يحظى المكان في الشعر بأهمية خاصة لا يستهان بها، فهو مدخلاً ملائما للشاعر يؤسس عليه رؤيته الفنية، ويقوم بتوظيفه ليشكل محورًا هاماً وجوهريًا في متن قصيدته، وذلك لما له من حضوراً قوياً وفاعلاً في النفس الإنـسانية، حيث يـرتبط المكان بوعي الإنسان منذ طفولته، فيختزن في ذاكرته مستثيراً عواطفه وانفعالاته، بما يمكنه من إستعادة ذكرياته الإيجابية أو السلبية. ويرقى المكان عند كثيراً من الشعراء ليتعدى كونه مجرد حيزاً جغرافياً بحدود المتعارف عليها من طول وعرض ومساحة، ليصبح ذا بعد تجريدي، وجزء لا يتجزأ من حياتهم؛ مما ينعكس على نصوصهم الإبداعية، وبحسب ما ورد في كتاب جماليات المكان للفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار الذي خصص جانبا من دراساته المعمقة لحقل الإبداع الشعري والجمالي فأن (العمـل الأدبـي حـين يفقـد المكانيـة فهـو يفقـد خـصوصيته، وبالتالي أصالته).
وفي النص الشعري الليبي المعاصر أستخدم المكان، وبرز بشكل جلي وواضحً كعنصر أساسياً فيه، وتستعرض هذه الدراسة وبشكل موجز نصوص بعض الشعراء الليبيين المعاصرين – ممن أتيحت لي فرصة الاطلاع على نصوصهم-فسخروا الأمكنة وفضاءاتها بشتى أنماطها المختلفة، ووظفوها لتأصيل خطابهم الإبداعي عن الوطن المنبثق من وعيهم بأهميته كمكان وبما يحتويه من دلالات ورموز. وحضرت ليبيا كدلالة مكانية للوطن في كثير من نصوص الشعر الليبي المعاصر، التي عكست الارتباط المكاني بالوطن، وسواء كان الشعراء داخل ليبيا أو بعيدين عنها. فقد حظي الوطن كمكان بأهمية قصوى في كثير من نصوصهم الإبداعية، وظهر الوطن كمكان في شعر عددا من شعراء ليبيا المعاصرين ظهوراً فنياً إبداعياً جميلاً يعكس بشكل واضح متانة العلاقة بين المبدع ووطنه، كما كان للوطن دوراً بارزاً في تشكيل ملامح النص الشعري الليبي المعاصر بشكل عام، ولابد من الإشارة إلى أن تلك الأهمية وهذا الدور لم تستقرا عند مستوى واحد في جميع النصوص الشعرية التي سنتناولها في هذه الدراسة، وذلك لإن تناول المكان لم يكن وفق رؤى متماثلة ومتوافقة الإحساس، فتباينت بطبيعة الحال درجات رقي النص الشعري وفقاً لتباين الرؤى، ومدى قدرتها وفاعليتها في تحفيز واستثارة وعي المتلقي وشعوره. مما أوجد تمايز مفيد بين شاعر وآخر.
ففي بعض النصوص الشعرية الليبية المعاصرة قد يتسع الإحساس بالمكان(الوطن) لينبثـق مـن كـل الموجودات الطبيعية التي كانت تحيط بالشاعر الليبي، وضمنها شـعره، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن هذه الدراسة الموجزة ستقف عند الإشارة للشجرة والتي من خلالها بين الشعراء ملامح حضور الوطن (ليبيا) كمكان في نصوصهم، وتوضيح العلاقة بين الشجرة في صورها المتعددة كملمح للوطن، لتكون (الشجرة) عامل من عدة عوامـل رئيسة في تشكيل الإطار النفسي للنص الشعري الليبي. وما يحويه هذا الإطار من تصورات وذكريات نحو (الوطن) الشجرة المكان الذي يعتبر لغة ثانية خفية في تضاعيف كل قصيدة.
فالشجرة كمثال برزت في بعض النصوص كمظهر على المكان في فضائه الواسع، واكتسبت حضوراً قوياً لافتاً في تشكيل صورة الوطن عند الشاعر الليبي المعاصر، الذي أتخذ منها أدوات فنية وتعبيرية للتعبير عن إحساسه بالمكان في طابعها المادي، الممزوج بالحس الانفعالي والعاطفي الذي يخلق جمال النص الإبداعي . فنجد الوطن في قصيدة (شجرة) للشاعر مفتاح العماري مرادفا لشجرة الرمان.!!
كان شجرة رمّان.
