الإهداء/ إلى الأستاذ رضوان أبو شويشة، تنبأ لي بكتابة القصة قبل أن أكتبها….
رحلت “ناناتي حليمة” من ” كوشة الصفار” يصحبها صندوق نحاسي مستطيل محفوف بمسامير نحاسية منقوشة على اضلاعه، تتدلى من جانبيه يدان تطرقان عليه من حين لآخر، إضافة إلى أربعة مخدات من القطيفة موشاة بخيوط الفضة، واستقرت بالسانية في “الظهرة”.
كان “حوش السانية” يجمع عائلات ثلاث إضافة إلى الأم والأب، لكل حجرته… مثبتة على أحدى جوانبها سدة من الخشب بدرجات… يتدلى عليها ستار، إضافة إلى “بيت الراحة” ومطهرة ومطبخ مشترك. حلت “ناناتي” بينهم وعاشت وسطهم، وتناوبت مع الزوجات الأعباء المنزلية.
تزور أهلها مرة واحدة في الشهر، يصطحبها زوجها “بالكروسة” إلى داخل اسوار المدينة القديمة، يدخلها من أحد أبوابها، ويبقى فيها حتى صلاة المغرب، ثم يعود بها إلى “الظهرة”.
لم تنجب سوى البنات… عشن في السانية وسط أبناء عمومتهن، ثم تزوجن من خارجها.
حين رأيت “ناناتي حليمة” لأول مرة… كانت قد فقدت بصرها… طويلة القامة ونحيفة كعارضات أزياء اليوم، ترتدي “الحولي بالتل”* فوق فساتين ذات ألوان زاهية تنعكس على خدودها الناصعة البياض فتبدو حمراء كثمار العوينة الناضجة.
تجلس متربعة أمام “القصعة” وتتناول بالملعقة حبيبات “المحمصة” التي تسبح في صلصة حمراء. كنت استغرب كيف تحرك الملعقة تخلط بها الدهن، ثم تتصيد حبيبات المحمصة من أمامها ببراعة وتزيل عنها بعض الصلصة حين تميل بالملعقة على جدار “القصعة”، تنفخ في الملعقة دون أن يتناثر منها رذاذ الصلصة، ثم تتلقفها بفمها الصغير الأحمر كحبة الكرز. كانت قليلة الكلام، وكأن كلماتها ارتبطت ببصرها الذي فقدته.
تطلب مني جدتي أن أحضر “الكروانة”* والأبريق المعبأ بالماء، لا تمد “ناناتي” يديها إلا عندما أبدأ في سكب الماء، حينها وعلى حين غرة تمدهما دون تلمّس أو تردّد، أمد لها قطعة الصابون المعطر، ثم أسرع اليها بالفوطة.
حين تنهض إلى الحمام، تومئ إليّ جدتي برأسها، انتفض مسرعة تجاهها، أحبس يدها البيضاء ذات الأنامل الناعمة المحفوفة أظافرها ببقايا الحناء في يدي، أركع عند باب الحجرة وأقرب إلى قدميها البيضاوين النحيفتين نعليها حتى يلامسا أصابعها اللامعة، فتدخل قدميها وهي تقبض على يدي بقوة واشعر وكأنها تتكئ عليها فأزداد اقترابا منها، أرافقها وهي تخطو بخطوات واثقة ومتكاسلة عن خطواتي قليلا. أغلق خلفها الباب وأنتظرها حتى تحرك مقبض الباب، اسارع إلى الضغط عليه وفتحه نحو الداخل بحرص، أمد يدي اليها، أمسك بمرفقها، فتتلمس يدي وتقبض عليها، آخذها خطوة خطوة نحو حجرة الجلوس…
“سلم بنيتي…. ربي ينجحك….”.
تتملص أصابعها من يدي المتشبثة بيدها برفق، تتلمس مكانها وتجلس … ثم تواصل الإنصات لجدتي….
“ناناتي”…
أمعن النظر في عينيها … فلا تتحرك حدقتاها، وتنظر الي….فأستحي وأنكّس رأسي، ثم أرفع عيناي مجددا ببطء نحوهما فأجدهما مازالتا مصوّبتين نحوي، أبتسم فلا ترد الإبتسامة… حينها
فقط أعي بأن البصر قد فارق تلكم العينين السوداوين الواسعتين… فينقبض قلبي وأحزن وأظل امعن فيهما النظر.
“جاها مرض.. ضعفوا عويناتها… لين تبصرت”.
كان يطيب لها المقام أياماً عند جدتي.. وهما “سلفات”* … تفرش لها المندار كل ليلة وتنام إلى جوارها بعد ان ينزعا ردائهما ويلبسا فستاني نومهما القطنييين الطويلين الموشيين “بالراكام”*… تمضيان جزءاً من الليل تتحدثان.. يعلو صوت جدتي بينما تهمس “ناناتي” من حين لآخر.
كان حضورها النادر يضفي على جدتي البهجة وتبدو أصغر سنا، تجلسان طوال اليوم في “الدار العربية” ولا تقومان إلا للصلاة، تتذكران في جلستهما زوجيهما التوأم بطيب الذكر، وأيام “السانية”… يتسقطن أخبار الجيران و”الظهرة”، وأخبار الوفيات والاعراس…ينخفض صوت جدتي تارة ويرتفع في أغلب الاوقات وكأنها ترغب في أن أستمع إلى ما تقول..
“هذه بنية ولدي….”
“ما شاء الله…”
أحب حضورها وبقاءها بيننا، كان الإفطار الباكر أكثر تنوعا وبالخبز الطازج أو “السفنز” المرشوش بالسكر، وكان الجلوس إلى الغذاء أطول وأبهج، وكان العشاء سفرة تشبه الغذاء. كانت “العالة”* والكاكوية في “العشية” لازمة طوال مدة اقامتها…. إلا أن جدتي لا تفتح التلفاز مدة بقاء “ناناتي حليمة”، وكنا نخلد إلى النوم باكرا، ولم أكن أفهم السبب من وراء ذلك إلا بعد أن كبرت.
طرابلس/1. 1. 2011
________________________________
* “ناناتي” كلمة تطلق على زوجة العم بلهجة أهل طرابلس.
* هو الرداء المحاك بالتل، وهو نوع من انواع الأردية.
* “الكروانة” الصحن المقعر ويستعمل في غسل اليدين.
* “السلفات” تعني زوجات الأخوة في اللهجة الطرابلسية.
* “الراكام” تعني قماش الدانتلا.
* “العالة” هي عدة إعداد الشاي جلوسا.