انسلَّ ياسر من تحت “اللحاف” الثقيل في صباح يوم ممطر، وانطلق دونما تفكير نحو”الميدان”. لم يتناول إفطاره في ذلك اليوم رغم أنه وجد كأس الشاي بالحليب وصحن الفول وكريات البيض ذات الأسطح المصقولة اللامعة تترجرج في منتصف الطاولة في الصالة.
كان ياسر قد قضى ليلته أمام شاشة الحاسوب متنقلاً ما بين صفحات الـ”فيس بوك” والـ”تويتر”.. أعصابه مشدودة كقدميه… بينما أصابعه منطلقة تنقر على الـ”كيبورد” كعازف جاز أسود في إحدى مقاهي بروكلين…
كل نقرة تبعث حلماً في خيال ياسر..حقّق أحلاماً كثيرة في عالم سحري افتراضي… ينزلق إليه كل ليلة… يخرج من أبوابه المتعاقبة مع بزوغ شرارات الفجر…. مُنهكاً، أشعت الشعر بعد أن داعبته أصابعه بعصبية، أحمر العينين بعد أن امتصتا ضوء الشاشة المبهر وتمدّد كخط الشفق على جفنيه السُفليين.
لم يتجاوز ياسر الرابعة والعشرين… الأوسط بين ثلاثة… الأكبر تخرّج من كلية التجارة ويعمل في إحدى دول الخليج، والآخر يعمل في المنطقة الحرة، بينما مازال ياسر يدرس على مهلٍ في إحدى الكليات بعد أن قرّر تغيير تخصصه.
كان ياسر يهوى الكاريكاتير إلا أنه لا يرسمه، تعجُّ مدونته بالرسومات حتى أصبح من أكبر جامعي وعارضي الكاريكاتير على الإنترنت، يعشق فيه الاختزال ونضوج الفكرة دون صوت أو ضوضاء الكلمات.
أبوه موظف في إحدى المصالح الحكومية، يخرج بعيد صلاة الفجر ويعود مع موعد الغذاء، يرتدي بيجامته، يداوم على القيلولة، ثم يجلس أمام شاشة التلفاز.
يحبُّ ياسر والدته كثيراً….يتمرّغ حتى هذه السن تحت قدميها كالهر… يدفن وجهه في صدرها… تحضنه بذراعيها الممتلئتين وتقبّل شعره الأكرت الفاحم… يعجبه ملائتها وحركتها البطيئة، وهي تتهادى فيما بين المطبخ وحجرة الجلوس وبين يديها سفرة ملئى بالأطعمة، وقطع الخبز المستدير الساخن، وأكواب الشاي الزجاجية. تضع السفرة على طاولة خشبية صغيرة ذات سيقان طويلة مبرومة، تشق الخبز إلى نصفين وتحشو دفتيه وتوزعه على أبنائها…أو تقطعه إلى قطع صغيرة تغمسه في الصحن وتدسه في أفواههم غصباً وهي تصدر ضحكات عالية متقطعة كمفرقعات “المولد” كلما حركوا رؤوسهم أو أكتافهم تمنّعاً أو تذمراً.
كانت يومها قلقة طوال الليل …تطرق على باب غرفته ثم تفتحه ببطء، ينسلُّ من شقِّه خيطٌ باهت رفيع… “ياسر… نام ياحبيبي…” “حاضر…حاضر ياماما”. وبازدياد كثافة الليل وسكونه، وعلو نقرات أصابعه وسرعتها، لم تعد لتجرؤ على فتح الباب واكتفت بنقرتين بلطف دون أن تتكلم.
حين خرج ياسر مُسرعاً في ذلك الصباح… حاولت اللحاق به… فلم تستطع… وقفت عند باب غرفتها… كتمت صوتها بباطن يدها حتى شعرت ببرودة خاتمها على لسانها… وبكت… بكت بحُرقة حتى جفَّ حلقها وانخرطت في سُعالٍ حاد.
فكّرت في الاتصال به، انتزعت نقّالها من جهاز الشحن المثبّت إصبعيه في ثقبي وصلة الكهرباء … إلا أنها شعرت وكأن نملاً لامرئياً يزحف على أطرافها، انتبهت إلى أنها لم تأخُذ إبرة الأنسولين اليومية، ووخزها شعور بأن عليها ألا تتصل به.
رويداً… رويداً…تعالت أصواتٌ من تحت “البلكونة” أشبه بزقزقة عصافير ذات حناجر مختلفة…. رفرف قلبها واتّقد ذهنها، لكنها تمنّعت عن الخروج والرؤية … كانت تفكر في ياسر وحسب.
كان ياسر يمشي في الشوارع والأزقة بخطواتٍ واثقة…. مازال شعره أشعثاً، ومازالت جفناه ملونتين يحفّهما خطٌ أحمر قانٍ. كان نقّاله في يده… ينقر بإبهامه على أزراره دونما توقف، يرفعه صوب عينيه بين الحين والآخر… تتحرك حدقتاه بسرعة كرصاصات رشاشٍ آلي.
مازال ياسر يسير …. نزل من الرصيف العالي الملونة حوافه بالأصفر والأسود، إلى وسط الشارع حيث ازدادت أعداد الراجلين، عيناه تنتقلان فيما بين شاشة نقاله ونعال المترجلين. أمعن النظر لأول مرة فيها، رأى بعضها من “الكاوتش” الرخيص، وأخرى ذات ماركات عالمية… بعضهم ينتعل شباشب، وآخرون أحذية جلدية مُحكمة بخيوطٍ سوداء…. كلها تسير في ذات الاتجاه، وعلى ذات الوقع . كان ياسر يضع حذاءً رياضياً أبيضاً بخط “صح” أحمر، يرتدي بنطالاً من “الجينز” وفانيلة صوفية زرقاء.
وكلما اقترب ياسر من الميدان.. كلما علا وقع الأقدام…. فجأة انتقض ياسر في خطواته، انتابته رعشة لم يتعرّف على مصدرها، التقطت أذناه عن بُعد أصواتٍ أجشّة… ذات بحّة، رددت صداها أصواتٌ مختلطة ناعمة وخشنة تهتف… تغيّرت الخطوات لتأخذ نسقاً آخر ينسجم مع الهتاف المنبعث من الميدان.
حين اجتازت خطواته مدخل الميدان باغته ذاك الشعور الذي طالما تخيّله وهو يشاهد على الشاشة بطل العَدوْ الأسمر يجتاز خط النهاية بمقدمة صدره وقدميه… انطلق ياسر بكل ما أوتي من قوة رافعاً ذراعيه إلى الأعلى صارخاً بملء رئتيه بهتاف الملايين في الميدان.
حين أدارت أمُّه زرَّ التلفاز الذي يتصدّر الصالة في ذلك المساء، كان ياسر قد تسلّق برج المترو الحديدي وجلس مدللاً ساقيه، يلوّح بالعلم الأحمر والأبيض والأسود، بينما تتهادى أمواجٌ من البشر…تعزف سيمفونية الميدان… هطلت دموع الأم… وهي تتمتم “يا ابني…. ياحبيبي”…..
طرابلس: 5. 2. 2011