حين كنت في المرحلة الإعدادية، أدار علينا المعلم سؤالاً عما نرغب أن نكونه حين نكبر، وحين جاء دوري قلت له: شاعر. فقال لي بغضب: الشعر ليس مهنة، قل شيئا آخر ذا جدوى. ولم أكن قد فكرت في خيار آخر، وبتلقائية قلت له: طيارًا. رغبتان لم يكن يجمع بينهما سوى التحليق فوق السحاب. وكانت قصائدنا، أو بعضنا، أو قلة منا، تحلق فوق السحاب، في سديم لا متناهٍ من أحلام اليقظة. كنا حقًا فوق السحاب، وحين لامسنا الأرض فجأة هالنا ما رأيناه: قبورا تتكاثر دون هوادة في تراب أرضنا الذي كم تغزلنا فيه، وفوهات نارية مصوبة إلى كل أحد ولا أحد، وأصواتًا في كل مكان تندب وطنًا ضاع في اللحظة التي عثرنا فيها عليه.
لا أعرف متى بالتحديد، أو أين التقيت بهذا الكائن الغامض الذي اسمه الشعر. أستطيع أن أخمن تقريبا زمنه ومكانه عبر فسحة من التوق، آنذاك، لأن يكون لأحدنا شرفة ما يتلصص منها على حلم الإنسان ووهمه في الوقت نفسه.
كان الزمن سبعينيات القرن الغابر، وكان المكان خلاءً مزدحما بفراغ مترامي الأطراف. هناك وحينذاك تعلمت أن أوشوش الكائنات القريبة من توقي، وأن ألاحق بعناء ودهشة تلك الكلمات المرتبة بعناية على الورق الأبيض، وأُغبط مهندسيها على حنكة التلاعب بالمفردات وبالمعنى. تلك الكلمات الأليفة التي تطرق أسماعنا بجلافتها في مناهج التاريخ والجغرافيا والمطالعة، كيف تتحول بكيمياء عجيبة إلى نغم نتسكع فيه مفعمين باللذة والطرب، وبعطر على حوافها ثري الإيقاع؟. أحببت هذه الشعوذة الكلامية، وسقطت في حبائل هذه الكيمياء الساحرة التي تحيل الكلام المبتذل إلى نص يرقص في الورق، ونحفظه عن ظهر قلب.
كان الشعر رسائلي المشفرة إلى حبيبة مفترضة، وغزلي الأولي في صداقات لم أكتشفها بعد، ومديحي الهامس لكل ما من شأنه أن يجعل الحياة أجمل. وكان، مع ذلك، أشواكي الحادة التي أستنفرها كالقنفذ كلما أحسست بالخطر أو بالخوف.
يراودني إحساس ـ يدفعني الآن للضحك، أني بهذه الشعوذة الساذجة حسبت نفسي قادراً على أن أجعل هذه البقعة المنسية من العالم أفضل، ويمكنني بهذه الكلمات المنتقاة، والمرتبة على يمين الصفحة بعناية، أن أقصف رتل دبابات تسرب في غفلة من التاريخ إلى شوارع أحلامنا وغرف نومنا.
كنتُ، أو كنا، العديدَ من الشعراء الموقنين من جدوى الشعر، نعتقد أن ليبيا محض غزالة شردت وتاهت في أحراش لا تَخبرها، وأن ما يحدث استثنائي، وغير وارد وفق منطق الكلمات المنتخبة والمرتبة بعناية، وأن هذا الوطن الطفل، الطيب حد الدروشة، اختُطِف حينما كان عائدا إلى بيته من حصة التاريخ في نهاية يوم مدرسي، وأن من اختطفه لا يمت بصلة له أو لنا، وأن عودته ممكنة بالمزيد من أدعية الحبر المؤمن بعدالة السماء والأرض.
كنا ورعين حد التصوف، وواثقين بحكمة التاريخ ونزاهة محكمته، وأن كل ذلك سيكون جزءًا مهملاً في أرشيفه الذي أقنعنا بالنهايات السعيدة لكل حكاية. لذلك كان نشيد شعرائنا، أو معظمهم، أو قلة منهم ـممن يثقون ببوصلة الحبر التي ستعيد الغزالة الشاردةـ الحريةَ ، هكذا دون تفحصها، والإنسانَ، هكذا مجردًا، وكأن الإنسان فقط هو الضحية، ناسين أو متناسين مفارقة المصير العابثة التي كم جعلت من الضحايا جلادين.
