قصة

طماطم يابس

أرشيفية عن الشبكة
أرشيفية عن الشبكة

ترقب الصغيرة الجدة من تحت إبطها وهي تختار حبات الطماطم شبه الرخوة، وتضعها جانبا.. ترفع ذراعها وتتجه بها نحو الحوض، تفتح عليها خيطا رفيعا من المياه وتغسلها بتؤدة وعناية بينما الصغيرة كلها خشية من أن تنزلق أو يتمزق نسيجها من بين أصابعها. يتوسط يد الجدة خاتم ذهبي عليه نقش بلغة أجنبية.. يداها بيضاوان ونظيفتان.. “هذا طماطم مش للماكلة للتيبيس”، تهز الصغيرة رأسها وتنتظر.

تحمل الجدة سفرة الألومنيوم المتكئة على جدار المطبخ والتي تسيل على سطحها اللامع قطرات ماء تتخذ منحنيات مختلفة وهي تنساب جميعها نحو الأرضية، تمسح وجه السفرة بفوطة ثم تلقي بها على الطاولة وتغطيها بقطعة قماش قطني أبيض. تتناول حبات الطماطم.. وتدحرجها من بين يديها لتستقر بسوائلها على السفرة، تشقها إلى نصفين، ثم ترش عليها الملح بغزارة.

تشاهد الصغيرة هذه اللوحة الفنية ذات الألوان المتداخلة من الأبيض والأحمر ورتوش برتقالية ما يشي بشيء من الجمال الحسي.. تمد أصابعها خلسة من تحت ذراع الجدة وتتحسس الملح وعصير الطماطم ثم تلعقه، تمط شفتيها على شكل نصف دائرة، إلا أن الطعم اللاذع يدفعها للعق المزيد.

– “بطلي من غير تبلبيز” تصيح فيها الجدة، فتستفيق الصغيرة من رحلتها البصرية وسط الأواني والألوان وتعيد يدها إلى جانبها وتنتظر في شغف مزيد من الخطوات…

تنفض الجدة يديها وتفركهما جيدا تحت الصنبور وتنادي على ابنتها “هيا تعالي أرفعيه..”، تنطلق الصغيرة وهي تلمس رداء الجدة نحو أمها وتراقب، تغطي الأم وجهها بطرف لحافها، وتضغط عليه بأسنانها، تحتضن السفرة وتحملها، تومئ لصغيرتها برأسها نحو باب الشقة فتفتحه، وتصعد الدرج بسرعة بعد أن ترفع السفرة على رأسها وتتفقد خلوه من الجيران… “فيسع.. فيسع، خفي روحك.. قبل ما يطلع حد”.

تقطنّ الدور الثالث، لذا غالبا ما يكون الصعود ميسرا ودون احتكاك بالجيران الذين عادة ما يكون اتجاههم نحو الأسفل إلى الشارع.. تضع أمها السفرة على صندوق بلاستيكي، تنظر إلى قطع الطماطم وتعيد توزيعها، تحاول الصغيرة أن تفعل مثل أمها فتنهرها..

لم تعرف الصغيرة بيتاً آخر، سوى بيت جدتها، تعيش وأمها معها، ثلاثة أجيال نسائية متناغمة.. يتشاركن في كل التفاصيل، لكن لكل منهن دورها.. الجدة تطبخ والأم تنظف وترتب البيت والصغيرة تدرس وتلعب وتكنس الدرج وتراقب. الحديث بينهن محدود والضحك يكاد لا يكون والتواصل في جمل مقتضبة ومتكررة وإشارات وايماءات.. هدوء البيت مناسب لأن ينطلق عنان خيال الصغيرة إلى  تفاصيل ما يدور حولها..

تسيطر الجدة على المكان وتعشق التلفاز، وتتحكم الأم في الزمان من خلال مواعيد ابنتها وتتحرك صحبة مذياعها، أما الصغيرة فلا تعترف بكليهما، إن حدها المكان قهرته بخيالها، وإن ألجمها الزمان تمردت عليه.

