استطلاع: خلود الفلاح
مازالت المرأة العربية ترزح تحت أثقال أخلاقية واجتماعية ووجودية، ألصقها على كاهلها المجتمع العربي الذكوري الذي مازال إلى اليوم يستبطن المرأة كمفهوم قديم لم يتطوّر عبر الزمن، مفهوم هو بالأساس من صناعة الرجل على مقياسه ولأجله هو. والمرأة المبدعة والكاتبة أساسا لم تخرج من هذه المنظومة الاجتماعية إلى يومنا هذا، حيث غالبا ما تكون الكاتبة محط اتهامات عديدة في ما تكتب، اتهامات أخلاقية بالدرجة الأولى معتبرين إياها كائنا قاصرا لا يكتب إلا عن ذاته بالضرورة، ولذلك نتساءل اليوم إلى أيّ مدى سيؤثر هذا التدخل من قبل القارئ أو الناقد في أدب المرأة العربية الطامحة إلى تمزيق قرون من التهميش والتسلط. “العرب” استطلعت آراء بعض الكاتبات العربيات في هذه المسألة.
لماذا الكاتبة العربية كثيرا ما تدخل قفص الاتهام بسبب شبهة تقديم سيرتها الحياتية عبر هذا النص أو ذاك، وتبدأ الصحافة في استجوابها، أليست هذه التهم تغذيها ثقافة التمييز الجنسي؟ هذا الاستطلاع للكاتبات فقط، لا يعني ذلك أنه انحياز للكاتبة بقدر ما هو حق النص الأدبي في أن يعلن نفسه كيفما يشاء بعيدا عن الفضول والمساءلة.
الشعر انعكاس
تقول الشاعرة الليبية مريم سلامة: الشعر صورة صادقة عن الذات أولا ثم المحيط الذي تتصل به الذات اتصالا وثيقا حتى يعكس كل منهما الآخر وحتى يصعب إيجاد ذلك الفاصل أو ذلك الاتصال.
وتضيف الشاعرة: كان الشعر الجاهلي ولا يزال وثيقة ومرجعا تاريخيا يفصل في الكثير من المسائل العالقة، ولذلك عندما يقدم الشاعر أو الشاعرة نصه فإنه ينضح بما فيه من غصات وآهات، فعلى الشاعر أن يكون نفسه أولا ولا يدّعى بما ليس فيه وإلا كان مسخا مشوها، ولكل مبدع مفرداته التي هي حديقته الخاصة يقتات منها ومنها يشرب ومنها أيضا يعطي ويبدع. لكن هذه المفردة هل لها معنى واحد؟ قراءة واحدة؟ تأويل واحد؟ بالطبع لا. ولذلك فإن لي معجمي كتاب “معجم الحمامة”، وأعتقد أن لكل شاعر وشاعرة معجما خاصا به.
وتؤكد الشاعرة أن القصيدة بخير لو كانت بمنأى عن التفسير أو التأويل القاصر. فالقصيدة في نظرها تكتب من جديد في كل قراءة، ما أقوله الآن ليس طرفة بل حقيقة أن الشعر تكتبه المرأة بأصابعها التي تتلمس مكانها الجميل بلا إكراه أو جور وبماء قلبها وما يجيش من مشاعر محتدمة، وهي إن انطلقت من ذاتها فلا ولن تبتعد عن وطنها وأهلها. المهم أن تكتب وأن تكون صادقة فيما تبدع.
القناص وراء القصائد
تقول الشاعرة السورية فرات أسبر: مازالت الاتهامات قائمة وإلى اليوم، اتهام أدب المرأة وتوصيفه بأنه أدب انفعالي عاطفي خاضع لضغوط نفسية وانفعالية، لا يستند إلى قضايا وجودية إنسانية، وليس ملتزما بصنوف الأدب. لطالما كانت المرأة ولا تزال موضع نقاش وجدال من خلال وجودها البشري، وهذا ما يؤكد أهميتها كوجود وككائن، لا معنى للحياة من دونه. ولكن حضورها الدائم كالأرض تماما في علاقة وجودية تتمثل في علاقة المرأة بالحياة، هذه الحرب لم تكن على المرأة كوجود إنساني، بل امتدت إلى أدبها وثقافتها كمنجز تاريخي لها.
