(يذكر من ساقتهم الظروف للعمل بشركة بريتش بتروليوم المرموز اليها بحرفي “بي بي” في عام 1960 في مقرها الرئيسي بشارع 24 ديسمبر سابقا، ممن هو طبعا على قيد الحياة، وجود فتاة ذات جمال خارق وجنسية لبنانية اسمها هند، تلك هي الفتاة التي تدور حولها هذه القصة، فأليها اهديها إذا كانت لا تزال تدرج فوق هذه البسيطة، وان لم تكن فإلى روحها وهي تنضم إلى مثيلاتها من الحور العين في دار البقاء)
استطيع بعد ما يقرب من خمسة عقود ان احدد اليوم والساعة وربما الدقيقة التي رايت فيها وجه هند، لان هذا بالضبط هو اول ما رايته منها، واطلق في قلبي شرارات من النار التي لم اجد لها اسما ولا تفسيرا غير انه الحب، الذي قرأت الكتب الكثيرة التي تصفه، وشاهدت الافلام الكثيرة التي تنقل الاحداث وتصور الانفعالات والظروف التي عاشها المحبون في مختلف بلاد العالم.
اتذكر انه كان يوما من ايام الصيف، آخر اشهر الصيف، في طرابلس، مقر شركة بريتش بيتروليوم او بي بي كما كانوا يسمونها. كنت قد انهيت امتحان الدبلوم التجاري، في معهد هايتي، كما كانوا يطلقون عليه، نسبة الى الشارع الذي يقع به مقر هذا المعهد التجاري، وظهرت النتيجة بنجاحي لابدا رحلتي مع العمل والتقاط لقمة العيش، الا انني ارجأت هذه المهمة الثقيلة الى ما بعد قضاء بضعة اسابيع في مصيف نادي الصيد والرماية، المقابل لمبنى الاذاعة، حيث كنت قد اشتركت مع عدد من ابناء دفعتي على تاجير كابينة هناك، احتفالا بانهاء هذه المرحلة الدراسية التي تؤهلنا لدخول الحياة العملية، وكنت قد اسلمت نفسي لحياة الشاطيء والسباحة بما فيها من راحة وتسلية وسمر وسهر، وتداخل اوقات النوم واليقظة، الى ان جاء بعد ثلاثة او اربعة اسابيع من زملاء الكابينة من يقول ان هناك شركة نفطية هي شركة بي بي، اعلنت عن وجود خمس وظائف شاغرة لديها في مجال الادارة تريد ان تشغلها بعدد من حملة المؤهلات المتوسطة من الليبيين، وستجري اختبارا بين المتقدمين، وحددت الساعة العاشرة في اليوم الاول من اغسطس 1960 موعدا لهذا الاختبار، واحضر من مقر الشركة عددا من الاستمارات لكي نقوم بتعبئتها وارفاقها بالمستندات المطلوبة،واستطاع اقناعنا بمزايا الحصول على وظائف في مثل هذه الشركة العالمية بحيث امتثلنا لامره واكلمنا الاجراءات التي تؤهلنا لدخول الاختبار وجاء بسرعة يوم اول اغسطس لاكون قبل الساعة العاشرة بعشر دقائق اركض الدرج للدور الاول من مقر الشركة في شارع 24 ديسمبر، لاقف امام الانسة المسئولة عن استقبال الممتحنين، ولكي يصبح ذلك اليوم، بل تلك الدقيقة، هي لحظة الانبثاق الالهي لزمن طازج جديد ينتمي لزمن الفراديس السماوية اكثر مما ينتمي لزمن الحياة الارضية الفانية، لانني رايت فيه اجمل وجه انثوي تكحلت به عيناي هو وجه تلك الانسة المسئولة عن استقبالنا والمسماة هند، لم يكن ظاهرا من خلف المكتب الذي تعلوه الة كاتبة كبيرة تغطي بقية الجزء من جسمها الذي اختفى خلف الطاولة الا الوجه، كان هذا هو اول ما رايته منها وتلقيت في تلك اللحظة الابتسامة الفاتنة التي تفتر عنها شفتاها لتنطبع اثارها على صفحة القلب الذي كان ظامئا لارتشاف كل قطرة من غيث جمالها وهو يهمي كما يهمي وابل المطر فوق ارض اوجعها القحط والعطش، وقد تفتح يحتضن ذلك الوجه وتلكما العينين وتلكما الشفتين والغمازتين وما بينما من ابتسامة تسفر عن اسنان كحبات اللؤلؤ، بمثل ما تتفتح زهرة عباد شمس وهي تلتقى باشعة الكوكب الذي يضيء الكون، وكانت هند تجلس في مدارها، تدير افلاك هذا الكون الذي ادخله مبهورا بجمال الديكور وبذخ المكان والابسطة التي تغوص فيها الاقدام والارائك التي اعدت للضيوف، وجدت خمسة او ستة من المتقدمين للامتحان قد سبقوني الى هناك، ومنهم واحد مازال يقف امامها، يتلقى ما لديها من ارشادات حول اجراءات الاختبار وتسلم منها رقم جلوسه، لان الاختبار هذا اليوم سيكون كتابيا يعقبه اختبار شفهي للناجحين في الاختبار الاول، وسمعته يقول عند انسحابه من امامها
ــ شكرا آنسة هند.
