفة، وحتى اللون البني في أسفل اللوحة بجوار المجرى المائي تمازج مع الأزرق والأبيض، ولم يظهر في اللوحة ألوان أخرى سوى الأخضر لبعض الأشجار بين وفي أسفل الأبنية، وأيضاً تمازجت مع الأزرق والأبيض إلا من بعض التوشيحات لألوان تميل للأحمر والبرتقالي، فأعطت جمالية خاصة للوحة، وفي هذه اللوحة نجدها تلجأ للأسلوب الحلزوني من خلال بؤرة في منتصف اللوحة بلون أشد بياضاً للبيت في منتصف اللوحة تماماً، ومنها تنطلق بشكل حلزوني كما الدوامة للأطراف حيث تقل فعالية الألوان وتأثيرها الإشعاعي المنير، وتصبح أطراف اللوحة أكثر قتامة باللون لكن بتمازج لوني متميز مع انعكاسات النور وتبايناته بين الظل والانعكاس، فنجد البيوت تتراكم وكأنها تصعد تلة تقف بالقرب من المجرى المائي مع مساحة للشاطئ والأشجار بأسفلها لتبدأ مقدمة اللوحة بالمجرى المائي وبعض الصخور فيه، ويلاحظ في معظم اللوحات الخاصة بالمكان تقارب الأسلوب المستخدم بالرسم والألوان، وإن لجأت في بعض اللوحات إلى تجريد المكان والبيوتات مع المحافظة على المدرسة الانطباعية من خلال الطبيعة المحيطة بالمكان أو في مقدمة اللوحة، مع التركيز على االلون بألوان مختلفة للسماء من خلال ألوان مختلفة تتمازج كأنها ينابيع متفجرة، وفي بعض الحالات تمازج الألوان للسماء بألوان قوية للغيوم كأنها حبلى بالمطر بينما قاعدة اللوحات، وهي في الغالب مسطحات مائية تكون هادئة، ويلاحظ في لوحات المكان في أعمال الفنانة أنها، في غالب أعمالها، تستخدم القرميد الأحمر للأسطح، علماً أن طفولتها في مدينة جرش وشبابها في مدينة السلط، إلا أن هذا النمط من البناء، وإن وجد في بعض البيوتات التراثية وبنسبة قليلة في جرش ونسبة أعلى في السلط، إلا أنه ليس السمة الغالبة على البناء، ما يشير أن الفنانة قد تكون تأثرت بالطبيعة وجمالياتها في المدينتين وبخاصة في جرش، لكنها بالتأكيد تأثرت بأنماط بناء أخرى في تجوالها وسفرها، وأعتقد أنها تأثرت بأنماط البناء التراثية في رام الله/ فلسطين، فحين درست في بداية حياتها في معهد المعلمات هناك، كانت غالبية أبنية رام الله تعتمد على القرميد الأحمر الهرمي لتغطية الأسطح، إضافة إلى تكرر وجود المجاري والمسطحات المائية أمام الأمكنة وهذا قليل في المدينتين إن لم يكن معدوماً.
اللوحة الثالثة تمثل نمطاً آخر وأسلوباً مختلفاً عما سبق في الأسلوبين السابقين، فالبحر هو السمة المشتركة، وفيها تبتعد عن استخدام الكثافة اللونية البارزة، وتلجأ لاستخدام الألوان الزيتية المتمازجة من خلال الفرشاة، وفي هذه اللوحة نجد البحر بلونه الأزرق القوي مع حركة محدودة للأمواج توشحها باللون الأبيض، فتخلق الجمالية فيها، النوارس تحلق في بدايات وأفق اللوحة، قوارب تعتمد على التجديف، وسماء ملونة بألوان جميلة تمازج الألوان الحارة مع الألوان الباردة، فنجد ألوان الأحمر والبرتقالي والأصفر والأبيض، إضافة إلى الأخضر، تعكس نفسها على كتل الغيوم وتراكماتها بشكل ملفت للنظر، والقوارب سمة مشتركة في العديد من لوحاتها التي وجد بها البحر ومنها لوحة متميزة لإمارة دبي، وفي عدة لوحات وفي اللوحة التي تحدثت فيها فيما سبق والتي جردت بها الأمكنة، وواضح في العديد من لوحاتها تأثرها بمشاهد البحر، فالأردن موطنها يفتقد للبحر إلا خليج العقبة الصغير في أقصى جنوب الأردن والبحر الميت في الأغوار وهو ليس أكثر من بحيرة بمساحة محدوة، ويندر أن نجد إنسانا من الأردن يلتقي البحر بدون أن يترك ذلك أثراً في روحه، سواء كان مبدعاً أو إنساناً عادياً.