*****

تتكون العمارة من طوابق ثلاث، ويكنى السكان بأسماء مدنهم. ففي الطابق الأرضي شقتان تقطن إحداها عائلة المصراتي وتقابلها عائلة التاجوري، وتعلوهما عائلة الزليطني وتقابلها عائلة الترهوني، أما الشقة المقابلة لشقة الجدة فيسكنها أجنبي يعمل في شركات البترول وحيداً وكثير الأسفار، مما ترك للنساء الثلاث مجالا حرا للحركة، يتركن الباب مفتوحاً، ويصعدن إلى السطح، وينظفن الدرج إلى منتصفه بزاوية تحجب رؤيتهن، أما الباقي المؤدي إلى الجيران فتنظفه الصغيرة..

عائلة المصراتي تكنى أحيانا بلقب “القصير”، كان الأب قزماً، صوته عالياً، وتصحب حركته جلبة وفوضى، تستغرب الصغيرة أن زوجته “مرت القصير” أطول منه، ولا يستوعب عقلها أنه طفل بملامح رجل وأنه أب في آن واحد.. كثيراً ما تمعن النظر فيه من الخلف وهو ينزل السلالم ويميل بجسده يمنة ويسرى بسبب حجم رأسه ويسرع الخطوات نحو سيارة شركة البريد العامة التي يعمل بها.

أما عائلة الزليطني، فعائلها يملك مغسلة في الحي، مواعيده معروفة ولا يراه الجيران كثيراً.

وعائلة الترهوني التي تقع تحت شقة الجدة مباشرة، فيعمل رب الأسرة وكيل عقارات لامرأة مصراتية غنية، يجمع لها الإيجارات ويتعامل مع ساكني أملاكها.

أما التاجوري فطويل القامة، عريض المنكبين، أنيق الملبس يرتدي حلة طرابلسية كاملة يتوجها “بالبسكل”، يضع كرسيه أمام باب شقته في سقيفة العمارة، تميزه نظارة سوداء تبدو وكأنها قطعة من ملامح وجهه، لا يعرف أحد ما وراءها، أعيون مبصرة أم غائمة أم فاقدة للنور؟

هكذا هو، يجلس منذ الصباح الباكر في كامل حلته، يدخل للغداء والقيلولة ثم يعود إلى كرسيه، يتناول عليه كوب الشاي الموشى بالرغوة، ويدخل شقته مساءً بعد أن تغلق الشقق الخمسة أبوابها. لا يلقي سلاماً ولا يرده، عبوس الوجه، مخيف أحياناً، تشي جلسته بالارتياب والمراقبة و”تقييد الأحوال”.

علاقته الوحيدة بالمصراتي، لا يدخل التاجوري شقته إلا بعد عودة جاره من عمله، يتجه نحو مجلسه ويقترب من شفتي التاجوري الذي يهمس في أذنه.. يتكرر هذا المشهد يومياً.

تنحدر زوجة التاجوري من أصول تركية، لا تلتحف “الفراشية” وصوتها يصل حتى سقيفة العمارة.. لا يبدو أن ذلك الأمر يزعجه، لكن الجيران يتندرون عليه بأنه أسد خارج القفص وأرنب داخله.

كانت الصغيرة تخافه.. تطلب من أمها ان تقف على رأس الدرج أثناء خروجها وعودتها من سقيفة العمارة، تسارع بخطواتها القصيرة وهي تمر من أمامه، أحيانا يلتفت معها.. لم تجرؤ على النظر اليه، لكن فضولها في أن يكون مبصراً من عدمه يقلقها، وفي كل مرة تجمع خيوط شجاعتها لتنظر اليه، تنسل من بعضها وتهوى في سكون..

