فيما كان الأهتمام بتلك الفترة منصباً حول الشعر في المشرق العربي بمصر والعراق ولبنان تحديداً مع أشهر نجومه حينذاك , كانت قصيدة ذات حساسية مختلفة تتشكل في اليمن على يد بعض المجددين , وبرغم محافظتها غلى النسق الكلاسيكي والطابع التقليدي الذي أخذ تأثيره الكبير في الأنحسار مفسحا المجال للبناء الجديد والشكل المستنبط والذي لم يلبث أن خلب لب الكثيرين من القراء وقبل ذلك الشعراء فساروا في طريقه تقليداً وانبهاراً بالجديد , وسط تلك المعمعة والمخاض العظيم واصل شاعرنا السير في النهج القديم من ناحية الشكل فقط وكان ابن لحظته من ناحية المحتوى مُعبِراً بهذه البنية عن راهنه مختزلاً داخل متنه حرارة مشاعره ودفق أحاسيسه وبوح وجدانه مؤاخياً بذلك ما بين القديم والجديد اللذان اجتمعا لديه في ثوب واحد على تنافرهم الظاهر في وحدة فنية متناغمة ولم يعارض الجديد وكان يصر دائماً على أن الشكل في الشعر يحل في المرتبة الثانية بعد التأثير المفترض أن تُحدثه الكلمات في الأنفس والأنفعال الذي تثيره في الوجدان .
وفي ظل ظروف قاسية عاشها الإنسان اليمني عامة ووسط صراعات حادة وانقلابات دموية شهدتها البلاد أواسط القرن المنصرم وفي وجود آثار استعمار ظل جاثماً أزماناً على البلاد لتحل من بعد جلاءه مرحلة لا تقل عنه ظلامية وانعزالاً مع سيطرة ظاهرة الأمامية وقفزها إلى المواقع المتقدمة في السلطة متمثلة في حكم الإمام بما يفرضه ذلك من انعزالية وإعلاء للنزعات الطبقية وتعميق هوة الفوارق ما بين أفراد الشعب .
بقلب كل أسباب التخلف تلك ولِدَ شاعرنا عام 1925 بقرية البردون التي استمد منها كنيته والتابعة لمحافظة صنعاء , بهذه القرية عاش الشاعر بدايات حياته أين أُصيب بالعمى المبكر أثر هجمة من هجمات الجدري الذي كان يزور اليمن بين الفينة والأُخر مُخلفاً وراءه ضحاياه بين مشوه ومعاق ومغلوب بالموت .
عاش الشاعر طفولته التي لم تكتمل – لأنه كبُرَ قبل – أوانه في كنف عائلة فقيرة يشتغل مُعيلها بالزراعة , وفي الخامسة من عمره فقد نعمة البصر بعد صراع دامَ سنتين مع مرض الجدري وتركت محنته تلك في نفسه شرخاً عميقاً وجرحاً غائراً بقى عصياً عن البرء حتى آخر حياته وتجلى أثر تلك المكابدة خاصة في شعره ذي الطابع التشاؤمي والعبثي , غير أنه استعاض عن فقده للبصر أو عوضته الأقدار بحدة البصيرة ونوراً في القلب وقذفت بين جوانحه شعاعاً من ضياء وبدلاً من أن يكون ذلك نقمة له وللآخرين المحيطين به أضحى نعمة , فلربما كان البردوني شيئاً آخراً غير الشاعر لو لم يصاب بالعمى ورُب ضارة نافعة .
ألتحق ببداية عمره بكتَّاب القرية وحفظ أجزاء من القرآن الكريم ثم استهل الشاعر تعليمه بمدرسة القرية الأبتدائية لمدة عامين قبل أن ينتقل إلى مدرسة أُخرى بمنطقة ذمار التي سيستقر فيها العشر سنوات التالية أين اطَّلعَ على الكثير من الكتب وقٌرئ عليه كل ما وصلت إليه يده , بدأَ بقرض الشعر عند بلوغه الثالثة عشر ونظراً لحالة الحرمان الذي كان يعيشه بدأ شعره هجائياً تشاؤمياً محملاً بالشكوى والأنين , قادتهُ طريقه بعد ذلك إلى صنعاء وهناك انخرط في دار العلوم التي عُيِنَ بعد تخرجه منها عام 1951 أستاذاً للآداب العربية بها وقد بثَّ هذا النجاح الذي أحرزه في نفسه الكثير من الأمل وضخ في روحه الواهنة جرعات زائدة من التفاؤل رغم الظلامين اللذان كان الشاعر رهيناً لهما وهما العمى والفقر .
درس النحو والفقه والبلاغة وأصول الدين والصرف الشيء الذي مكنهُ من بناء قاعدة لغوية ومعرفية عظيمة ساعدته عند تعاطي الشعر وتحرير القصيدة ومباشرة القوافي .
