الكاتب عبدالله القويري
شخصيات

عبدالله القويرى.. الزاهد!!

المهدي يوسف كاجيجي

الكاتب عبدالله القويري
الكاتب عبدالله القويري

يقول الروائى المصرى الكبير محفوظ عبدالرحمن: كانت مدرستنا فى بنى مزار.. وسط الصعيد. لم تكن فى البلدة مكتبة عامة ولم تكن هناك مكتبة تبيع الكتب. شخص واحد كان يبيع ويؤجر الكتب، تأخذ منه الكتاب، غالبا ما يكون روايات الجيب مترجمة، وتدفع له قرشا ونصفا، وبعد ايام تعود اليه بالكتاب، وعندئذ تستطيع استعادة القرش كاملا، او تدفع نصف قرش وتستعير كتابا اخر. عندما أعصر ذاكرتى، اجد ان عددا من الذين حلموا، بان يكونوا كتاب رويات وقصص.. قبل فريد ابوحديد، ومحمد عبدالحليم عبدالله، ومن الذين حققوا امنياتهم، ثلاثة على الأقل أصدر احدهم عددا كبيرا من المجموعات القصصية.. وهو عبدالله القويرى، الذى رحل الى ليبيا.

فى عام 1930, فى قرية سمالوط بمحافظة المنيا فى صعيد مصر، ولد الأديب الليبي عبدالله القويرى، الذي يقول فى سيرته الذاتية: “انا ابن وافدين على المجتمع المصرى، جاءوا اليه مهاجرين عبرالصحراء، خائفين على بقايا نفوسهم من شراسة النظام الايطالى الفاشى”.

سنة 1955 تحصل على ليسانس الأداب من جامعة القاهرة، فيقول: “تفتحت نفسى فى فترة من اروع فترات مصر المعاصرة فى القاهرة. عرفت الاحتدام السياسى وعرفت الفكر الماركسى، لم انتمِ لاى تنظيم، عرفت الاخوان.. وقرأت كتبهم وحضرت اجتماعاتهم، ثم عدت حزينا كابيا وحيدا نافرا، لم أكن سوى أنسان يبحث عن وطن – كنت بلا وطن”.

• العودة الى الوطن

فى عام 1957 عاد الى ليبيا ليعمل موظفا فى مجلس النواب. فرضت عليه الوظيفة حالة من التنقل الدائم بين طرابلس وبنغازي والبيضاء. يقول بهذا الصّدد: “منذ عودتى من مصر وانا انظر الى ليبيا نظرة تقديس، وصلت بنغازى ورايت بيوتها المهدمة من اثر الحرب، ورايت النفوس نظيفة رغم انها كانت مطحونة – الا انها متماسكة – هذه النفوس ما ان نالت شيئا من الثروة حتى تغيرت. خطيئة اهلى التى ارتكبوها، هي انهم جعلونى أعيش فى مصر غريبا.. وعندما عدت الى وطنى وجدت نفسى أشد غربة “. قدّم استقالته سنة 1967 وسافر الى تونس يقول: “كنت ابحث عن وطنى بعدما افتقدت الوطن فى مصر وكدت أفقده فى ليبيا فجئت ابحث عنه فى تونس. لم تكن هجرة. . كانت تمرد على الواقع”. لم تطل إقامته ليعود الى طرابلس التى لم يبق بها سوى عام ليشد الرحال الى باريس ليعود مرة اخرى بعد سقوط النظام الملكى.

• الــنــبــوءة

“انهم قادمون.. بخوذاتهم يمتطون مركباتهم الحديدية.. أنهم قادمون” – كانت هذه هى النبوءة  بسقوط النظام الملكى، كتبها فى مسرحيته “الصوت والصدى” والتى بدأ كتابتها قبل الانقلاب، ونشرها بعد ذلك فى حلقات يومية على صفحات جريدة الحرية  منذ البداية كان مختلفا مع العسكر، وحتى لا يقع الصدام توقف عن الكتابة، وأشرف على صفحة تحررها الاقلام الشابة، وانتقل بعدها لتدريس مادة النصوص المسرحية، وتاريخ المسرح، فى معهد التمثيل والموسيقى فى طرابلس. لم تطل الهدنة، فالقي القبض عليه ضمن قائمة طويلة من اصحاب الراي. يقول: “لم اعرف لماذا اعتقلت؟ كانت عملية التعذيب النفسى تفوق التعذيب الجسدي، كانت عندما توضع قدامى فى “الفلقة “يأتي ردّ فعلي حالة من الضحك الهستيري المتواصل، التي كانت تثير اعصاب جلادي”.

• من السجن الى الوزارة 

تقول الرواية، زار الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش طرابلس، وفى لقائه مع العقيد القذافى، قال معاتبا: اخ معمر نحن نتحاور عن حرية الرأي والفكر، بينما يقبع فى سجونكم عشرات من سجناء الرأي، وعلى رأسهم قامة كبيرة مثل الاستاذ عبدالله القويرى. تلعثم العقيد وقال: عبدالله القويرى.. اننا نبحث عنه، اين هو؟! لقد أصدرت أوامري منذ فترة، بتعيينه وزيرا للإعلام، فى حكومة اتحاد الجمهوريات العربية. وفى المساء اُذيع خبر تعيين الاستاذ عبدالله محمد القويرى، وزيرا للإعلام الاتحادي قبل ان تندمل كدمات “الفلقة”. لكن، من سؤ الحظ، لم يدم الامر طويلا، إذ وقعت حرب أكتوبر عقبتها زيارة الرئيس السادات للقدس فتأزمت العلاقات بين دول الاتحاد، وتعرض الاستاذ عبدالله لازمات صحية مما أدى إلى سفره الى لندن لإجراء عملية القلب المفتوح.