وتقدمت لاقف مكانه قائلا:
ــ صباح الخير آنسة هند.
واتبعت التحية بذكر اسمي، لتقرأه في قائمة الملتحقين بالاختبار، ثم تأخذ ورقة تكتب فوقها رقم الجلوس الخاص بي، وتريني خريطة للصالة وتشير باصبعها الى المقعد الذي ساجد فوقه الرقم، وابلغتني ان مدة الاختبار ساعتان، يتضمن طباعة صفحة على الالة الكاتبة جزء منها باللغة العربية وجزء باللغة الانجليزية، وصفحة اخرى للرد على المعلومات العامة مقسومة هي الاخرى الى اسئلة كتبت باللغة الانجليزية واخرى باللغة العربية، وارتني نماذج من هذه الاوراق التي ساجدها فوق المقعد، وافهمتني الا اشير الى اسمي او اكتبه في أي جزء من هذه الاوراق حفاظا على سريتها اثناء التصحيح.
انتقلت من امام مكتبها لاترك مكاني لمن جاء بعدي وجسمي يحمل ارتعاشة، لم استطع هي الاخرى ان اجد لها وصفا او اسما، غير الاسم الذي يليق بهذه الحالة وهي حمي العشق، ومن حيث لا ادري ولا احتسب وجدت ان هذا اللقاء معها لن يكن مجرد لقاء، وانما اشبه بالتصادم الذي يتعرض له انسان بغثة وهو يسير غافلا في الطريق، فيرتطم بعمود كهرباء او حائط او جذع شجرة يجعله منهارا يبكي جبينا نازفا، اويطرحه ارضا فاقد الوعي، او يجعله يدور في مكانه دائخا، او تنتج عنه هذه الحالات مجتمعة وهو ما احس به،فانا النازف المطروح ارضا المصاب بدوخة لا يدري معها ماذا يفعل بنفسه، الا ان ما ارتطمت به لم يكن حائطا او عمودا او جذعا، وانما كان نثارا من نجوم تتوهج احتراقا، او حزمة ضوء تشبه نارا من لهب، اشعلت حريقا في بدني، ووضعتني في حالة لم اكن واثقا معها ان كنت ساملك ما يحتاجه الاختبار من تركيز وانتباه واستنفار لقوى العقل والذاكرة، ولكنني كنت في ذات اللحظة واثقا من شيء آخر، هو الذي يفعمني تفاؤلا واملا، واثقا ان صباح هذا اليوم الذي اشرق فيه امامي وجه هند بجماله الملائكي، لن يكون الا يوما جديدا، ليس ككل الايام، عامرا بالجمال والهناء، وفيوض الخير والسعادة التي ستغمرني خلال كل لحظة من لحظاته، واعلم على وجه اليقين انني لو القيت نفسي في فرن يتقد جمرا ولهبا لصار هذا الفرن بردا وسلاما ولما خرجت الا كما خرج نبي الله ابراهيم سليما معافي بفضل بركات وحسنات هذا اليوم، فكيف اذن اخاف اختبارا بسيطا لا يساوي معشار اختبار استمر عشرة ايام هو اختبار او امتحان الدبلوم الذي اجتزته بيسر وتفوق، وفعلا صدق حدسي وكانت العناية الالهية ترعاني عندما دخلت صالة الامتحان وجاءت النتيجة في اليوم التالي تبشر بنجاحي، المهم انني لحظة مغادرة الامتحان، حرصت على توديعها، شاكرا لها حسن تعاونها، فكان ان تلقيت منها ابتسامة جعلتها زادا يتغذى به قلبي الى حين عودتي لرؤتها في المرة القادمة وكانت هذه المرة بعد اسبوع اذ علقت في اليوم التالي النتائج بجوار كاونتر الاستعلامات في الدور الاول، ومعها تنويه بموعد الاختبار الشفهي للناجحين في التحريري عند الساعة العاشرة صباحا، من يوم السابع من اغسطس، ولم يكن صعبا اثناء وجودي قرب عمال الاستقبال ان استفسر عن الانسة هند واعرف انها جاءت الى طرابلس من بلادها لبنان مع قريبها المدير العام المساعد لفرع الشركة في ليبيا.
