(فصل من كتاب: علم الدراسات الليبية LIBYOLOGY)*
2. اللغة الليبية والبربرية البدئية
لقد صِير إلى الحديث عما عرف بالبربرية(7) البدئية Proto-Berber 1، والبربرية البدئية Proto-Berber 2، في مبحث الكرونولوجيا اللسنيّة glottochronology ، وكان تقديراً أولياً غير مكتمل، تجاوزه علماء اللغة وقد شككوا في جدوى فرضياته، وفي معقولية العودة إلى آلاف السنين في الماضي لدراسة اللغات المنطوقة، بناء على مجرّد اقتراح مستقى من تسلسل الأدلة الأثرية، أي أن هذه الأدلة تُستخدم أساساً ينبني عليه المبحث، لا لمجرد الاستعانة بها قياساً ومقارنةً، بينما لا تتوفر عناصر لغوية مباشرة تكون قيد البحث، كما في علم اللغويات التاريخية مثلاً.
على أننا نستطيع دائماً الاعتماد على نقطة انطلاق ثابتة في تقدير نشأة اللغة وانتظام استخدامها بين الجماعات الرعوية النيوليثية، في عصر الحجريد (العصر الحجري الجديد أو الحديث)، من فضاء عام يبدأ من 10 آلاف سنة ق.م. وهو الفاصل الكرونولوجي المفترض لنهاية العصر الجليدي الأخير، إلى 5 آلاف سنة ق.م. وهو الفاصل الكرونولوجي الثاني المفترض لتفاقم الجفاف وتحول المستنقعات النهريّة في الحوضين الآفروآسيويين (مصر وبلاد الرافدين) إلى أرض صالحة للسكنى والاستزراع.
هذا بشكل تأطيري عام، أما في ما يتعلّق بـ«البربرية الأم» أو «البربرية البدئية»، بجمع التصنيفين السابقين 1 و2، فإننا نصطدم بفرضية مقابلة تستوجب أن نتحدّث بدلاً من ذلك عن أنساق لغوية مختلفة بين الفاصلين الأول والثاني، بحيث تكون هناك ثلاثة أنساق متعاقبة:
1) لغة (أو مجموع لهجات بدائية) (ل1) متبقية من الأدوار النيولوثية الحضارية السابقة، ومجالها الكرونولوجي حتى الألف الرابعة والألف الثالثة ق.م. أي حتى توالي الهجرات القادمة من الشرق والتي احتوت المجموعات المحلية المتناثرة فانصهرت لهجاتها في لغة المهاجرين الشرقية (ل2)، من حيث أن ألأولى متعددة ومتباينة، بينما مثّلت الثانية نظاماً لغوياً واحداً.
2) لغة (ل3) هي نتاج انصهار لغة الهجرات القادمة من الشرق واللهجات البدائية في شمال إفريقيا في الألف الرابعة والثالثة ق.م، نسميها اللغة الليبية، ويمتد مجالها حتى القرن العاشر ق.م. تآثرت هذه اللغة وتفاعلت مع اللغة الفينيقية (ل4) أثناء انتشار الأخيرة التدريجي في شمال أفريقيا، ونشأت تدريجياً لغة فينيقية جديدة مع تأثيرات ليبية، نسميها الليبوفينيقية (ل5)، التي استخدمت في ما بعد الكتابة البونيقية (الفينيقية الجديدة، أو القرطاجية، أو الليبوفينيقية) .
3) مجموع اللهجات البربرية القديمة (ل6) التي تفرّعت عن اللغة الليبية (ل3)، ويستقيم تصوّر مجالها الكرونولوجي مع القرن الخامس ق.م. أي بعد بدء التوطّن الفينيقي في سواحل شمال أفريقيا ونشأة المدن الليبوفينيقية الأولى. استمرّت هذه اللهجات بأطوار مختلفة، بين انتشار وانعزال، تفاعل القسم الشمالي منها مع اللغة الليبوفينيقية (ل5) (8)، وانعزل القسم الجبلي والصحراوي مكوناً فرعاً لغوياً محليَّ النمو (ل6أ)، مع ملاحظة تآثره بلغات أفريقية مجاورة (ل7)، وملاحظة تأثر اللهجات البربرية بلغات لاحقة (ل8) مثل اللاتينية، الشبيه بتأثير الفرنسية في الأمازيغية الحديثة (ل9)، وكما يتضح فإن اللهجات البربرية الشمالية هي التي حافظت على وجودها في شمال أفريقيا في حين تاحتّت أو اندثرت أو رحلت بقية اللغات التي مثّلت في الماضي مجموع المركّب اللغوي في شمال أفريقيا.