*****

خلال الأيام التالية على وضع “سفرة” الطماطم في “عين الشمس”، تصعد الأم وصغيرتها من حين لآخر، تعاين الطماطم وتقلبه، ثم تحملها بعد آذان العصر إلى داخل البيت وتعيدها قبيل انتصاف نهار اليوم التالي إلى مستقرها. تجلس الصغيرة أمام السفرة وتعاين عن كثب قطع الطماطم، تراها وهنت ثم ذبلت ونزح ماؤها ثم جفت وانكمشت وقتم لونها حتى كاد أن يصبح بنيا.. كيف تتحول الحبات الحمراء اليانعة المتماسكة المنتفخة بالماء لدرجة السيلان إلى هكذا شكل ولون.. تشعر بثقل الدهشة المعبأة بالحزن، وتسري في جسدها دفقات من القشعريرة، وتلطم عقلها أمواج من الحيرة ويتوجس قلبها كقطع الجمر، ويغشى عينيها الواسعتين فضول صبياني بريء. إنها ذات المشاعر التي تنتابها حينما تمر من أمام التاجوري وتحاول أن تستجمع قواها الوهنة للنظر في وجهه.

كما يخيفها مجلس التاجوري، يخيفها منظر انكماش الحبات وتغيرها من قطع بضة فتية إلى مكرمشة يابسة، وما أن تنجرف نحو النوم العميق كل ليلة حتى تطالها كوابيس لعيون وقد تحولت في محاجرها إلى قطع جافة مكرمشة كحبات الطماطم اليابس ثم تدخل بها إلى نفق من ظلمات وكأنها فقدت البصر.

تنهض كل صباح، تصحب أمها في رحلة السطح، تركز عينيها على الحبات الحمراء التي تلسعها سياط الظهيرة، ترفعها نحو أمها وتهم بالسؤال لماذا؟  لكنها ترى على وجه الأم  ابتسامة رضا وهي تتفقد الطماطم أو ترفع السفرة فوق رأسها، فتتراجع….

في اليوم الأخير، بعد أن تأكدت الأم بأن الحبات نزحت تماما من المياه، أنزلت السفرة وسلمتها للجدة التي بعد أن عاينتها بحبور، نزعت عن جلدتها قشورها الجافة البالية.

“القشور للّوسة ماتنسيش”، قالت الجدة وهي تعيد المهمة لابنتها التي أخذت ترص القطع في آلة الفرم المعدنية.. تحرك يدها بقوة وبشكل دائري لتخرج الحبات المنكمشة والجافة من ثقوب صغيرة  كالصلصال، تتمنى الصغيرة أن تعبث بها، لكنها لا تجرؤ بعد كل الجهد والانتظار. تجمع الأم كميات معجون الطماطم وترصه بقوة في “الفرخية” المصنوعة من الفخار وتملؤها تماما، تسكب عليه زيت الزيتون وتغلقها جيدا وتضعها في مكان جاف..

تلتفت نحو الصغيرة وقد تكاثفت حبات العرق على جبينها وبذات ملامح الرضا التي نقشت وجهها وهي تتابع رحلة حبات الطماطم نحو التحلل “أهو الطماطم اليابس لرشتة البرمة… وأهي اللّوسة للبازين”. تلمع عينا الصغيرة، فكل هذا العناء لأجلها.

*****

تناقلت الأفواه في العمارة، كل بلكنته معلومة أن “الزليطني” يستعد للرحيل بأسرته ليس عن الحي فحسب بل عن البلاد بأسرها. ولم يستطع أحد أن يعرف سبب رحيله وهو رجل مسالم وعصامي و”بيتوتي”، لكن شعورا بالريبة بدأ يدور بين السكان كريح القبلي المحملة بالأتربة، إن لرحيله علاقة بهمسات التاجوري في أذن المصراتي.. فالعاملون على أجهزة الهواتف عادة ماينتمون لجهاز المخابرات، وكان “المصراتي” يعمل على بدالة هاتف البريد العام. وهكذا اكتمل المشهد مابين همس التاجوري للمصراتي ومكان عمل الأخير ورحيل الزليطني عن سكنه.