وعلى قلق ولهفة انتظرت اليوم الموعود، واتخذت قرارا ان احتفي بالمناسبة وان اظهر امام الفتاة التي احبها قلبي بافضل صورة ممكنة، ذهبت الى تاجر ملابس في باب الحرية يتعامل معه ابي ويشتري منه ملابس لدكانه في القرية، وادعيت ان والدي يبلغه تحياته ويساله ان ينتقي لي افضل بذلة وافضل قميص وافضل ربطة عنق احضر بها حفل التخرج الذي يقيمه المعهد، وصدقني الرجل وانتقى لي بذلة زرقاء لامعة، وارسل صبي الدكان لينتقي لي قميصا حريريا من دكان مجاور لانه لا يملك مثل هذا القميص وانتقيت لنفسي ربطة عنق قانية الاحمرار بها خطوط رفيعة زرقاء وزاد ان قدم لي هدية منه قال انها هدية النجاح حذاء لامعا يليق بالمناسبة، وعدت بهذه الملابس التي ستكلف والدي مالا كثيرا دون ان اقيم اعتبارا لغضبه عندما يصدمه الخبر، ولم يكن صعبا ان اتدبر بما معي من مصروف الذهاب لافضل صالون للحلاقة، وشراء افضل انواع العطر الرجالي، وان امضي في صباح اليوم الموعود بعد ان حلقت وجهي ووضعت فوقه ماء الكولونيا ووضعت العطر فوق بذلتي لاصل في وقت مبكر لم يكن قد وصل فيه احد قبلي، واقترب ببطء وعلى مهل من مكتب هند، فترفع بصرها بشيء من الاندهاش وكأنها لا تصدق ان هذا هو الفتي الذي جاء مع بقية الاولاد للاختبار التحريري.
ــ صباح الخير آنسة هند.
نعم، كانت هناك لمعة اعجاب في عينيها، اثارها هذا الفرق بين مظهري اليوم ومظهري الكاجوال الذي جئت به في المرة السابقة، نظرة اعجاب طاريء، ولكن نظرة الاعجاب في عيني نظرة ثابتة دائمة مستقرة، بل تفوق الاعجاب الى شيء اكثر حميمية وعمقا، بدأ الاولاد يتوافدون وكلهم اكثر اناقة مما كانوا عليه في اختبار السابق، لان اجتياز اختبار الهيئة جزء اساسي من اجتياز هذا الاختبار، الا ان احدا منهم لم يكن يستطيع ان يصل الى معشار المستوى الذي ظهرت به، الى حد قد يستغرب من يراني ان مثلي يمكن ان يتقدم لاختبار اصحاب المؤهلات المتوسطة ولوظيفة لن يزيد مرتبها كثيرا عن مرتبات الفراشين ورجال الحراسة في الشركة، كان اسمي الخامس بين الممتحنين العشرة، وقد جلسنا جميعا في الصالون الذي اعد لنا امام مكتب الانسة هند بانتظار ان يبدأ الاختبار. اخترت مقعدا يواجه هند لاتيح لنفسي افضل موقع ارقب من خلاله الفتاة التي اسرت قلبي في شباكها، ولم يكن هناك شرحا تقوله لي عندما وصلت عدا ان ترتيبي هو الخامس وان استعد للدخول فور خروج الممتحن الرابع واسمعها تنطق اسمي لادخل الى ذات القاعة السابقة حيث اجد لجنة الاختبار في انتظاري.