البداية الفعلية مع الشعر كانت في الأربعينات وحتى عام 1961 بهذه لفترة الفارقة والفاصلة في حياة الشاعر وفي مصير بعض شعوب المنطقة تجمعت لديه ثمانية وخمسون قصيدة دفع بها للنشر بعد أن مهرها بأسم ” أرض بلقيس ” وكانَ بذلك إصداره الأول .
واختار البردوني نهجه الشعري وواجبه الإنساني مبكراً بوعي من ذاته مُعرِضاً نفسه للمخاطر بدعوته للحرية والعدل والمساواة لأنهُ كذلك ليسَ معزولاً عن المُحيط الذي يحيا به , ففي الوقت الذي اتجه فيه الكثير من الشعراء إلى التزلف والتقرب من السلطة أختار البردوني متحدياً أن يشذ عن هذه القاعدة ويحيد عن هذا الطريق وتوجه بقصيد تهكمي إلى رأس السلطة الغاشمة والتي كان من الممكن أن تؤدي به إلى التهلكة جراء صراحته الزائِدة وجرأته الغير محسوبة العواقب حيثُ يقول في بعضاً من قصيدة هي أشهر من نار على علم مخاطباً عيد الجلوس على كرسي الإمامة كذات واعية ومتفهمة في إشارة من طرف خفي إلى من يجلس على ذلك الكرسيّ .
عيد الجلوس أعِر بلادك مسمعا \ تسأل أين هناؤنا هل يوجدُ
تمضي وتأتي البلاد وأهلها \ في ناظريكَ كما عهدت وتعهدُ
يا عيد حدث شعبك الظامئ متى \ يروى وهل يروى وأين الموردُ
فيما السكوت ونصف شعبك ها هنا \ يشقى ونصفٌ في الشعوب مُشردُ .
بهذا الموقف الشجاع استهل البردوني مسيرته الشعرية الظافرة التي امتدت على رقعة حوالي الستون عاماَ وحتى أواخر القرن العشرون حيثُ وافتهُ المنية عام 1999 عن عمر يناهز الرابعة والسبعون .
ونتيجة لمعاناته الشخصية وإضافة إلى الهمّ العام الذي تراءى له وانشغل بهِ مُذ خبُرَ العيش ووعى الحياة جاء جل شعره عبقاً بأنفاس الحياة ودفء المشاعر معبراً عن مشاغل الروح ناشِداً يِهِ الحرية والسعادة والحياة الكريمة لنفسه وللآخرين , متوسِلاً في ذلك الصراحة تارة والتلميح والإشارة العابرة تارة أخرى عبر عدة تقنيات متاحة استثمرها بكفاءة ومزجها ببعضها البعض مثل السخرية في وجه المأساة ومواجهة الشقاء بالتفكه والتهكم , هذا علاوة على اعتماد النبرة اللاذِعة واللمحة الجارحة والصورة المعبرة والدالة , واستلهامه للرموز التراثية من شخصيات دينية وتاريخية وأدبية وصوفية وتماسه مع الموروث الأسطوري والخرافي وخلق حواريات مقنعة بين شخوص يستحضرها بقوة الشعر .
وفي جانب الشكوى المريرة التي استحوذت على كم معتبر من أشعاره , إذ يقف الشاعر عاجِزاً إزاء أسرار الوجود الكبرى وغموض الحياة والأسئلة العصية عن الإجابة فيقول :-
أمامي غيوب وسر رهيب \ وخلفي عذاب وماضي مرير
إلى أين أمضي وهل أنثني \ أمامي خطير وخلفي خطير
ويقول أيضا :-
وحدي وراء اليأس والحزن \ تجترني مِحن إلى مِحن
أحيا كعصفور الخريف بِلا \ ريش بلا عش بلا فنن
أقتات أوجاعي وأعزفها \ وأُشيد بين أصدائها سكني
وأتيه كالطيف الشرير بلا \ ماضٍ بلا آتٍ بلا زمن .
وكتب الشاعر في كل الأتجاهات التي تم عرض بعضها دون أن يتخلى عن التأليف في الأغراض التقليدية من مدح وهجاء ورثاء ووصف وتغزل وفخر وغيرها من الأغراض إضافة إلى قصائد الذكريات والمناجاة والقص الشعري والأشعار التي جاءت كثمرة لحزنه الشفيف ومحاورة الموت والتغني بالوطن وبالأمل والحلم وأغاريده التي تبشر بغد أفضل ومناصرته لقضايا الأمة وارتبط من جانب مقابل بأحداث عصره المؤثرة بعدة قصائد كتلك التي تناول فيها حرب الخليج الأولى وفضح فيها أطماع أمريكا وإسرائيل في ثروات وأرض العرب .