أهداني غصنا، وقال: تَعَلّمْ
فسهرتُ حدّ النسغ حتى تَرَبّى،
وصار في طورِ الشفقِ نهدا لأجملِ أُنثى
وبالنظر إلى ما ترمز اليه شجرة الرمان في الموروث الجمعي الليبي من دلالة ومرجعيه محببة بوصفها شجرة مباركة من أشجار الجنة، كما ترمز إلى الأصالة والتشبث بالأرض، وبذلك أعطى العماري من أول سطراً في قصيدته أهمية قصوة للمكان بدلالة (شجرة الرمان) ومضى الشاعر بعدها وهو متشبث بالمكان ودلالاته المتنوعة في النص، وعبر توظيفه لشجرة الرمان، كشكل رمزي، تمكن الشاعر العماري في نصه السابق من التعبير بوضوح شديد وحساسية وعاطفة قوية عن بنية ليبية واقعية جديدة تكونت بسبب الحرب التي لا تزال أزماتها وتداعياتها ونتائجها لم تنته بعد.
شجرة الرمان وظفها أيضا الشاعر محي الدين محجوب وهو يستلهم الوطن في أحدى قصائد مجموعته الشعرية أحدّقُ من نعاس فقال:
رمّانة أعضائها
تصيح بك..
خلّص أغصان رائحتها
من حقيبتك المدرسية.
ولئن كان خطاب الشاعر محي الدين محجوب في المقطع السابق موجهاً إلى (ما) فأن أغصان شجرة الرمان ماهي إلا جزء من المكان الكبير ليبيا.!! وفي ذات المجموعة الشعرية أحدّقُ من نعاس لمحجوب تحضر (النخلة) كدلالة مكانية لليبيا في قصيدته رثاءُ نخلة فيقول:
أيّتها الطّيور المحلّقةُ
في سماءِ أحزانك
أيّةُ عاصفةٍ
أودتْ بنخلة أعشاشك
وجعلتك تنتفين زغب الحداد
على فراخك.
كنت تحتمين برائحة
جمّارها
منتشية باللاقبي
وتشيرين
إلى نخلة
رأسها في السّماء.
ورغم ان الشاعر محي الدين محجوب يغرق نصه السابق في رمزية قد تنفي المعلوم إلا أنه وبشكل متمكن جميل ينكز المتلقي ويوضح له مدى الخراب الذي حل بالوطن نتيجة أزمة معينة، وكيف أن (الطّيور المحلّقةُ) خسرت أعشاشها في أعلى النخلة وصارت تنتف (زغب الحداد) وهي (منشية باللاقبي) وقد لا تدرك انها أول الضحايا، ورغم جهد محي الدين الواضح وإيحاءاته في تشخيص العلل والأخطاء إكتسب هذا النص قيمته القصوى كلما وضع في إطار ظرفه التاريخي الذي تمر به ليبيا الان فمحجوب يتكئ على (نخلة رأسها في السّماء). وأختياره للنخل في هذا السياق وما تحمله من دلالة معهودة في الصمود والتحدي والاصرار والشموخ والثبات والسمو، فشجرة النخل هي الوجه الاخر لذات الشاعر ولوطنه الذي يعاني، وربما تعكس شدة المعاناة التي شكلت دافعا من دوافع الشاعر أن يتخذ (النخل) رمزا ليعبر به ومن خلاله عما لحق الوطن من أذى وآلام وعذاب ومكابدة وغيرها، فأشجار النخيل كما نعلم في صراع دائم مع قساوة الصحراء، ولكنها تبقى متحدية، صامدة، شامخة، ثابتة، والوطن هو الآخر في صراع مع قوى فوقية متعسفة متسلطة، مستبدة، تتنافس على الاستيلاء عليه..!!
وفي أحد مقاطع قصيدة المدينة الفاضلة للشاعر رامز النويصري تحضر النخلة كدلالة مكانية معبرة وهو يتحدث عن مدينته طرابلس كجزء من الوطن الكبير يقول رامز:
كالنخل المتخم شمم الدارات الفارهة
كالنخل المتخلي عن صبوة العراجين،
كالنخل الذي توقعه الديدان
وتحضر النخلة أيضا في قصيدة (هي) للشاعرة حواء القمودي لتكون دالة تستخدمها الشاعرة وهي تبدي للمتلقي مدى تعلقها بسوق الجمعة أحد ضواحي العاصمة طرابلس فتقول:
هي
ضاحكة من كل الذي كان
اتكأت جذع نخلة وبكت
خبأت (سوق الجمعة) في القلب،
توسد البحر ركبتها ونام.
ففي المقطع السابق الذي تستهله الشاعرة النص بجملة فعلية لافتة بدلالة، الفعل الماضي (كان) فتحيل المقطع برمته إلى ذكرى و تذكر، واستدعاء لصور أو معانى مختزنة فــي الذاكرة، فتسرع الذات تستحضر ذلك الماضي المضيء، ربما هربا من الحاضر المسكون بالقتامة والجهامة، وتؤكد الصورة التي تخلعها الشاعرة على وطنها (سوق الجمعة) – في الماضي – حرصها على التشبث بالحياة وهي تسخر (ضاحكة من كل الذي كان) على الاحتفاظ بما تستذكره (خبأت سوق الجمعة في القلب).