كنت اجلس لاهيا عما يجري من حولي، مستغرقا في النظر اليها، سابحا في ملكوك جمالها، شاعرا ان الله لم يخلق ولن يخلق في ماضي البشر ومستقبلهم امراة اكثر منها جمالا، وهو امر يبهجني ويرعبني في ذات الوقت، لانه من انا بين هؤلاء البشر الموجودين فوق كوكب الارض، لاقول انه يمكنني ان افوز بها وانا في اسفل درجات السلم الاجتماعي منهم جميعا، هناك في العالم بشر حازوا المال والشهرة والمجد والشباب والجمال ينتظرون بالتاكيد اشارة منها، ليهرعوا راكعين تحت قدميها، لتختار من بينهم من ترضاه زوجا، ثم اعود لاقول ان مثل هذا المنطق لا يستقيم مع عاطفة الحب، فهي عاطفة لا تخضع لمثل هذه العوامل ولا سيطرة عليها لمثل هذه المزايا التي نسميها الجاه والنفوذ والثروة والحسب والنسب والاناقة والجمال، للحب قوانينه الخاصة التي تجعل اقل الناس حظا في تملك هذه الاشياء، هو الاوفر حظا في الحب، ثم اقول اصادق على ما قلت سابقا مستدركا ان لذلك ايضا شروطه، فقد لا يفوز بها من اعتمد في تسويغ نفسه على الثروة والجاه والمنصب والحسب والنسب والاناقة والوسامة ويفوز بها غيره من لا يملك ما يملكه، ولكن لابد ان تكون هناك مؤهلات اخرى لهذا الغير تتصل بشخصيته وروحه وثقافته وظرفه وصدقه وامانته واخلاصه وعمق العاطفة التي يحملها له، وتكون الظروف قد اتاحت له ان يريها كل هذه الخصال واتاحت لها ان تتعمق في فهم واستيعاب هذه الشخصية وما توفر لها من مزايا روحية ونفسية واخلاقية، فكيف اذن لمن كان مثلي لم تره الا بضعة دقائق منذ اسبوع مضى، ولم تره الا بضعة دقائق اخرى اليوم، ولم تسمع منه في الحالتين غير جملة صباح الخير ان تعرف مناقبه وخصاله وتغرق في حب هذه الخصال وتجعلها تقلب كفة الميزان لصالحة في مواجهة ابطال الثراء والنجاح والجمال المستعدين للارتباط بها. تنبهت الى احد الاولاد الجالسين بجواري يدعوني ان استمع لهمسات احد الذين ادوا الاختبار وخرج يخبرنا بفحوى المقابلة والاسئلة التي كانوا يطرحونها عليه وعدد اعضاء اللجنة وهم اربعة يرأسهم رجل لبناني خمنت انه مساعد المدير الذي يمت بقرابة ما للانسة هند، وبينهم رجل قانون فلسطيني واثنان من الليبيين احدهما ياخذ محضرا بما يدوروجاء بعده الممتحن الثاني الذي عرفنا منه ان الاسئلة تختلف من ممتحن للاخر ومعنى ذلك انه لا فائدة من سماع ما سمعوه من اسئلة، وعدت لسبحاتي مع الملكة المتربعة على عرشها المتنعمة بمجد وبذخ هذا الجمال الذي حبته بها الملائكة، فلم يخرجني من سبحاتي معها الا ارتفاع رموشها وهي تشيعني بنظرة من عينيها طار لها صوابي وعاد من طيرانه على سماع اسمي ينطق به ثغرها:
ــ السيد احمد ابراهيم الفقيه
لا ادري ان كان هناك بشر في عالمنا الارضي نطق اسمي بهذا الصفاء والنقاء والبهاء، لانني لم اجده يحرك وجداني ويعزف على اوتار قلبي بمثل هذا النطق الا في هذه اللحظة، واستقبلت بملء وجداني هذا النطق كانه قطرات من نبيذ قادم من فراديس الله، فيصيب الجسم بكل خلاياه بامتع انواع الثمالة والانتشاء.
استجمعت قواي اقاوم الخذر اللذيذ الذي اصابني، واقوم واقفا لاتجه بخطوات وئيدة نحو القاعة، فاجلس حيث اشار احد اعضاء اللجنة ولم يكن صعبا ان اتكهن بمن هو الرئيس الذي كان عريضا، طويلا، اشيب الفودين، جهوري الصوت، وتكهنت بان رجل القانون الفلسطيني هو هذا الرجل المتقدم في السن بوجه كثير التغضنات والتجاعيد، ولم اعر اهتماما لليبيين، فلاشك انهما لتوفير الديكور الضروري لشركة اجنبية تعمل برجال اجانب فوق ارض ليبية.
