طَوَى الجَزِيرَةَ حتى جاءَني خَبَرٌ فَزِعْتُ فيهِ بآمالي إلى الكَذِبِ
المتنبي
(ليبيا التي رأيت ليبيا التي أرى محنة بلد) كتاب للكاتب التونسي، المنصف وناس، صدر في طبعته الأولى مطلع هذا العام 2018 عن الدار المتوسطية للنشر في تونس وقرأته مثلما قرأت نتاجه السابق عن السلطة والمجتمع والجمعيات في ليبيا ثم الشخصية الليبية، ورغم جهوده ومحاولته في سبر غورنا وبحث مشاكلنا، إلا أن السيد وناس كثيراً ما يرتكب التباسات ويقع في تشويشات قد لا نجد لها عذراً فيظل يخلط ويفسر ويحلل وفقاً لإسقاطات المدرسة التاريخية الفرنسية التي تطبقها في الغالب المدرسة النخبوية التونسية، وهي في الواقع لا تركب علينا، وأنا هنا لا أريد أن أناقش الكثير مما يقوله في كتبه عنا، لكنني أشعر في كتاباته بنوع من محاولة الأستذة علينا وتعليمنا تاريخنا، وذلك أمر يصعب عليه كثيراً، لقد حدث هذا في غياب مؤرخينا وكتَّابنا الذين انشغلوا بأمور أخرى، وفيما مضى وحتى لاحقاً كان الكثير من الكتَّاب والمؤرخين غير الليبيين يعرفون واقعنا ويكتبون عنا بتجرد، وإن حدث لبعضهم أخطاء والتباسات.
في بعض فصول الكتاب تخليطات عجيبة وجهل بالواقع الليبي من السيد وناس، وهو الذي يدَّعي معرفته بنا وبوطننا ربما أكثر منا، وأبسط مثال على ذلك ما كتبه وكرره عن الجيش الليبي وأصول أعضاء مجلس قيادة الثورة السابقين، فمثلاً عوض حمزة ذكره بعوض حمزة الشلوي من قبيلة الشلاوية، وهو ليس كذلك بل من الكراغلة في قمينس، وعبدالمنعم الهوني من جنزور وذكره بأنه من قبيلة الهوانة في هون، والهوني هنا ليس لقباً بل اسم للجد، ويخلط بين الجبارنة والسعادي، ويشير إلى أن أبوبكر يونس من مواليد واحة الغويلة، فأين الغويلة في ليبيا، ومختار القروي من سوق الجمعة وهو ليس كذلك لكنه من طرابلس المدينة، ويتحدث عن الاستقلال الليبي بأنه هش، ويؤكد أن الجيش الليبي كان يعج بالبعثيين ربما لغاية في نفس المنصف لأنه قد يكون من بعثيي تونس المعاصرين فيما أعلم، ثم في اعتماد واضح على تقارير فتحي الديب المعروفة دون أن يشير إلى مصدرها، وهو كتابه الشهير (عبدالناصر وثورة ليبيا) يصنف مصطفي بن عامر بأنه وطني إسلاموي، وأنيس اشتيوي ماركساوي، ومسعود بويصير يقصد صالح ولكنه مضي دون أن يشعر إلى أبيه بأنه قومي إسلامي، وغير ذلك من الأخطاء والتفسيرات من التي في غير محلها على وجه العموم، ولعل السيد وناس التقي ببعض النخب الليبية وأخطأ أيضًا في ذكر أسمائها الصحيحة، فقد صار فتحي البعجة فتحي بعاجة على سبيل المثال، ويبدو أن بعض هذه النخب التي ذكرها في كتابه لم توضح له الكثير أو ربما لم يفهم منها ما قالت أو أشارت بها إليه فأسقط تاريخنا وفقاً للتحاليل الفرنسية السائدة لديهم في تونس.
والمشكلة أو الكارثة تتمثل في تهافت ما يسمون بالنخب لدينا مع افتراض حسن النية على الدوام على ما يقال في تونس أو ما يكتب في تونس عن وطننا ولا يعرفون على الإطلاق أن ثمة الكثير مما يوجد وراء الأكمة، فبعض من هؤلاء الذين يكتبون عنا وعن أحوالنا هناك بمثل هذه الصورة تحركهم في الواقع جهات مختلفة في فرنسا التي يرونها بمثابة الوطن الأم أو يكاد بالنسبة إليهم، وإلا فما معنى أن يهتم السيد وناس وأمثاله بالكتابة والاهتمام بالموضوع القبلي في ليبيا والتخليط فيه والتحليل الخاطئ بصدده، وكذا ما يتصل بالأقليات ويترك ما لديهم في تونس من موضوعات تستحق نفس الكتابة. وليبيا التي رأيت التي حاول وناس أن يحاكي سيد قطب في إحدى دراساته المعنونة (أمريكا التي رأيت) مثل رديء لسوء الفهم والنية رغم ادعائه بالفهم وحسن النية.