• الـــزاهـــد

شرفنا الاستاذ بالعمل معنا فى جريدة الحرية، بعد استقالته من الحكومة، وفى تواضع كبير طلب تخصيص شقة صغيرة للسكن ضمن مساكن عمال الطباعة، اعلى مبنى الجريدة فى منطقة شارع الصريم بطرابلس، فتحول مسكن الاستاذ الى منتدى للقاء، على مدى الأربعة والعشرين ساعة، اكلين.. شاربين.. نائمين. اكتشفنا اننا امام عقل كبير.. وقلب طفل. كان بسيطا كريما متواضعا. كان اقرب للصوفي الزاهد  عاشقا لوطن اسمه ليبيا الى درجة التعصب والنرجسية المطلقة. صدر قرار محكمة الشعب باغلاق الصحف الخاصة وتشرد الجميع، وعاد الاستاذ يمارس حالة التمرد، متنقلا مابين تونس وباريس، واخير استقر به الحال سجينا ليخرج ويعود الى القاهرة وزيرا. ودّع العزوبية.. تزوج وأصبحت له رفيقة فى الحياة، ونعم الرفيقة.

 فرقتنا الايام.. والتقينا فى لندن. جاء اليها بقلب اجهدته السنوات. استقبل عند وصوله كوزير، وحجزت له السفارة فى فندق شيراتون بارك لين، وهًو من الفنادق الفخمة، يقع فى أغلى شوارع لندن عقارا وتسوقا وهو شارع نيتسبريدج. اتصل بى الاستاذ بعد وصوله وبعد السلام دخل فى الموضوع وقال: “ياسيدى انا فى رحلة علاج على حساب الدولة فمن المفروض ان مصاريف العلاج تدفع والإقامة خارج المستشفى تغطى بعلاوة، كانت وقتها تساوي حوالى خمسين جنيها إسترلينيا فى اليوم والمطلوب توفيرسكن ومعيشة ضمن حدود هذا المبلغ.” قلت له مستغربا: انت مقيم على حساب الدولة فى فندق جيد شامل كل شئ وبرسالة حجز مفتوح، فلست بحاجة للتقشف. جاء ردّه بعصبية: “هل لكل مواطن قدم للعلاج هذا  الحق مثلى.؟ أجبت: انت وزير وشخصية عمومية. أجاب باقتضاب وبصوت حازم: “هل تستطيع توفير ذلك؟ او ابحث عن غيرك؟” كان المبلغ زهيدا.. وبعد بحث طويل وجدت ستوديو متواضعا فى منطقة “ايرليزكورت” يملكه عراقي، وعندما قمنا بزيارة المكان التعس، التفت الى زوجته السيدة أمنه وقال ضاحكا: “البركة فى “امونه” ستحوله مكانا يليق بالادميين.” وانتقل الي المكان فى نفس اليوم.

• الــحــصــاد الــمــر

الكتابة.. عن قامة مثل عبدالله القويرى، لا تكفيها هذًه السطور، وهو نموذج وقدوة، لا وجود له فى هذا الزمن الردئ. هو رحلة طويلة من الإبداع يقول عنها: “ان كل كلمة.. هى قطرة من دمى.. فالحياة التى كنت اعيشها فى تلك الفترة.. لم تمكنى من شئ غير ان انزف على مهل “. كانت تجربة عذاب فى مجتمع طارد لا يجيد القراءة، لا كرامة فيه لابنائه المبدعين. كتب فى القصة والمسرح والنقد الادبى اقترب كثيرا فى محاولة لفهم الواقع الليبى وارساء مفاهيم جديدة. يقول الاستاذ عمر الكدى فى مقال له بعنوان “ليبيا وهشاشة الكيان” (ما يؤكد عمق هشاشة الكيان الذى انتبه اليه مبكرا الكاتب الراحل عبدالله القويرى، عندما اصدر كتابه معنى الكيان) – ويقول الاستاذ احمد الفيتورى: (عبدالله القويرى هو الكاتب الليبى الذى شاركت حفرياته هوية البحث فى معنى الكيان، فى مفهوم الهوية).

كان وطنيا عاشقا لوطنه يقول: “الوطن مرسوم فى قلبى ولم يكن خريطة” ويضيف: “لا اقبل ان يقترف الفرد خطا عن قصد فى حق وطنه”. لم يحصد خلال رحلته، الا التجاهل وعدم الفهم. كنا فى اجتماع عام فساله العقيد القذافى: استاذ عبدالله انت ليبي ام مصرى؟ رد عليه بعصبية ومرارة واضحة: يا سيدى.. لو كنت مصريا لكان لى شان اخر. من تعليقاته الساخرة: لو عاش عمر المختار بيننا لعمل بوابا فى مدرسة قريته سلوق. من اخًطر تنبآته ان ما يجرى فى ليبيا من تجريف وتدمير للشخصية الوطنية والبنية الاجتماعية هى مخطط لإعادة توطين لشعب اخر. رحم الله عبدالله القويرى، ورحمنا الله مما هو قادم.

_____________________

نشر بموقع ليبيا المستقبل

مقالات ذات علاقة

أربعون التشكيلي والصحفي عبدالحميد الجليدي

رامز رمضان النويصري

هل خسرنا شاعرا.. أم كسبنا صحفيا..؟!!

المشرف العام

الذكرى الأولى لوفاة صاحب سيرالتعب

مهند سليمان

اترك تعليق