إلى الرَّاحِلِ في الحيَاةِ، علي صدقي عبد القادر
حينَ كانَ الموتُ الكفورُ يمتصُّ في عطشِ الأمنياتِ رَحِيْقَ القصَائِدِ، كانَ يُبلِّلُ قحطَ القلبِ بريقِ قصيدَةِ..!
كَانَ بِإِمْكَانِهِ أن يُراوِغَ موتَهُ.. أن يرشوَهُ ببعضِ ورداتٍ حمراواتٍ.. أن يُغريَهُ بالمحيدِ عنه بوجْهِ قصيدةٍ.. بضوعةِ عطرٍ.. بحفنةٍ من قوسِ قزحٍ.. بنثرةِ شوقٍ وشهقةِ عشقٍ.. وزفرةِ لَهفٍ.. بتأوُّهِ وترٍ.. وغنجِ بَيَانٍ.. بهمسَةِ شاعرٍ يُغري الحياةَ بالحياةِ.. بالحُبِّ الذي يزهرُ في الأعمَاقِ، حقلاً.. طفولةً.. بيتًا.. نهارًا.. ووجهَ حبيبةٍ..
كَانَ بِإِمْكَانِهِ أن يأخذَ بيدِ الموتِ الخشنَةِ ليروِّضَ فيهِ عداءَهُ للحبِّ والحياةِ والجمالِ.. أن يصحبَهُ إلى جُزرِ الأحلامِ السَّامِقَةِ.. إلى مَسَاكبِ النُّورِ والرَّهَفِ والأمنياتِ.. ويعلِّمه أَنَّ الشُّعراءَ كالأحلامِ، لا تموتُ لكنَّها تتجدَّدُ..
كَانَ بِإِمْكَانِهِ أن يدلَّ الموتَ المُدَاهِمَ على قلبٍ ضعيفٍ غيرَ قلبِهِ.. وعلى روحٍ آيلةٍ للتَّلاشي غيرَ روحهِ.. أن يدلَّ الموتَ المُهاجِمَ على أحلامٍ باهتةٍ غيرَ أحلامِهِ.. وجوانحَ يعمِّرُها الخواءُ غيرَ جوانِحِهِ.. أن يردَعَهُ بإخبارِهِ عن أمكنةٍ لا يدخلُها الفنَاءُ.. قلوبِ الشُّعراءِ.. وابتساماتِ الأطفالِ، وأحلامِ الأبرياءِ، وأعمَاقِ العاشقينَ.
كَانَ بِإِمْكَانِهِ أن يمنحَهُ تذكرةً مضمونةً إلى موطنِ الخلودِ.. وطنٍ تلعبُ الشَّمْسُ في حَنَايَاهُ طفلةً لا تشيخُ.. وردةً لا يُبَارِحُهَا العبيرُ..
كَانَ بِإِمْكَانِهِ أن يُقابلَهُ بوجهِ طفلٍ.. وابتسامةِ عذراءَ.. ورائحةِ الوطنِ.. أن يُجابِهَ جهامتَهُ بروحِ الشَّبَابِ الفتيَّةِ.. بقلبِ ربيعٍ بكرٍ طروبٍ.. أن يُلَوِّنَ قتامَتَهُ بألوانِ الفرحِ المسكوبَةِ من حِنَّاءِ الرُّوحِ..
كان قادرًا على إلهائِهِ بذكرى فاطمةَ.. أن يُخَدِّرَ أعماقَهُ بعطرِها البديعِ الرَّفِيعِ.. فاطمَةُ الوطنُ والحلمُ والأمنيَاتُ.. فاطمةُ القصيدةُ والدَّهْشَةُ والانبهَارُ.. فاطمةُ الوجعُ والعمرُ والحيَاةُ.. فاطمَةُ اللَّحنُ وَالأغنيَةُ والكلمَاتُ.. فاطمةُ الغيمةُ والوعدُ والعطرُ والديوانُ..
كان بمستطاعِهِ أن يصرفَهُ عنْهُ بأن يشرحَ له معاني الحُبِّ السَّاميَةِ.. وجلالَةَ التَّغنِّي للوطنِ الأعزِّ، ووأن يفسِّرَ لَهُ تعلُّقَهُ بِهِ، بترابِهِ وأهلِهِ وتاريخِهِ.. برائحَةِ الطُّفولَةِ فيهِ، وأغنيَاتِ العشقِ لَهُ.. وترانيمِ الحيَاةِ بِهِ..