لا استطيع اليوم، وبعد مرور خمسة عقود ان اذكر تفاصيل ما دار من حديث في تلك المقابلة، رغم انني اذكر شكلها واذكر كل تفصيلة صغيرة تخص هند التي من اجلها اعود لاستحضار هذه الذكرى، الا انني استطيع ان اذكر فحوى ما حدث اذ سألني الرئيس عن طبيعة عمل الشركة، فقلت له بانني اعلم انها شركة بترول، الا انني لم احضر هنا لاعمل خبيرا في هذا المجال وانما لعمل اداري تؤهلني له السنوات التي قضيتها في معهد تجاري، فسالني ان كنت اعرف شيئا عن البترول، فلم ازد على ان قلت انه المادة التي تنتج الطاقة، وعلاقة هذه الطاقة بتسيير عالم الصناعة والمواصلات والكهرباء، وهي مادة رشحت الى باطن الارض من عصارة ما عاش فوقها من كافة اشكال الحياة والاحياء عبر مئات الملايين من السنين،معلومات كانت يسيرة لمن كان مثلي يدمن قراءة الكتب والمجلات،ولم اكن بحاجة لانتظر النتيجة التي ستعلق في سقيفة الشركة في اليوم التالي لان المدير صافحني وهنأني بالنجاح قبل خروجي من القاعة، طالبا مني ان احضر لاستلم عملي في مطلع الاسبوع القادم
ما كان يهمني في الحقيقة ليس حصولي على الوظيفة، لان الفرص كانت متاحة في اماكن كثيرة اخرى، من بينها المصارف التي كان يتجه اليها زملاء آخرون، وكانت قادرة في السنوات الماضية على استيعاب اكثر الخريجين، ثم ان الادارات الحكومية كانت تضعه شرطا ان ينتسب الخريج اليها، وكان الطالب قبل قبوله في المعهد يقوم بتوقيع تعهد يلزمه بالعمل الحكومي، الا ان هناك تفاهما بين الحكومة وبين المصارف والشركات حول التغاضي على هذا الشرط، من اجل اتاحة فرص افضل امام الشباب المحليين لاخذ مكانهم في هذه المصارف والشركات التي تعتمد في عنصرها البشري على الخبرات الاجنبية.
النجاح، النجاح،النجاح للنجاح طعم لا يتغير، هو طعم البهجة، مهما كان الموضوع الذي يتم فيه النجاح حتى لو كان لعبة الورق في مقهي، النجاح هذه المرة جاء ممزوجا ببهجة اخرى هي بهجة الحب، بهجة ان اكون قريبا من الفتاة التي احبتتها من النظرة الاولى، وصرت لا اتصور الحياة بعيدا عنها، وكنت اقاوم كل يوم ان اذهب الى الشركة لالقاء نظرة علي وجهها الساحر واتلقى كلمة او ابتسامة او نظرة تكون اشبه بكاس من رحيق السعادة يطفيء توقي وعطشي اليها، الا انني قاومت، لانني اريد الا ابتذل نفسي وابدو كمن يتلهف للوظيفة، فالوظيفة هي التي يجب ان تتلهف للفوز برجل مثلي هكذا يجب ان ابدو في عيني هند عزيزا، كريما، واثقا من نفسي. كان مؤسفا ان الزميل الذي شجعنا على الالتحاق بالامتحان واحضر لنا الاستمارات يخفق في الامتحان. نجح من اعضاء الكابينة اثنان هما انا وزميل ثان، وبقي اربعة بينهم صاحب الفكرة، ولعله نادم لان فرصة النجاح امامه ربما كانت اكبر لو بقينا على جهل بالمسابقة ولم ندخلها معه، المهم انني طويت البذلة فورعودتي من الشركة وبقيت اعد الايام استعجل يوم المثول امام هند في مطلع الاسبوع القادم واصبح زميلا لها اراها كل يوم، نعم كل يوم، فاي مكافاة ابهى واجمل من ذلك، صحيح انني بدات بالحماس للانتساب الى شركة البي بي من اجل ان المرتبات في شركات النفط تضاهي مرتبا اكثر من الضعف الذي تعطيه الحكومة لامثالنا ولكنني الان لا اقيم اعتبارا للمرتب او للوظيفة او للنفط ولشركاته ولكن اقيم اعتبارا للكواكب التي تدور في افلاكها تملأ الكون ضياء ولطيور الحب التي تسبح في افق له لون الذهب ينعكس على اجنحتها تطلق انشادها الجميل في فضاء الكون وللموج محفوفا بالزبد قادما من عمق البحر كانه قادم من السماء يرتدي عقودا من فضة ويرقص في اعراس الارض ولكون من البهاء والجمال يبزغ من عيني هند ويحيط بها ويقف ممتثلا لكلمة تخرج من ثغرها الجميل وابتسامتها التي تقطر شهدا وغناء.
