قصة

حكمة ظالمة

 

أسند الجسد  المتعب على المرفق، وتأمل زوجته النائمة بقربه،… وهي تحتضن دمية صغيرة…عادة سرقتها من طفولتها ولم تشأ أن تفارقها،….كان وجهها المكابر ذابلاً،قد بدأ الزمن، دون أن يستشيرها، ينقش بأزميله الجائر بصماته الفاضحة على صفحته،….. خداها اللتين كانتا في أفق مضى منارتين للعيون المسافرة،كانت ضامرتين،مطفأتين،قد امتصت منهما الحياة،…..وأهداب عينيها التي كان الصيادون يملأون منها  كنان سهامهم يوماً ما، قد جفت جذورها، وأكل الملح سيقانها فتساقطت على الوسادة هزيلة شاحبة.

لأول مرة قاس المسافة بين عمرها وعمره، وجدتها شاسعة كحدود السراب، في أركانه ابتسمت له صورة زوجته الأولى التي استعجلت الرحيل، فشرع إلى طمرها في دهاليز الذاكرة، وكتم دموعاً شرعت بفضح الحنين.

مد يده المعروقة، المرتعشة ومسح  على شعرها المتوسد الوسادة بقربه، شعرها الذي أهملت صبغه ربما لينفر منه، وربما لأنها هجرت المرآة منذ التصقت به فلم يعد يفزعها توشحه بالفضة.

تذكر أنها طلبت منه الترنيمة المعتادة قبل الهجوع إلى النوم الليلة الماضية، تذكارها الدائم،حلوى السكر التي تتأمل فيها اللذة، فلا تستطعم غير العلقم، مفتاح الكنز الذي يظل يعبث مرتعشاً في قفل القلب، فلا يفوز بغير الهزيمة،…كانت تطلب  أن يهمس لها بالكلمة التي ملّ هو من تكرارها، دون أن تملّ  هي من سماعها كل ليلة بل وكل حين،ثم تحيره تلك الغيمة الشتوية التي تلبس وجهها عندما يلبي طلبها ويهمس (أحبك)، وتوخز قلبه تلك الدمعة التي ظلت تتأرجح منذ خمس سنوات في مقلتيها، ثم تتمرغ روحه في العذاب، عندما تدير له ظهرها وتقول بجفاء يحطم بقايا آمال في نفسه:

–  تصبح على خير !

حين تركته زوجته الأولى للوحدة،والانتظار المر،والكآبة القاتلة، وأنشغل أولاده عنه بحياتهم الخاصة،لاحت هي في الهجيع الأخير، بشرى لفجر جديد، نسمة تبعث الانتعاش في خريف حياته، آية فنية يجتر في تأملها ذكريات الزمن المفقود ،شمعة معطرة تنير ليل وحدته ،حلم بحنان أبدي يملأ فراغ نفسه  وينسيه النهاية المحتومة إلى حين.

منذ خمس سنوات التقاها، جذبتها إليه نظراتها القلقة الغارقة في الخوف من الوحدة،ذلك  الحزن الذي انكمش في قاع عينيها، حركة يديها المضطربة الباحثة عن الأمان، عصبيتها الصارخة بالحرمان، سيف لسانها الحاد الثائر الناطق بهزائم متكررة.

تأملها في غفلة من الزمن ومنها، فرأى فيها أميرة من أميرات اليونان،فاتها المركب فلم تتقوقع على نفسها تنتظر عودته  على الرمال حزينة راضية، وإنما سافرت بسخطها إلى كل المرافئ، وبحثت بقلقها في كل النواحي، واستخدمت بخوفها كل متاح لتلحق به، وظلت الهزيمة تلاحقها في الحل والترحال، فتعلقت في النهاية بطوفه المهترئ.

ورغماً عن الزمن الراكض، فقد كانت عيناها الخضراوان كواحتين يغريان المسافر بالراحة، سورهما الكحل فصارتا كحصنين يغريان بالأمان، أهدابها الغزيرة كمروحتي السلطان، تبعث الانتعاش في النفوس المضطربة،طلتها بالمسكرة فصارت تثير الدعوة لنشر الأشرعة و المغامرة في المجهول، خداها كتفاحتين فاتهما موسم القطاف، ذرتهما بأحمر الخدود الناعم فصارتا تثيران الشهية في القلوب الجوعى،أما شفتاها فكانتا دعوة حقيقية لمغامر  مثله بتعويض ليالي الوحدة.