تغزلنا في قوس قزح كاستعارة باهرة ومثيرة عن التعدد في زمن سطوة اللون الواحد، واستدعينا ذخائر الذاكرة، من الملاحم، والأساطير ورموز التمرد والخصب والقيامة. واستلهمنا حقائب التلاميذ المائلة على ظهورهم وهم يمشون مرحا صوب المستقبل. وصار للشعراء، أو لمعظمهم، أو لقلة منهم، عقيدة جمالية بكون ما يحدث عابرا، وبأن عصابة هبطت من الجحيم البعيد لتختطف ما كنا نعتقد بشدة أنه الوطن. صار لهؤلاء الشعراء حبيبة واحدة، بالمواصفات نفسها، يبثونها لواعجهم، والغاوون يؤولون هذه الحبيبة بكونها ليبيا لا أحد سواها، وكل شاعر تضبطه زوجته متلبسا بعطر المعشوقة يفوح من قصيدته، يقول لها، واثقا من استعارته: هذه المعشوقة هي ليبيا ما غيرها.
صارت مفردة الوطن، أكثر المفردات رومانتيكية، شفرةً لكل قصيدة، حتى أصبحت تجريدًا خاليًا من كل معنى وخاليًا حتى من الإنسان، هذا الكائن الذي لابد أن يكون ضحية كي يكون إنسانًا. أما الجلادون فهم كائنات متوحشة جاءت من كوكب آخر لتخسف الوطن كما في أفلام الخيال العلمي. وفي النهاية كانت حصيلة هذه الشعوذة الأنيقة وطنًا لا وجود له سوى في أطلس الحبر، وإنسانا لم نقابله حتى الآن، ويقينا مؤمنا بأن هذا الجمال مؤجل حتى يختفي المختطفون كما تطمئننا منابر الحتمية والصيرورة ومواعظ التاريخ. ومن يُصْغِ بورع لوصايا التاريخ التي لا تؤمن إلا بالأحداث العظيمة يَسْهُ عن استراق السمع لتلك الأصوات الخافتة، ولهمس الحياة اليومية، ولأنين النزوات الصغيرة، التي في مجملها تسجل التاريخ الحقيقي للإنسان. وأنَّ لنا أن نعثر على تاريخ الإنسان وسط أكداس تواريخ الأمم.
عبر كل هذا الإصغاء الورع كنا ندرك أن حدثا كبيرا سيحدث استجابة لأدعية قصائدنا، وسيُصرح كل شاعر(كمشعوذ ناجح) بأنه تنبأ بكل ذلك في قصائده.. سيعيد نشر مقاطع جامحة تتنبأ بالثورة، كل مقطع يحمل إيحاءً أو تورية أو مجازًا، مثل: المطر أو الشارع أو العنقاء أو الربيع أو غيرها مما تبتكره القريحة، وتلك الشعوذة الشعرية تدين بنجاحها لشعوذة التاريخ نفسه الذي ينتصب كجدار معتم خلف لوحاتنا الشعرية، ولم نكتشف إلا مؤخرًا، أو بالأحرى لم نكتشف بعد، أن الشعر من المفترض أن ينصت لتلك الأصوات المنسية وسط الضجيج، وأن يدون تاريخ الإنسان المذعور في مواجهة تاريخ الأمم، وحينها، أو عندها، كان علينا أن ندرك أن استجابة أدعيتنا واستعاراتنا ومجازاتنا ونبوءاتنا، ليس فقط بالتخلص من عصابة كنا نعتقد أنها لا تمت للمكان ولا للزمان بصلة، ولكن بالتخلص من ذاك الطين العفن الذي نبت فيه كل شيء. فنيل الحرية دون أن نتحرر من فكرنا الضال لا يجعلنا أحرارا، واليقظة من الكابوس لا تعني أن يومنا سيكون على ما يرام، كما أن غمس الإصبع في الحبر البنفسجي لا يعني أن التغيير قد حدث.