وللنخل كدالة على المكان سحره الخاص وحضوره المميز في عدد من النصوص الشعرية الأخرى لحواء القمودي، ولم يكن حضور أشجار النخيل في شعرها مجـرد مظـاهر طبيعة أو بيئية، بل كانت عنصراً قوياً من عناصر بيان العلاقة القوية بـينها كليبية وكشاعرة إنسانة وبين أشجار النخيل من حولها باعتبارها جزء من المكان، حيث تقول في مقطع أخر من مقاطع قصيدة الليلة تشتهيني طرابلس:
وطرابلس بلا بحر
والنخل بلا جمار
والشمس بلا دفء
والبلاد عاطلة عن الحب.
وقد برزت الشجرة شاهداً مؤثراً في كثير من قصائد الشاعر عمر محمد الكدي، وهو من من الشعراء الذين قاسوا ألام الغربة وتاقت نفوسهم وأفئدتهم لأوطانهم، فبرزت الشجرة في نصوصه وهو يستذكر وطنه وينقل للمتلقي مشاعر الحنين والاشتياق التي انبعثت في نفسه وهو بعيداً عن وطنه ليبيا، يعاني الغربة والغيبة فيستحضر الشجرة ويعمد أليها ليرسم بها صوراً وجدانية تصل للمتلقي في عبارات جميلة شديدة الوضوح خصوصاً في قصيدته الطويلة جداً «منفى».
قصيدة «منفى» التي تعد أطول قصيدة في الشعر الليبي المعاصر، حيت تضمنت ثمانمائة وعشرين سطرا، قسمها الشاعر عمر محمد الكدي بشكل مرتب ودون ترقيم الى أربعين مقطعا، حفلت ليبيا كوطن بأماكنها الكثيرة، بحضور طيب فيها، ومؤثر أيضا بالنظر لباقي القصائد التي كانت ليبيا تحضر دائما وبقوة كذلك، قصيدة (منفى) نقل فيها الشاعر علاقته النفسية والوجدانية بوطنه ليبيا كمكان، ونقل من خلال عدداً من مقاطعها علاقته بالشجرة مستخدماً (تقنية الفلاش باك) ليستعيد كثير من جزئيات المكان ومحتوياته، حتى يتخيل المتلقي أن الشاعر كان غارقاً في لحظة حلم حين يقول:
لا تين ولا زيتون في هولندا
ولا طور سينين
لا نخل ولا رمان
ولا لوز يبشر زهره بالربيع
ولا خوخ سوى خوخ البنات
يهتز في الطريق
لا دالية تنام تحتها
في المقطع السابق نجد نفس الشاعر الكدي يتمنى، بل يتوق إلى العودة إلى الحيز المكاني الأول الخاص بوطنه ليبيا، فهو يعيش في مدينة هولندية، ويعيش حياتها اليومية، ولكنه يعاني الوحدة، ونفسه معقودة بليبيا حيت أشجار النخيل والزيتون والخوخ والتين والرمان وكلها أثيرة عند الشاعر وتربطه بوطنه وإن كانت هولندا التي ارتحل إليها في أحسن أحوالها. وفي مقطع أخر من قصيدة منفى يوظف الكدي شجرة التين الشوكي لينقل ما تستعيده ذاكرته أيام طفولته، وبعض أيام صباه، وهو يجوب أودية غريان في وطنه ليبيا مخاطبا نفسه وهو بالمنفى في البلاد الهولندية بعيداً عنها فيقول:
على قارعة الطريق
وأبحث عن ثمار الصبار
عن التين الشوكي دون كلل
أكله بنهم فتنغرز اشواكه في أصابعي
وعندها اتذكر أشواك بلادي
وطفولتي الحافية
كما ينقل لنا الشاعر معاناته التي تضاعفت كونه لم يستطع نسيان موطنه وأهله، فزادت همومه، وكثرت هواجسه وتضاعف حنينه وأشتد شوقه لوطنه فيلجا للشجرة الكبيرة المجاورة للنهر فيجلس تحتها ويبثها كل ما يشعر به من ألأم ولوعة يقارن بين شجرته الوحيدة الحاضـرة في المنفى، وبين هجرته وتركه أرض وطنه الأصيل فيقول:
وأجلس تحت الشجرة الوحيدة
التي تنحدر أغصانها إلى النهر
أخترتها لأنها وحيدة
لعلي أنا الغريب أؤنس وحدتها وتؤنسني
كلانا مهاجر أيتها الشجرة
أنت جئت من جزيرة جاوا
وأنا انحدرت من جبل
وأخيراً هذه كانت لمحة سريعة، عن الشجرة كنبتة من الأرض تضرب بجذورها في الأعماق، وترتفع بفروعها وأغصانها سامقة الى السماء ـويجري الماء العذب الرقراق في عصارتها، ويندمج فيها التراب في بدنها، ويحل الهواء يغذي أوراقها، وتخرج ناراً إذا ما أحتكت أغصانها بخشونة فلم تكن عند بعض الشعراء المعاصرين سوى وطناً أسمه ليبيا.
____________
نشر بموقع ليبيا المستقبل