لقد أكد من خلال كتابه أنه اهتم بموضوعنا وجال في بلادنا والتقي النخب التي سمحت له بالاستعراض علينا والضحك على حالتنا، وأنه دوَّن ووثَّق وقابل العديد من المهتمين وواجه الأخطار وسرد الكثير من البطولات الوهمية، ومع ذلك كله قفز على الواقع ولم يعرفه معرفة جيدة وأتي الكتاب في حزمة من الورق تزيد على 300 صفحة شحنها بالمصطلحات الفرنسية والتكرار والأخطاء الكبيرة، فهل يسمح لنا هو أو غيره من مثقفي بلاده أن نرتكب ذلك في حق تونس.
انظروا إلى المزيد من الأخطاء (يقول جمعت المعلومات والوثائق وكونت المكتبة المتخصصة 2000 كتاب متخصص في ليبيا وأكثر من 3000 وثيقة عن المجتمع الليبي)
وماذا أيضاً؟
جرب التنقل براً واستكشف ليبيا وتعاطف مع شبابها والنتيجة صفر، وبعد هذا كله يقول إن الخويلدي الحميدي من قبيلة المحاميد، وأن حسن والبراني أشكال التحقا مع مسعود عبدالحفيظ بأكاديمية الشرطة، ونسي تماماً أن البراني أشكال خريج الكلية الحربية في مصر بعد سبتمبر 1970 فيما تخرج حسن أشكال ومسعود عبدالحفيظ في كلية ضباط البوليس في بنغازي عامي 1961 و1963، وأن مصطفى الخروبي تخرج في الدفعة الثامنة من الكلية العسكرية في بنغازي، وهو من الدفعة السابعة العام 1965، وأن سلبية الحكومة الليبية أثناء حرب الأيام السته في يونيو1967 شكلت تراخياً مناسباً للتحريض والتعبئة، فقد قالت كما زعم (نشرة الأخبار في الإذاعة الرسمية الليبية يوم 6 جوان 1967 أن رياحاً عاتية جرفت الطائرات الحربية باتجاه الصحراء البعيدة، وأن البحث جار عنها) فأي طائرات يقصد ليبية أو غيرها، وأي رياح، وأن موسى أحمد مات في مزرعته ببنغازي بعد سنوات من مغادرته السجن العام 1988 ولم يعرف أنه قتل في مزرعته في طرابلس العام 2005، وأن خليل جعفور يقصد ضابط الاستخبارات العسكرية خليل جعفر من البعثيين وهو ليس بعثياً، وأن العقيد إدريس العيساوي تمت تصفيته لأنه تحمس للانفتاح على التسليح الأمريكي، وأن ليبيا مجتمع محكوم عبر تاريخه بتحالف قبلي ثلاثي المكونات ورفلة ومصراتة وأولاد سليمان، فقد تحالف الملك مع ورفلة وأولاد سليمان وهمش مصراتة، في حين تحالف القذافي مع ورفلة ومصراتة وهمش أولاد سليمان بسبب تاريخ علائقي معين، لاحظوا ما يقوله جيداً.
وفي غياب الحقائق والأمانة العلمية وعدم التدقيق يحشر نفسه في أمورنا بجهل وسطحية ودون موضوعية ويظل يلف ويدور دون أن يصاب بالدوار حول الصراعات القبلية والتقسيمات ويفتي من دماغه، ويحوم حول موضوع البربر ويتركهم قريباً من أنفه في تونس ويطالب بحقوقهم عندنا، وهم مواطنون ليبيون يعيشون دون أية حساسيات أو مخاوف من المجهول منذ فترة بعيدة.