خرجنا من نفق معتم لنجد فوهات البنادق والمدافع مصوبة نحو عيوننا. تلك العيون التي حلمت بمصير مختلف بمجرد نهاية تلك العصابة. آه لو كنا نعرف أن الجلادين لم يأتوا من كوكب آخر، لكنهم من نبات هذه الأرض التي أكلنا عشبها وشربنا ماءها جميعا، وأنهم نتاج طبيعي لجغرافيا قاسية وتاريخ مشعوذ مازال يمارس خداعه السمعي والبصري، وأن هذه البيئة التي أنتجت طغاتها ما زالت صالحة لأن تضخ مزيدا من الطغاة، وأن المتفرج على اللعبة سيكون هو الضحية دائما، وسنظل ننعته في شعرنا ونثرنا بـ(الإنسان)، وسيظل الحديث عن حقوقه، حقوق الإنسان، ترفَ المنظمات التي تحولت بسرعة إلى الاهتمام بحقوق الإنسان لدينا بعد أن فرغت من تكريس حقوق الحيوان في تلك المجتمعات التي عنّ لها يوما أن تتحكم في التاريخ، وأن تفكر ـفي لحظة شعرية متقدةـ في أن المواطن أهم من الوطن، وأن الحكايات عن الإنسان هي التي تصنع تاريخ الأمم.
فهل يغدو للشعر مكان وسط هذه الفوهات المتثائبة قرب أَسِرتنا؟ هل بالإمكان أن أقترح جملة شعرية، وأنا حين أدير مفتاح سيارتي ينقبض جسدي كله في انتظار انفجارها؟ هل ثمة براح للشعر حين يختطف السياسيون والعسكريون اللغة ويجعلونها مادة لأكاذيب لا تنتهي وشتائم لا تستحي؟ هل ثمة فرصة للقصيدة حين تسرق نشرات الأخبار كل صنوف الاستعارة والكناية والمجاز؟ هل ثمة حظ للشعر حين تصادر رصاصة طائشة، أو غير طائشة، الخيالَ، كل الخيال؟.
قد يقول قائل، وما أكثر ما يقول القائلون، أن هذه مرحلة لابد منها، وأن هذه طبيعة الثورات، وأن ليبيا وضعها استثنائي، وأن كل ذلك تداعيات طبيعية لنهاية نظام غير طبيعي. حسنا، كل ذلك قد يكون حقيقة، ولكن الحزن والخيبة والإحباط حقيقة أيضا. فامنحوني حق ألا أقرأ شعرا هذا المساء، واعذروني ، لعل اللغة المختطفة ستعود يوما لبيتها في القصيدة بعد أن تدفع الفدية، ويكتب الشعراء السعداء في وطنهم السعيد عن: ربيع حقيقي عبّر عن نفسه بفراشة هبطت بأمان على كراسة تلميذ في الحصة الأولى، أو عن غزالة ترتع العشب في ريف المدينة دون أن تجفلها رصاصة، أو عن أم تنتظر أبناءها على العشاء وهي على يقين أنهم سيأتون في الموعد، أو عن موسيقى تتهادى من بيت ريفي صغير تحيطه أشجار السرو وتنمو على عتبته أزهار المانديليا، أو عن امرأة ليبية تسير في الشارع، منتصف الليل، دون خوف، أو عن جارة تطرق بيت جارتها بصحن حساء ساخن، أو عن شاعر مات كما يشتهي وترك قصائده عن الفراشات والأمومة والموسيقى وحبيبته التي كانت تسير في الشارع إلى موعدها دون خوف.
أترون؟ أنا من جديد أحلق فوق السحاب.
* دعيت إلى أمسية شعرية أقامتها جمعية أصدقاء اللغة العربية ببنغازي يوم 22 مارس 2014 م وقررت أن أكتب بعض سطور اعتذر من خلالها عن المشاركة ولكني لم أستطع التوقف عن كتابة الاعتذار، وكان هذا النص.
______________
نشر بصفحة بوابة الوسط