كَانَ بِمَقدورِهِ أن يُوصِدَ بابَ الموتِ بسحرِ قصيدَةٍ.. أن يُتَرْبِسَ نَوافذَ الفنَاءِ بألفِ ديوانٍ محكمِ الصِّدْقِ.. بألفِ قصيدةٍ فَارِهَةِ النَّشِيدِ.. زَاهِرَةِ الغِنَاءِ..
كَانَ بِإِمْكَانِهِ أن يبيعَ روحَهُ للرِّيحِ النَّمَّامَةِ لتنشرَهَا في الفضَاءَاتِ الفسيحَةِ عطرًا وشعرًا وقبلاتٍ وأنفاسَ عشَّاقٍ صَادِقِينَ..
كَانَ بِإِمْكَانِهِ أن يستكينَ لرغبتِهِ الرَّعناءِ.. أن يموتَ كما يَشَاءُ الْمَوْتُ.. أن يرضخَ لمشيئَةِ العدمِ بِالانطفاءِ.. لكنَّهُ ظَلَّ يرفضَ كلَّ رَشَاوَى الْمَوْتِ، ليعيشَ كما يشاءُ العاشقونَ.. فعاشَ شاعرًا.. عاشَ عاشقًا..
ولأنَّه أحبَّ الحياةَ فلم يَمتْ.. ولأنَّهُ عَانَقَ الحُبَّ فلم يَمُتْ.. ولأنَّهُ تأبَّطَ وطنًا تسكنُهُ الشُّمُوسُ، وتستوطنُهُ الحوريَّاتُ والنَّوَارِسُ والفَرَاشَاتُ.. وتفرشُهُ السَّوَاسِنُ والأقاحي فلم يَمُتْ.. ولأنَّهُ حملَ بينَ جوانِحِهِ بْذارَ الحيَاةِ.. أزهارًا وأطيارًا وإنسانًا وأحلامًا فلم يَمُتْ.. لم يَمُتْ.. علي صدقي الشَّاعِرُ الْحَالِمُ الإِنْسَانُ.. لم يَمُتْ.. عليٌّ الطِّفْلُ الكبيرُ.. لم يَمُتْ..
فطفولةُ الشُّعرَاءِ لا تشيخُ.. قلوبُهُم لا تَشيخُ.. وأحلامُهُم لا تنتهي بالتَّقَادُمِ.. أمنياتُهم لا تُسْلِمُ دفئْهَا لبرودَةِ الرَّجَاءِ.. ولا لِطُولِ الأملِ.. إِنَّهَا تخلقُ أملَهَا الذَّهبيَّ من داخلِهَا.. ومن يحملُ في قلبِهِ وطنًا لا يموتُ ؛ فالأوطانُ لا تموتُ.. من يحملُ في أعماقِهِ حُبًّا لا يَمُوتُ.. فالحُبُّ الحقيقيُّ يبقى شمسًا، ومطرًا وأزاهيرَ، وحكايا دافئةً لا تنامُ.. الحُبُّ الحقيقيُّ وطنٌ لا تَغْرُبُ عنهُ الشَّمْسُ، ولا تَمَسُّهُ يدُ الفناءِ..
أجل، لم يَمُتْ ؛ إذ كيفَ يموتُ من يحملُ في قلبِهِ وَطنًا لا يموتُ.. كيف يَمُوتُ من تُنْشِدُ الغَيْمَاتُ شِعْرَهُ.. وتتلو النَّسَمَاتُ قصائدَهُ.. وتتعطَّرُ الحدَائِقُ بعطرِهِ.. وتكتبُ المَوَاسِمُ باسمِهِ عهودَهَا مَعَ الخصبِ.. من تُحيِّيهِ الشُّمُوسُ صَبَاحًا.. ويتلو لَهُ القَمَرُ العَاشِقُ مرسومَ تنصيبِهِ أميرًا للعاشِقينِ.. وتطبعُ النَّجمَاتُ العاشقاتِ على جبينِهَ قبلاتِ قصائدِهَا الضَّوئيَّةِ.. ذلكَ الذِّاهِبُ في أحلامِ الطُّفُولَةِ عُصْفُورًا.. ووعدًا وقوسًا تتزنَّرُ بِهِ السَّمَاءُ.. ذلكَ الرَّاحِلُ في الحيَاةِ، الطَّاعِنُ في المَوْتِ.. الْمُرْسِلُ إلى اللهِ قَلبًا لم يساورْهُ غيرُ الحُبِّ.. وَرُوحًا لم يملأْهَا سِوَى حُبِّ الوطنِ.. !
_________________________
* ورقةٌ احتفائيَّةٌ قدَّمها الكاتب في حفل تأبين الشاعر الراحل التي أقامه المركز الثقافي المصري بطرابلس.