وتوضح قائلة: تبدو الجذور التاريخية والأمراض التي ألحقت بنا نحن النساء والمستمدة حسب القوانين والأعراف، أعتقد أنها “مفبركة” لتحمي الذكر، ولنا مثال، الشاعرة نازك الملائكة، كانت منافسة وندا للرجل الشاعر وأثبتت ريادتها، ولكن اليوم ليس هناك من يذكرها، لأنها انتهت كأنثى في عين الرجل، وعلى العكس مازال السياب حاضرا في الذاكرة العربية الشعرية.
فضول القارئ
تقول الروائية اللبنانية جنى فواز الحسن: الكاتب في الغالب، سواء كان رجلا أو امرأة، متّهم بكتابة سيرته الشخصية بأقنعة مختلفة. قد يكون الفضول حول شخصية الكاتب وحياته وأسراره أمرا طبيعيا، حتّى أني أشعر به تجاه بعض الكتاب، لأنّي أريد أن أعرف أسباب نتاجهم الأدبي ومن أين تأتي نصوصهم. حين كتبت “أنا، هي والأخريات”، كان البعض يخاطبونني مسلّمين أني أكتب سيرة ويقولون لي مثلا “والدك” أو “والدتك” في إشارة إلى أهل “سحر” بطلة الرواية. وجدت نفسي في موقع التنصّل دائما لأني فعلا لم أكتب تجربة شخصية، وقد كان الأمر مزعجا أحيانا. في النهاية، لم أعد أبرّر.
وتضيف الحسن: حين كتبت روايتي الأخيرة “طابق 99″ وكان الراوي الأساسي رجلا، أردت أن أكسر نمطية الظن أن المرأة لا تكتب غير نفسها والآن يسألني القراء “هل لك جذور فلسطينية؟” لأن الراوي فلسطيني الجنسية. أبتسم لأنّ السؤال يطمئنني أنني استطعت أن أفي الشخصية حقها.
وتوضح الروائية: أنا ككاتبة، أرى نفسي رجلا وامرأة وطفلا وشيخا وعجوزا ولصا وشرطيا ورجلا مختلا عقليا أو امرأة تعاني من أزمة منتصف العمر. أرى نفسي مجرما وامرأة قاسية وطاغية ولاجئا وكل هذه الأضداد. الكتابة بالنسبة إلي هي القدرة على الحفر في النفس البشرية باختلاف أوجهها. وفي نهاية الأمر، ما يهمّ فعليا هو التجربة الروائية التي يقدّمها الكاتب، سواء كانت شخصية أو غير شخصية. الفضول سيبقى والباحثون بين السطور سيستمرون في البحث. أحيانا، يصبح اللّعب على عنصر الحيرة ممتعا.
ما أكتبه يمثلني
تجيب القاصة التونسية فاطمة بن محمود: هذا السؤال مهم من منطلق أنه يعبّر عن مكانة المرأة في المشهد الأدبي، والتي تعكس بشكل أو بآخر مكانتها في المجتمع. فالتعامل مع ما تكتبه المرأة من منطلق التلصّص والبحث عمّا هو ذاتي، يبدو المقصود من هذه الطريقة هو التجسّس عليها ومحاولة فضح عوالمها بعيدا عن المطلب الأدبي، رغم أن كتابة الذات والانكشاف على العوالم الخصوصية للمبدع ليست بنقيصة، ولا تحقّر من عمله الأدبي بل ربما تعكس صدقه وعمق توغله في الذات وتعلو بالعمل الأدبي، حين يقوم بذلك وفق شروط الموهبة والمهارة الفنية.
وتضيف: أعتقد أن مثل هذا السؤال الذي يتقصّى السيرة الذاتية في الكتابة الأدبية سؤال سيّئ الطرح، لأن كل كتابة فيها من ذات صاحبها، فالكاتب سواء كان رجلا أو امرأة لا يكتب من فراغ، وإنما يغرف من أعماقه ومن ذاكرته ومن مدوّنته ومن الطبيعي أن يبحث الناقد والقارئ عن الخصوصي في الكتابة، ولكن أن يكون ذلك من منطلق التجسّس على عوالم المرأة الخاصة فهذا يعني أنه لا نيّة أدبية في المسألة، بل يعني أن القارئ أو الناقد تخلى عن المهمة الجمالية للأدب وذهب به إلى مستوى متدن يعبّر عن عقلية ذكورية لم تتخلّص من نظرة دونية المرأة.