وفي أحد الصباحات، فوجيء سكان العمارة برجل غريب يقطن شقة الزليطني، يبدأ في التجهيز لصيانتها، وحين سألوه عنه قال أنه لا يعرفه وأنه اشترى الشقة من وكيله بموجب وكالة مصدقة في السفارة بروما.

“هرب لروما.. ريته؟”

سمعتها الصغيرة وأمها وهما تعبران من أمام التاجوري الذي قذف بها للمصراتي الذي ضحك بدوره بصوت عال وهو يدور يديه كالطفل.. “هرب… زي الأرنب”. كان التاجوري يبتسم والمصراتي يقهقه وهو يحرك رأسه الكبيرة..

*****

تزور المرأة المصراتية وكيلها عند نهاية كل شهر.  طويلة ..بيضاء، تلتحف فراشية، توفي عنها زوجها، وترك لها مالا يضاف إلى ماورثته عن أبيها. تصعد درج العمارة إلى الدور الثاني وهي تغطي وجهها ولا تلتفت إلى التاجوري الجامد في مكانه كقطعة الطماطم اليابس، لا يدور برأسه  لكن حركة أصابعه تدل على أنه يتابعها بحرص وشغف وكأنه كان في انتظارها. ولم تره الصغيرة يتحرك بعصبية في كرسيه إلا بعد مرورها ملتفتا نحوها حتى انعطافتها مع السلم. ما أن تصعد المصراتية الدرج وتقترب من شقة الترهوني وكيلها حتى تكشف عن وجهها.. هكذا رأت الصغيرة وجهها وتمعنت في تفاصيله.. لا تبتسم، فلا تقترب منها.. يخيل اليها أنها لا تراها رغم أنها تصوب عينيها نحوها..

شغف الصغار بالعيون ينم عن فضول وبحث عن اجابة لأسئلة كثيرة..كانت الصغيرة معبأة كإناء الطماطم الفخاري بالفضول. تراقب كل ماحولها وتلتقط التفاصيل كما تلتقط جدتها حبات الطماطم، لكنها سرعان ما ترفع رأسها وتنظر إلى عيون من حولها.. ومن خلال نظرتهم تشعر برضاهم أو بسخطهم، بصبرهم أو بغضبهم ، بحبورهم أو بقلقهم.  لكن مع المصراتية لم تكن ترى شيئا سوى عينين واسعتين جميلتين مكحلتين….لكنهما عينان فارغتان لا تراها.

تخرج زوجة الترهوني مهللة لوصول المصراتية، يتبعها زوجها من خلفها مبتسما وخجولاً.. تدخل ويقفل الباب في وجه الصغيرة.. يدفعها الفضول إلى الصعود مسرعة إلى شرفة الجدة المطلة على شرفتهم، وتتابع…

ترمي المصراتية بلحاف فراشيتها إلى الخلف تكشف عن ذراعيها المغطيتين بفستانها، وتجلس أمام طاولة صغيرة مع وكيلها، يدفع اليها بالإيصالات والأوراق.. تستمع اليه وهو يلهج بشرح القيمة والمصروفات ومشاكل المستأجرين، لكنها سرعان ما تقاطعه.. “كم لميت في هالشهر؟” يخرج الترهوني من كيس بلاستيكي تكون زوجته قد مدت به إليه أوراقا نقدية مرتبة بعناية.. يعدها أمامها، ثم تعاود عدها، تودعه الكيس وتخبئه بعناية في ثنايا “فراشيتها”.. تنهض فجأة كما دخلت بصرامة واستقامة.. ينهض الترهوني معها، ورغم إصرار زوجته على أن تتناول القهوة التي تكون بين يديها، إلا أن المصراتية تستمر في تعديل فراشيتها وتكتفي بالقول “هيّ بالسلامة”…

*****

رغم رحيل الزليطني.. إلا أن التاجوري استمر في عادته تلك.. ينتظر عودة المصراتي، يهمس إليه في أذنه وهو يقترب منه و يعلو برقبته نحوها حتى يبدو كلسان زرافة تلتهم أوراق الشجر.