إنه يتدخل في أمور خطيره لا شأن له بها ويقوم بتجريف تاريخنا والحرث في الصخور والزرع في السباخ وتجريح أخطائنا أكثر مما ينبغي ولا يراعي الظروف المختلفة ويحاول أن يستأسد علينا ويعلمنا تاريخنا، فمثلاً يعدد عمر النظام الملكي من 1951إلى 1969بـ 17 سنة و7 أيام، إنه يجد فراغاً ليقوم بالحساب والأرقام ويخطئ في جدول الضرب ويؤكد أن المجتمع الليبي على امتداد 164 سنة يقصد من 1851 وحتى 2011 لم يعرف تجربة حزبية وجمعياتية متكاملة جديرة بالقرن العشرين وبالمواطنة المطلوبة في المجتمع الليبي، وهكذا يفسر (سي الوناس) حالتنا دون وعي وينسى أن حسونة الدغيس السياسي الليبي ورجل القانون وأول العلمانيين العرب الذين حاولوا الجمع بين الدين والعلم ودرس قبل رفاعة الطهطاوي في باريس وقبل خير الدين باشا التونسي وقبل الكثيرين وأول من أسس حزباً في العالم العربي في القرن التاسع عشر باسم حزب الأهالي قبل مصطفى كامل ومحمد فريد وتجارب تونس، وللوناس قراءة المزيد عند مؤرخنا الأستاذ محمد مصطفى بازامة وليعد إلى أستاذه التونسي عبدالجليل التميمي الذي يعرف تاريخ الدغيس وليقرأ ما كتبه في بحوث ووثائق وليفتش في محفوظات باريس أو ليسأل من يعرف من أحبابه ومشايخه في فرنسا كلها عن الدغيس وليبيا في تلك الفترة.
وليعرف أيضاً أن الأمير محمد إدريس السنوسي عامي 1917 و 1918 كان يوجه رسائله إلى من يهمه الأمر بعد توليه المسؤولية من ابن عمه السيد أحمد الشريف بهذه العبارة (من خادم الملة الإسلامية إدريس السنوسي وقائم مقام ايالتي برقة وطرابلس وتونس)، وليعد إذا شاء إلى المصادر ليفهم ذلك ويقف على حقيقته التاريخية وليفهم أن لدينا صحيفة طرابلس الغرب صدرت العام 1866، وأن لدينا الحركة السنوسية انطلقت في تلك الأيام وأنشأت زوايا هي في مجملها عناوين مصغرة للمجتمع المدني المعاصر في التربية والأخلاق والإصلاح والعمل والعلم والكفاح، وامتدت هذه الزوايا وانتشرت ووصلت فيما وصلت إلى شط الجريد وقابس في تونس، وليفهم أيضاً أن لدينا الوعي بالتاريخ رغم أخطائنا، وأن الحبيب بورقيبة أصوله ليبية، وكذا الباهي الأدغم، وأن زوجة آخر بايات تونس إلى العام 1956 ليبية الأصول، وأن بشير فهمي فحيمة الليبي أسهم في نشر الفن الشعبي وتطويره في تونس واكتشف المطربة صليحة وجعلها تغني (بخنوق بنت المحاميد عيشة)، ومن خلاله عرفوا في تونس اللحن الفزاني والطرابلسي، وأنه كان بمقدوره لكي يتحدث عن تاريخ الجيش الليبي دون أخطاء أو إسقاطات معكوسة أن يتصل بالمرحوم عبدالله عبعاب خريج العراق الضابط التونسي الذي عمل في الجيش الليبي بعد الاستقلال وأحد الذين شاركوا في نهضته مع زملائه الليبيين والعراقيين حتى العام 1955، لقد كان على بعد حجر منه في تونس بمرناق إلى وفاته العام 2015 ولكنه لا يعرف عنه شيئاً، ولو اتصل به لحدثه حديث المعلم عن ليبيا وتاريخها وجيشها.
وليفهم أننا خضنا تجارب الأحزاب أيام تركيا والاحتلال الإيطالي، وكان لدينا برلمان ودستور وجمعيات فكرية وعلمية وجامعات وأنشطة في الكشافة والمرأة والعمل الاجتماعي وصحف وإذاعة ونضال.
كان لدينا الكثير والكثير لكنه على طول ليبيا التي رآها لم ير في حسبانه إلا الجهل والتخلف والصراعات القبلية والجهوية، وظل يهرف بمصطلحات الهجوم العلمي والابستمولوجيا والسيولوجيا وغير ذلك من الكلام، ويعتقد في أعماقه بأن ليبيا وادٍ غير ذي زرع!
_____________________