في عمق هذه الفرضية لابد من البحث أيضاً عن أشكال من التآثر والتفاعل بين الأنساق اللغوية، فهذه الأشكال هي تماماً ما يعزّز وجود اللغة واللهجة، أيَّ لغة أو لهجة كانت، أو يساهم في تحوّرها، أو تحاتّها واندثارها.
مع مجيء الفينيقيين، وأثناء تكوّن العصر الليبوفينيقي، بإمكاننا أن نتحدّث عن تآثر بين اللغتين الليبية القديمة (ل3) (وكانت ما تزال موجودة آنذاك) والفينيقية (ل4) (القديمة أيضاً، أي في الطور الذي أتى به المهاجرون الفينيقيون الأوائل)، وهو التآثر الذي أنتج بعد ذلك اللغة الليبوفينيقة (ل5) التي نشأت تدرّجاً عبر سلسلة من المراحل بدأت بالمقارنة بين اللغتين، ووضع نقائش مزدوجة ليبوفينيقية-ليبية (ل5 + ل3)، ما زالت تثير الكثير من الجدل. بينما استمرّت اللهجات البربرية (ل6) بأوضاع مختلفة، دون أن تتوحّد لغوياً، الأمر الذي سيجعلها في المستقبل تشهد الكثير من الاختلافات الفونيطيقية والمعجمية، ولكن دون أن تفقد وحدة بنائها اللغوي العام الذي يعود إلى الليبية القديمة (ل3).
عندما نتحدث عن اللغة الليبية القديمة على هذا النحو، فإننا لا نفترض أنها السلف المباشر للغة الأمازيغية الحديثة، ذلك أن التحليل اللغوي يجعلها متحدّرة من مجموع اللهجات البربرية الشمالية القديمة التي انتظم بناؤها بخصائص لغوية أفروآسيوية، ولنا نتساءل تلقائياً: متى نشأت الأمازيغية إذن؟
إن الفرضية السابقة تجعل من الأمازيغية الحديثة نتاج مجموعة من اللهجات الشمالية المتفرّعة عن الليبية القديمة التي لم تتضامّ لتبني نظاماً لغوياً موحّداً، إذ لم يثبت لدينا على الإطلاق أن ليبيا القديمة قد شهدت مثل هذه الوحدة اللغوية في أي مرحلة من مراحل تاريخها القديم. هذا تماماً ما سيلقي بأثره لا حقاً على تنوّع وغموض النقوش اللغة الليبية التي لم تفكّ وظلّت أحجية مزعجة أمام علماء اللغويات.