اللوحة الرابعة، فيها أسلوب مختلف تماماً عن الأساليب السابقة، فهي لوحة لونية تثير في الروح التساؤلات العديدة، فليس من شيء واضح كشكل فيها، وهي أقرب إلى رمزية لونية تعكس ما كان يجول في الروح حين نزفتها بالفرشاة واللون، وفي هذه اللوحة كان اللون الأحمر بتدريجاته مع تمازج اللون البرتقالي والأصفر والأبيض يأخذ ربع اللوحة، وهو ينطلق من منتصف اللوحة اليمين بالنسبة للمشاهد، ومن منتصف أسفلها حتى يصبح أشبه برأس لامرأة ترتدي رداءً أحمر، أو كتل غيمية حمراء، وخلف الشكل المشابه للرأس نجد فجوة من اللون الأزرق الغامق بشكل طولي يتجه للزاوية العليا المقابلة، وهي أشبه بكتلة سديمية أو مجرة، ونلاحظ هنا أن هذه المنطقة تمثل بؤرة اللوحة، ومنها تبدأ الحركة الحلزونية حتى تتحول الألوان من الغامقة إلى الفاتحة، تبدأ بالانتشار باللون البنفسجي بتدريجاته من الغامق للفاتح وصولاً إلى الأزرق الموشح بالأبيض في يمين اللوحة العلوي، يقابله في يسار اللوحة السفلي الأحمر الذي يتحول للبياض، وفعلياً شعرت كم أن الوقوف أمام هذه اللوحة يخلق حالة من الإثارة أولاً، ليتحول الشعور إلى سكينة وهدوء وسؤال أيضاً.
في أساليب الرسم المستخدمة نجد الفنانة تتنقل بتقنية اللون والطريقة بشكل متميز، ففي الغالب تلجأ للكثافة اللونية والألوان الحرة مستخدمة الفرشاة، فتصبح اللوحة بألوانها بارزة وملموسة وخشنة، وهو ما يحتاج إلى كميات كبيرة ومكلفة من الألوان الزيتية الجيدة النوعية، وفي لوحات أخرى نجدها لجأت لأسلوب الكشط بالسكين، بينما في لوحات أخرى يكون اللون منساباً وناعماً، ولكن بكرم مفرط بالألوان، فلم أجد أية زاوية أو بقعة يظهر فيها قماش الرسم بين الألوان، وفي لوحات جديدة بدأت باستخدام أسلوب التنقيط برأس الفرشاة للألوان، وهو أسلوب متعب ومرهق، وتحتاج اللوحة إلى وقت طويل لإنجازها.
وفي نهاية جولتي التي استمرت عدة ساعات في محترف الفنانة كنت أهمس لنفسي: الفنانة الجميلة عالمة العبدلات عاشقة للجمال، فهي تنزفه من روحها، وتسكبه فرحاً وألواناً لتبعث الفرح والجمال في النفوس، فهي فنانة محترفة تعبت على نفسها كثيراً، فدرست بداية حياتها في معهد المعلمات في رام الله، لكنها اتجهت لدراسة الفن في كلية ليونارد دافينشي في القاهرة، ودرست أيضا في كلية باترسون وفي معهد بوب روس وفي كلية نورث لايت في أمريكا، وتنقلت بمعارضها بين دول ومدن عديدة في العالم ومنها نيويورك وتركيا وفرنسا ونيوجيرسي وباترسون والرياض وفي غيرها من مدن ودول العالم إضافة إلى الأردن موطنها، وتجولت في بلاد كثيرة أيضاً، وبالتأكيد ترك هذا أثراً كبيراً على روحها وفنها وإبداعها، فكان التعبير عن جمال المكان والطبيعة هو الغالب على إبداعاتها؛ فهي تحمل رسالة الجمال، ولا تحمل رسالة أخرى من خلال ريشتها، فابتعدت عن الرمزية والتعبيرية وأساليب الفن المعاصر، إلا رمزية اللون، معتبرة أن نشر الجمال ونثر الفرح هو الرسالة التي تحملها وتؤمن بها.
(عمَّان 12/10/2016)