ما يعنيني في هذه المسألة أن تنجح المرأة الكاتبة في عدم التأثر السلبي بهذه النظرة، وتستجيب لها بالتنكّر لما تكتبه. أطلب من المرأة الكاتبة أن تنظر إلى ذاتها كجزء من صدقية العملية الإبداعية وأن تتوغل في أعماقها وتجترح من ذاتها حتى يكون ما تكتبه ممثّلا لها ومعبّرا عنها.
المنظومة الذكورية
ترى الناقدة الليبية فاطمة الحاجي أن كتابة المرأة تحيطها عديد الآراء النقدية التي تتفاوت في أهميتها ومصداقيتها، وفي أحيان كثيرة تفتقد إلى الموضوعية العلمية، وتطلق الآراء حول هذا الإنتاج دون تفكير محايد. لا نستطيع أن نفصل تقييم عمل المرأة الأدبي بما يختزن في الذاكرة من أفكار متخلفة حول تعليم المرأة الكتابة والقراءة في لاوعي المجتمع.
وتضيف الناقدة فاطمة الحاجي: لا شك أن كتابة المرأة تعتبر لاحقة زمنيا لكتابة الرجل، وهذا أعطى تفوقا في مستوى الإنتاج وأحقية للرجل في تقييم هذه الكتابات وتحليلها وإطلاق الأحكام عليها.
من هذه الآراء أن المرأة تكتب سيرتها في إنتاجها الأدبي. فما إن يعلم القارئ أن النص الأدبي بقلم امرأة حتى يدفعه الفضول إلى البحث عن النص ليعيد قراءته مرات متعددة، ليبحث عن أي تجربة في النص، فيوجه لها أصابع الاتهام، لأنه ينظر إلى ما تكتبه المرأة وكأنه وثيقة اعتراف بواقعية العلاقات التي تكتبها بخط يدها، ليعلن للجميع أنها ارتكبت وزرا أو اقترفت ذنبا، فيبدأ التحليل التأويلي المزاجي لمحتويات النص ويطابق بين عالمها التخييلي وواقعها.
وتؤكد الناقدة أنه وبإمعان النظر في قضية هامة وهي أن من يقيم نقديا الأعمال الأدبية هو رجل فبالضرورة أن تتأثر هذه التقييمات بوجهة نظر غير محايدة، لهذه القضية عدة جوانب نطرح أهمها ماذا يعني المرأة تكتب سيرتها؟ القصد أنها لا تكتب من خارج ذاتها، ويسقطون كل كتاباتها على التجارب الشخصية التي عاشتها ويطابقون بين الخيال والحقيقة.
وتوضح الحاجي: في الكتابة السردية هناك كاتبات يعلن أنهن يكتبن سيرتهن ويمزجن ما هو روائي بما هو سيرة ذاتية، وأخريات لا ينطبق عليهن هذا الرأي وكتابة السيرة في العمل الأدبي ليست تهمة. أما أن نتهم المرأة بأن ما تكتبه هي تجارب عاشتها حقيقة فهو رأي يدخل فيه تخلف المنظور الذكوري الذي يبحث عن تشويه المرأة وتقييم أعمالها من وجهة نظر التراتبية الاجتماعية المتخلفة ويتلصص الرجل على حياة المرأة الخاصة من خلال إنتاجها بينما لا يتهم الرجل بتجاربه لأنه يتمتع بحرية تفوق حرية المرأة، هذا نوع من الظلم الذي لا يرتقي إلى الموضوعية العلمية. وتظهر لنا مدونة النصوص السردية أن للخطاب النسوي خصوصية تتشكل من احتلال المرأة فيه مركز السرد وموضوعه، ممّا يجعلها أقرب إلى السيرة الذاتية للكاتبة في تظهير شبه دائم لواقع مجابهة المرأة محيطا يضعها في الهامش دون تأطير.
___________
نشر بصحيفة العرب