ولأنه عاش متألماً طيلة حياته وعانى من الفاقة والعوز أبى في نوبة من نوبات احتجاجه إلا أن يحذر المسئول من تجرعه لكؤوس الألم قائِلاً في نبرة حادة ومتوعدة تٌنبئ بالثورة وتُشي بالغضب إذ يتقمص روح الشعب :-
لماذا الجوع لي والقصف لك \ يناشدني الجوع أن أسألك
وأغرس حقلي وتجبيه أنت \ وتُسكر من عرقي منجلك
لماذا وفي قبضتك الكنوز \ تمد إلى لقمتي أنملك
وتقتات جوعي وتدعي النزيه \ وهل أصبح اللص يوماً ملك
لماذا تسود على شقوتي \ أجِب عن سؤالي وإن اخجلك
لماذا تدوس حشاي الجريح \ وفيه الحنان الذي دللك
غداً سوف تعرفني من أنا \ ويسلبك النبل من نبَّلك
غداً ستلعنك الذكريات \ ويلعنك ماضيك ومستقبلك .
وهي قصيدة طويلة نكتفي منها يهذه الأبيات التي رأينا أنها تعبر خير تعبير عن الأتجاه الذي أشرنا إليه . ومن قصائده الدالة على اتجاهاته الوصفية وتلك التي توظف القص نقرأ هذه الأبيات :-
في هجعة الليل المخيف الشاتي \ والجو يحلم بالصباح الآتي
والريح كالمحموم , تهذي الدجى \ في الأُفق أشباح من الإنصات
والشُهب أحلام معلقة على \ أهداب تمثال في الظلمات
والطيف يخبط في السكينة \ مثلما تتخبط الأوهام في الشبهات
والظلمة الخرساء تلعثم بالروئ \ كتلعثم المخنوق بالكلمات
في ذلك الليل المُخيف مضى فتى \ قلق الثياب مروَّع الخطوات
يمشي وينظر خلفه \ نظر الجبان إلى المغير العاتي .
وتستمر القصيدة في وصف المشهد المثير وسرد الموقف المهيب الذي يكاد لحسن رسمه أن يكون حقيقياً , والملفت بأمر هذا الشاعر أن الوصف المطابق للحقيقة والناقل للواقع بهذه القصيدة وغيرها لا ينم إلا عن تمكن وسعة خيال ومقدرة فذة على الصوغ مع أنهُ من العسير على الذي لا يعرف الشاعر عبدالله البردوني أن يصدق بأن هذا الوصف بدقته وجماله كتبه شاعر ضرير لا يرى بعينيه , لما ينطوي عليه من تفاصيل حسية لا يحسن التعبير عنها إلا من امتلك كافة حواسه مع مراعاة ما يشذ عن هذه القاعدة كما حدث مع شاعرنا .
ولم يثنيه انشغاله بالقضايا الإنسانية والمصيرية الكبرى عن اهتمامه بالشأن الشخصي الذي لابد أن يشغل الشاعر – أي شاعر – بمرحلة ما ونعني به موضوع المرأة فجادت قريحته في هذا الصدد بفرائد رهيفة ذات ملمس حريري إذ يقول في إحداها :-
كلما طاف سمعي صوتها \ هز في الأعماق أوتاراً شجايا
كلما غنت بكت نغمتها \ وتهاوى القلب في الآه شظايا
هكذا غنت وأصغيتُ لها \ وتحملت شقاها وشقايا
جارتي ما أضيق الدنيا \ إذا لم تشق في النفسِ زوايا .
ويقول ايضاً : –
أُغني وهيَ أنفاسي \ وأسكت وهي إنصاتي
وأضمأ وهي إحراقي \ وأحسو وهي كاساتي
أموت وحبها موتي \ وأحيا وهي مأساتي .
ولم يقصر اهتمامه بالمرأة كحبيبة ومعشوقة وتجاوزها إلى المرأة كأم وأخت وزوجة فرسمها كما سمعها وتحسسها بخياله وبقلبه فجاء وصفه لها واحتفاءه بها كوصف الشاعر المبصر وأجمل ,
ونراه في موقف آخر ساخراً من ولاة الأمور الذين كثيراً ما يوعدون ولا يوفون بما عاهدوا الناس عليه وينشد في سخرية ذات نسق جمالي رفيع يجعل من المستهدفين بسهام السخرية والهجاء صِغاراً أمام علوّ الجوعى والمقهورين والكادحين من أجل لقمة شريفة والذين ينحاز إليهم دون مواربة , وتبلغ السخرية هنا مداها الأقصى إذ يقول في قصيدة ” الآتون من الأزمة ”
يا حزانى يا جميع الطيبين \ هذه الأخبار من دار اليقين
فافتحوا أبوابكم واختزنوا \ من شعاع الشمس ما يكفي سنين
قرروا بيع الاماني والرؤى \ في القناني رفعوا سعر الحنين
فتحوا بنكين للنوم بنوا \ مصنعاً يطبخ جوع الكادحين
بدأوا تجفيف شطآن الأسى \ كي يبيعوها كأكياس الطحين
علَّبوا الأمراض أعلوا سعرها \ كي يصير الطب سمساراً أمين
حسنا تجويعكم تعطيشكم \ أنما الخوف من الوحش السمين .