وفي إحدى زيارات المصراتية الشهرية.. جاءت وفي قبضتها فتاة صغيرة حنطية اللون شعرها أسود ناعم وعيناها ضيقتان..ابتسمت لأول مرة في وجه الصغيرة التي فرحت بالفتاة…. كان الأمر مثيرا للصغيرة التي أسرعت إلى الأعلى ونظرت من خلال فتحات الشرفة تبحث عن الفتاة، أدخلت عينها بقوة من الشقوق دون جدوى لكنها سمعت الترهوني يشكو للمصراتية من أفعال جاره المصراتي.. سألته “لمن في مصراته؟” هز رأسه وهو يقول “مانعرفش.. هو لقبه المصراتي..”. قال لها أنه يسمع لكلام جاره التاجوري الذي لا يعلمون من أين يستقي أكاذيبه وفتنه رغم أن هناك شكوك بأنه أعمى، وأنه ينسج كرات من الأقاويل وهو يجلس أمام شقته ثم يقذف بها في أذن جاره.. صمتت المصراتية.. رأتها الصغيرة ترشف قهوتها لأول مرة.. بينما الترهوني ترك قهوته تبرد وزوجته تقف فرحة إلى جواره. قبل أن تنهض، سمعتها تقول “أضبحي على بنتي قوليلها هيا”.. نظر الزوجان اليها فردت بلا مبالاة.. “تبنيتها يا ترهوني ولازم نتفاهموا على حقها بعتالي”، ثم وقفت دون أن تنتظر تعليقا على هذه المفاجأة التي قذفت بها خلفها وعقدت لسانيهما. تبعت الصغيرة المصراتية وهي تنزل السلالم بخفة وقد قبضت جيدا على يد صغيرتها الجديدة.. حتى وصلت إلى السقيفة. كان المصراتي في وضع غير مريح وهو يحاول أن يرفع أذنه إلى التاجوري الذي توقف فجأة عن الهمس.. اقتربت من المصراتي وبصوت كالرعد قالت ” يالقصير.. شن دوتك عما وكيلي؟” وأشارت بأصبعها إلى أعلى.. قفز المصراتي في الهواء حتى كاد أن يهوى على أحدى جوانبه.. كان يعلم أصلها وعائلتها ومكانتها.. كما وأنه قد تنبه إلى الفارق بين طوليهما وقد وقفت قريبة منه.. نزلت الصغيرة الدرج سريعا حتى وصلت إلى عين المكان وحفت فراشيتها… ولأول مرة  اقتربت من التاجوري ورأت يديه ترتعشان وذقنه يهتز على وقع كلمات المصراتية… نظرت إلى وجهه وأمعنت في جوانب نظارته السوداء، بل ارتفعت بمشط قدميها محاولة أن ترى ما وراءها…

لم تتوقع ولم تنتظر المصراتية رداً من “القصير”، الذي ظل يهتز ويرطن، ورحلت تشق طريقها بخفة وثقة وصغيرتها ما تزال عالقة بيدها..