استنتاجاً، كانت اللغة ليبية قديمة مزيجاً من لغة المهاجرين الآسيويين ومجموع اللهجات البدائية التي وُجدت في زمن هذه الهجرات (الألف الرابعة والألف الثالثة ق.م). لا يمكننا بالطبع تصوّر نسق آخر يشرح السبب الكامن وراء البناء اللغوي الأفروآسيوي في الأمازيغية الحالية التي ورثت تلك اللهجات، فأفروأسيوية اللغة تشترط تلقائياً صلة قائمة بالشرق منذ القدم. أما عدم تماثل معجمها إلى حدّ ملحوظ عن بقية اللغات الأفروآسيوية، فلا تفسير له إلا النشأة المحلية التي تمتد إلى آلاف السنين. هذا بالطبع ما لم نسلّم بفرضية مقابلة تنصّ على أن جميع القبائل الأمازيغية هاجرت من الشرق الآسيوي في زمن ما واستوطنت شمال إفريقيا، وهي فرضية لا يمكن إثباتها إلا بشكل جزئي يوضّح طبيعة البناء اللغوي الأفروآسيوي في اللهجات الأمازيغية، على أن هذه الفرضية لا تتناقض في صورتها العامة مع الجزء الأول من الفرضية السابقة المتعلق بالهجرات، دون أن نميل إلى تعميم هذه الجزء (أي الهجرات) كما فعل الكثير من الباحثين دون دليل واضح.(9)
نخلص باختصار ، إذن، إلى أن:
1) اللغة الليبية (سلف البربرية الأم أو البدئية) وُجدت بعد هجرات الألف الرابعة والثالثة ق.م. من الشرق إلى الغرب، فاحتوت ما كان أمامها من لهجات بدائية نيوليثية متبقية من أدوار سابقة،
2) عن اللغة الليبية تفرّعت اللهجات البربرية بمراحل وأطوار مختلفة، وظلت في الغالب الأعم تعيش وتتطور بمعزل عن بعضها بعضاً، وبشكل مستقل (وهو ما يفسّر ما بينها من تفاوت واختلاف)،
3) ولكن القسم الشمالي منها اكتسب مع القرن العاشر ق.م. نوعاً من الثراء اللغوي عن طريق التفاعل مع اللغة الفينيقية، فتجدّد بناؤها النحوي والمعجمي (وهو ما يميّز ثراء القسم الشمالي عن الجنوبي أو الصحراوي)،
4) وفي المرحلة الأخيرة أخذت اللهجات البربرية شكلها الأمازيغي المعروف، ولم تنشأ أمازيغية معيارية طيلة العصور السابقة بسبب العزلة والتنائي، هو ما يحاول المتخصصون بهذه اللهجات تداركه في العصر الحديث. (10)
**
هوامش
(*) كتاب يصدر قريباً عن دار الجابر ببنغازي ودار تانيت بطرابلس.
7. نصطلح بكلمة «بربر» للدلالة على قسم كبير من سكان ليبيا القديمة، ونسمّي لغتهم «اللغة البربرية»، وهي التسمية السائدة في الدراسات والبحوث التاريخية، ويبدأ مجال الاصطلاح منذ القرن العاشر ق.م. أما قبل ذلك فنستخدم كلمة «الليبيين» أو «الليبيين القدامى»، ويضم تصنيفهم عدداً كبيراً من الأجناس والقبائل (انظر الفصل …) ، ونستخدم كلمة «أمازيغ» للدلالة على متحدثي البربرية الحديثة المعاد بناءها تحت اسم «أمازيغية» منذ الربع الأخير من القرن العشرين .
8. من أشكال هذا التآثر، فضلاً عن البناء الصرفي، مثل وجود الكثير من الجذور الأمازيغية ثنائية البناء، وهي سمة فينيقية أيضاً، أن هناك معجماً مشتركاً أمازيغياً أفروآسيوياً، يشكل نسبة 25% من مجموع المفردات الأمازيغية.
9. من أمثلة هذا التعميم ما ذكره كامب في كتابه «البربر، ذاكرة وهوية»، يقول: «إن القرابة التي لاحظها البعض في صلب المجموعة الحامية السامية [الأفروآسيوية] بين البربرية واللغة المصرية واللغة السامية [العربية]، لا يمكن إلا أن تؤكّد المعطيات الإناسية، وهي التي تزيد كذلك في تعزيز الفكرة القائلة إن البربر يعودون بأصولهم البعيدة إلى المشرق» (ص92). لا يستند هذا التعميم إلا على جزئية البناء اللغوي الأفروآسيوي، وبعبارة أخرى، فإنه (وغيره من نظريات تأكيد الهجرة) لا يستطيع أن يقول شيئاً عن السكان الأصليين الذين تعود أصولهم إلى أدوار حضارية سابقة، ولا عن لغتهم (أو لهجاتهم). إن فرضيتنا التي لا تعوزها الأدلة تقدّم إجابات واضحة عن مثل هذه الأسئلة.