ذلك لأن المستغلين والأنتهازيين يخشون على الفقراء من ميتة التخمة حسب قناعاتهم الراسخة لذا نراهم يجتهدون في أن يظلوا فقراء .
والقصيدة كما نرى من القصائد ذات المضامين الثورية الهادفة , وخلاصة ما يمكن أن نصف به هذه التجربة بأنها متميزة وواسعة رغم أنها لم تحظى بالأهتمام اللائق بها حتى الآن بالقياس إلى تجارب أخرى مجايلة لها أقل منها قيمة فنية وجمالية .
أما عن القاموس الشعري الذي ينهل منه الشاعر ألفاظه وتعابيره ويلون به صوره ويؤثث به مقاصده ومعانيه ليرسل من خلالها زفرات صدره وانفعالاته فقد كان الأليف من تلك الألفاظ والبسيط منها والسهل من المفردات الموحية وابتعد عن المهمل والمهجور من الألفاظ والتراكيب واقترب من الذائع والمتداول وانفتح دونما تردد على اللغة اليومية بغية التجريب والتحرك في مواقع إضافية , كل ذلك في حضور غموض رهيف يطل من وراء غلالة شفيفة وغمامة أثيرية تغلف القصيدة .
لهذه الأسباب يبرز الشعر دائماً بدفئه وصدقيته وانعكاسه الحقيقي لخبايا النفس ولواعج الذات ويتبدى ذلك خاصة في قصائد الرثاء وشكوى الشاعر من الغربة والألم .
ويتأخر من ناحية مقابلة النظم سليل الصنعة وفتور المشاعر وموت الحس لدى شاعرنا الذي تلفحنا حرارة المشاعر في جل ما نقرأ له باستثناء بعض قصائد المناسبات ذات النبرة الخطابية التي تهيمن على فضاءاتها مشاعر المجاملة كما نلحظ ببعض مدحياته , سوى أنً ما تستقبله الذائقة ويترسب في أعماقها أكبر بكثير مما تمجه ويتسرب بعيداً .
ولن نسهو بطبيعة الحال عن أن نشير إلى الموسيقى التي تزخر بها قصائد البردوني باعتماده استعمال البحور القصيرة والمجزوءة حيثُ التزم في الأعم البحر المفرد والقافية الواحدة في كل قصيدة .
لذلك لا نعدم وجود نفس غنائي ولحن خفي في كثير مما نقرأ من قصائد لغزارتها وكثرتها , ذلك أن الشاعر كان قد أصدر حوالي إحدى عشرة ديواناً منها , ” أرض بلقيس ” عام 1961 و ” في طريق الفجر ” عام 1965 و ” مدينة الغد ” عام 1969 و ” لعيني أم بلقيس ” عام 1973 و ” وجوه دخانية في مرايا الليل ” و ” زمان بلا نوعية ” عام 1979 و ” ترجمة رملية لأعراس الغبار ” عام 1983 و ” روَّاغ المصابيح ” سنة 1989 وديوانه الأخير ” جوَّاب العصور ” عام 1992 , هذا عدا عما نثره هنا وهناك ببعض الصحف والمجلات المحلية والعربية أبَّان فترة ازدهار شعره ولم تحتويه دواوينه المتعاقبة , إلى جانب بعض الدراسات ذات الطابع النقدي الأدبي والأجتماعي مثل ” في الشعر اليمني قديمه وحديثه ” و ” قضايا يمنية ” والثقافة الشعبية في اليمن الجمهوري ” وغيرها , وشارك في العديد من المهرجانات الشعرية العربية داخل اليمن وخارجه كمهرجان المربد الشهير بالعراق وحصدت مشاركاته الإعجاب والأعتراف بجودة شعره الذي قرأه على الأسماع وانثال من الذاكرة مباشرة بمؤازرة إلقاء متميز وفريد ذو طعم خاص مع اللهجة اليمنية التي تتمتع بوقع صوتي وجرس موسيقي مُحبب .
___________________
نشرت بموقع الأديب الكبير عبدالله البردوني