انسحب المصراتي سريعا إلى شقته وهو مايزال يترنح. ظلت الصغيرة تبحلق في التاجوري وقد اقتربت منه… حتى رأت تفاصيل زخارف جبته، وصوف “البسكل” وخيوطه السوداء الناعمة، ورقبة قميصه البيضاء الناصعة…

فجأة، مد التاجوري بجذعه إلى الأمام، وارتفع قليلا عن الكرسي وأطبق بيده على ذراع الصغيرة وجذبها نحوه. بدأت الصغيرة في الصراخ، فاقترب بوجهه منها وبدأ يتحسسه محاولا اطباق يده على فمها وهو يقول بغيظ ” شن تديري هني يا بنت..”. حاولت الصغيرة التملص من قبضته دون جدوى، مدت يدها الطليقة إلى وجهه ونزعت نظارته السوداء عن عينيه، ويا للهول.. فقد ظهرت لها كوابيسها… كانتا يابستان، ومكرمشتان ومفطستان وغائرتان، كحبتي الطماطم اليابس… حينها أطلق يدها وأخذ يحرك يديه بفوضى في الهواء ويصيح “هاتي النظارة يا بنت الحرام…”

قفزت الصغيرة السلالم نحو الأعلى لاهثة وهي تصرخ والنظارة في يدها “التاجوري بصير… التاجوري بصير…”.

علم الجيران بما حدث، وانزوى التاجوري في شقته، لا يخرج منها إلا صوت زوجته، وظل سكان العمارة يتساءلون كيف صدق المصراتي التاجوري وأقاويله.. لم يعد المصراتي يحدث جلبه عند دخوله أو خروجه، يسارع بخطواته نحو شقته رغم ثقل جسده و قصر رجليه وكبر رأسه المنكسة منذ ذلك اليوم.

*****

عادت المصراتية في الشهر اللاحق.. وجدت مدخل العمارة رحبا لاستقبالها.. لا رجال يتجالسون ولا يهمهمون ولا يطلقون استشعارهم عن بعد ولا يتحفزون وهي تمر من أمامهم..

إتخذت الصغيرة موقعها على السلم.. ترقب المصراتية تصعد الدرجات برشاقة وتسفر عن وجهها الابيض.. ضحكت لها.. ومالت على صغيرتها وهي تقول.. ” عدي معاها فوق.. العبي” .

*****

تقف الجدة قبالة الفرن، تتحزم بمريلة تغطي جزءا كبيرا من فستانها القطني، تضع الطنجرة الالمونيوم على النار.. تضيف قطع اللحم المقدد ودهنه المتجمد بملعقة تحرص على جفافها وتكرار مسحها بمريلتها، ترمي حبيبات الثوم، ثم تغرف ملعقتين او أكثر من الطماطم المعجون من “الفرخية”.. تتسرب رائحة الخليط المشبعة بالتوابل إلى فتحات أنف الصغيرتين.. “شن تطيب أمك”، ” حناي مش أمي.. وإنت اللي لوطة أمك؟” رمشت الصغيرة بعينيها.. ترددت قليلا ثم أجابت “ايه أمي”..

رن الجرس رنينا محتشما ولمرة واحدة.. همت الصغيرة بفتح الباب.. نهرتها الجدة وذهبت بنفسها لفتحه. وقفت المصراتية على الباب وتحدثت إلى الجدة التي أمسكت بيدها وحرصت على دعوتها للغداء.. “رشتة على كيف كيفك”..

تحلقت النساء الثلاثة والصغيرتان حول “قصعة” الرشتة.. يتصيدن قطع العجين والبقوليات وحبيبات الحلبة السابحة في مرقه، تدفع الجدة بين الحين والآخر بملعقتها قطع القديد نحو ضيفتيها…

غادرت “المصراتية” العمارة وهي تحرص بقبضتها على يد صغيرتها.. نزلت بخفة درجاتها السالكة من لغط الرجال دون أن تتوكىء ذراع السلم.. توقفت مابين شقتي التاجوري والمصراتي، عدلت من فراشيتها وأحكمت إغلاق ستائرها، وانطلقت نحو أضواء المدينة الملونة.

مايو 2016

مقالات ذات علاقة

الساعة الحائطية

إبراهيم دنقو

أقاصيص.. أقاصيص!

محمد زيدان

ورغم ذلك..!

أحمد يوسف عقيلة

اترك تعليق