ومرتديا ذات البذلة وما معها من ملاحق، وما رافقها من سشوار للشعر وزيوت فوقه وكولونيا فوق الوجه وبرفان فوق البذلة ذهبت في اول ايام الاسبوع اقدم نفسي للانسة هند، اسعدني ان اراها عائدة الى مكتبها من مكتب اخر، فتوقفت قبل الجلوس في مكتبها تشير الى حيث يجب ان اقدم نفسي وكانت هذه هي فرصتي لارى الجسم الذي يحمل هذا الراس وهذا الوجه، اراه كاملا في مجده الانثوي، في كمال تناسقه واناقته ورشاقته، الفستان مشدود على وسط يضيق الى حد التلاشي، الى حد يستحيل معه ان تتصوران لمثل هذا الجسم جوفا يضم ما يضمه البدن الانساني من اعضاء واجهزة، بينما لمعة الساقين بلونهما الوردي واستدارة الفارتين في هذين الساقين وما ياتي تحتهما وما يظللهما من استدارة جسمها الخلفية تبدو كان رساما عبقريا في النسب والتناسب هو الذي هندس كل هذا التكوين الجمالي الانثوي، نعم كنت قد نسيت نفسي وانا اصنع بخطواتي دائرة حولها لاستوعب الجسم بصدره النافر والشعر بخصلاته الهابطة فوق الحاجبين والجبين ثم باطرافه وخصلاته التي تحيط بالاذنين وتتارجح فوق الظهر والكتفين، وابقى للحظات واقفا املأ منها البصر واختزن في وجداني هذا الجمال لحظات بعد ان سمعت كلماتها ورايت يدها تشير الى قسم شئون الموظفين، وكانها عرفت انني لم اسمع ما قالته فاعادت القول مشيرة الى المكان مرة ثانية، عندئذ اتجهت الى ذلك القسم الذي استقبلني رئيسه وهو رجل ليبي في منتصف العمر، استقبالا حارا، باعتباري زميلا واحضر لي القهوة وهنأني بنجاحي في اجتياز الاختبار. كنت من باب الابتعاد عن ابداء اللهفة قد ذهبت متاخرا ساعة او اكثر قليلا عن موعد الدوام، فاذا بهذا المسئول يبلغني ان كل زملائي الذين نجحوا معي في الامتحان قد جاءوا واستلموا رسائلهم للالتحاق باعمالهم، لان كل اعضاء هذه الدفعة سيلتحقون بميادين العمل الحقلي، اي مباشرة في حقول البترول ومناطق استكشافه حيث تعاني تلك المعسكرات من نقص في الجهاز الاداري الذي ستقتصر مهمته في اعداد الرسائل وطباعتها والقيام باعمال بسيطة تتصل بالترجمة وان هناك رسالة جاهزة لتقديمها لفرع الشركة في بنغازي ومنها سانطلق في احدى السيارات الصحراوية الى منطقة اسمها ام العقارب حيث انضم الى معسكر يبحث عن النفط هناك، وبدأ يشرح لي بعض التفاصيل الخاصة بالعمل فالمرتب الاساسي سيكون ثلاثين جنيها مضافا اليه علاوات العمل الاضافي قائلا بانني استطيع ان اذخره كاملا لان الشركة تقوم بتوفيرالايواء والطعام لموظفي هذه الحقول، وهو طبعا مرتب يعادل ضعف ما تمنحه الحكومة لامثالي من موظفي الدرجة السابعة، واسهب في شرح طبيعة العمل الذي سيؤهلني لوظيفة اكبر في الشركة مستقبلا ورغم ان القرار كان واضحا في ذهني وهو رفض العمل خارج طرابلس الا انني رايت ان اتريث في الكشف عنه متسائلا ان كانت هناك اية امكانية لوجود عمل في مقر الشركة بطرابلس خاصة وانني قادر على جلب ما يثبث ان عندي من الظروف العملية والعائلية ما يمنعني من الذهاب، فاجابني بانه لا مجال اطلاقا للعمل هذه المرة خارج حقول البترول وان العمل في طرابلس ليس مخصصا لمثل هذه المجموعة واذا شغرت وظائف في المقر الرئيسي فسيعلن عنها ويتم اختيار عناصر جديدة لها من خلال اختبارات خاصة بهذه الوظائف، طلبت منه ان يمهلني اسبوعا للتفكير، فاجابني بانه تقديرا لظروفي سيمهلني يومين فقط ويجب ان يتلقى مني الاجابة على اقصى حد صباح اليوم الثالث، وخرجت اجر قدمي جرا وادلدل ذراعي في اعياء وانا اشعر بجبال من الهموم يئن تحتها كاهلي وكنت جئت الى هذا المكان خفيفا ظريفا امشي في الشارع قاصدا مقر الشركة وكانني ارقص على انغام الموسيقى التي يخفق بها قلبي.