بخبرته الطويلة في الحياة عامة، وبالنساء خاصة، قرأ في تلك الصورة قصة حياتها، رآها وردة ناضجة تنضح بالأنوثة والحياة، ترغم كل العيون، للرجال والنساء  دون إرادة و دون استثناء للإلتفات ناحيتها، وتدعو بصورة ما كل القلوب إلى التفكير فيها ولو بصورة عابرة، رأى النساء تغار منها،ويتهمنها بالطيش والكبر، والرجال يتمنونها في سرهم وعلانيتهم،يركضون خلفها يلتمسون رضاها،يغرونها بالشقة الفخمة، والسيارة الفارهة، وجرار الذهب، والرصيد المصرفي الضخم، خدعها شبابها، وأغرتها أحلامها،فلم تعرهم اهتماماًً، بل لعلل عيناها قد تطاير منهما الاشمئزاز مرغماً والتصق بقلوبهم فأصابها باليأس، رفضت  كل عطاءاتهم، فاتهموها بالغرور أو الغباء، أو أنها كانت تتعبد  في محراب حب مضى، أو أن مي زيادة قد أعارتها شيئاً من أحلامها.

عندما لاحت لهم  أول تجعيدة على جبهتها، وضحكت لهم أول شيبة في شعرها، أداروا ظهورهم، وصاروا يركضون خلف صورها المتكررة خلفها.

 وعندما عدت هي الشموع على كعكة عيد ميلادها فوجدتها أربعين، أقشعر بدنها، وفزعت.. صارت تركض خلفهم…. تلتمس  رضاهم، تتمسح  بقاذوراتهم، فوصموها بالخرف والعار.

قطفها هو قبل تمام الذبول، زهرة تناسب ضيق خياشيمه،….من الممكن أن البعض اعتبره  خفيف عقل أو مخرفاً أو مجنوناً، ومع هذا غامر وقطفها، وطوت هي كل مشاريع الوهم ودفنتها في أقصى بقعة في الذاكرة.

اعتقد أنه انتشلها من الوحدة والحرمان، وأنها ستنعم بدفء قلبه العجوز، فتلون خريف العمر بالأزاهير، لكنه كان واهماً، إذ أنها  لم تهدأ، حولت خريف عمره إلى جحيم في رحلة البحث عن طفل….وتجرأ وسألها:

– لماذا الأطفال، أنا لدي أولاد سيمنعون اسمي من الاندثار، وأولادي هم أولادك،…هكذا قلت لي  ليلة الزفاف،….. ولأكون منصفاً، أحفادي هم أولادك، لماذا لا تكتفين بي، أونس وحدتك، وتؤنسين أيامي الباقية ؟لماذا لا نبتهج مع الحياة، ونعيش اليوم والغد ؟

فقالت بألم آلمه:

– وهل بهجة الحياة سوى طفل ؟

تنهد بحرقة للذكرى، ثم أودع قلبه الوسادة وربت يهدأه بقربها، وهم بالنهوض، فواجهته صورته في المرآة،…. أقترب من المرآة التي هجرها هو الآخر منذ أن عرفها، تأمل غمامة الوقار التي تكلل الشعر واللحية، خطوط الحكمة على الجبين وحول العينين، وشواهد الخبرة بالحياة في تقوس الظهر وارتعاش اليدين.

رسم ابتسامة على شفتيه، وتنهد بارتياح.

 في قاع المرآة عادت له صورة زوجته النائمة على السرير، فهمس بأسى:

– سامحيني لأني ظلمتك مرتين، وربما سأظلمك للمرة الثالثة، ولكن تأكدي أن هذا أفضل لي ولك.

 أنسل خارج الغرفة، وقبل أن يوضب أشياءه، التقط سماعة الهاتف، وطلب رقم دار المسنين.

مقالات ذات علاقة

و.. ط .. ن

جمعة الفاخري

النبوءة

قصتان مدلهمتان

محمد دربي

اترك تعليق