ربما لم يات هذا التاجيل لاخباره بقراري الا لاعطي نفسي فرصة ان اعود الى مقر الشركة وارى هند، لانني بالتاكيد لا اريد هذا المرتب الذي يمثل ضعف مرتب الحكومة في ام العقارب او الافاعي او الجعارين مدفونا برغم وجودي على قيد الحياة في عجاج واتربة تلك القفار، ليفعل ذلك أي زميل اخر من ابناء دفعتي، فقد يكون مثل ذلك العمل يناسبهم، لكنه لا يناسبني، لان حماسي لهذه الشركة ازداد بمائتي ضعف بعد ان شاهدت وجه هند واعتقدت بانني ساجاورها في العمل، ونقص الان بهذا المقدار عندما لم يتوفر هذا الشرط، ثم ان طرابلس تمثل لي اشياء اخرى غير العمل والمرتب، فانا هنا انتسب لفرقة تمثيل نادي الشباب الليبي، كما انتسب لفرقة النشاط الحر فيه التي تعني باصدار صحيفة حائطية، نطمح ان تكون مجلة تطبع في مطابع الحكومة، انا واحد من كتابها، وفي الفرقة انا واحد من القائمين بالتمثيل والادارة فيها، فلمن اترك هذه الهوايات وكيف استطيع ان امارسها في ارض العقارب والعياذ بالله، كفانا الله شر تلك البقعة من الارض وشر كل ما يجول فوقها من هوام وحشرات واعاصير.
لن اذهب الى ام العقارب وسابقى هنا بجوار معبودة القلب، هند.
انه قراري وليس قرار أي مخلوق اخر سواء اشتغل مسؤولا في شركة او مسؤولا لدى اكبر حاكم او ملك في العالم تخضع له رقاب العباد، فلن يستطيع ان يتحكم في قراري او يصنع لي مصيري او يقرر مسار حياتي بالنيابة عني.
سابقى هنا قريبا منك يا هند، هذا ما سافعله، بل هذا ما استطيع فعله، وهذا ماهو بالتاكيد ملك ارادتي، ولا يخضع لارادة احد غيري حتى هند نفسها، لان هند تملك قرار ان تحب من تشاء وترتبط بمن تشاء وتتزوج اذا شاءت الزواج ممن تشاء، لكنها لن تستطيع ان تتحكم فيمن ينظر اليها او يمشى في الشارع بجوارها، اويشاركها التسوق في الدكاكين او الذهاب الى الشاطيء او الجلوس في المقهى او النادي، او يتردد على العيادة التي تتردد عليها او غير ذلك من اماكن ومتنزهات. اعرف ان هناك ناديا للعاملين في شركات النفط وهناك عيادة خاصة بهم وهناك مصيف لعائلاتهم، وسوف لن اعدم وسيلة للحصول على بطاقة تتيح لي الذهاب لهذه الاماكن.
يجب ان ينصرف ذهني للبحث عن العمل البديل طالما قر قراري على رفض العمل المعروض من شركة البي بي لكن ذهني ابى اطلاقا ان يجعل المشكلة هي هذا البديل، المشكلة بالنسبة له هي البديل القادر على تمكيني من ان كون قريبا من هند طالما ابت الشركة ان تتيح لي عملا بجوارها. لابقى عاطلا عن العمل، كما انا الان،
ولتمتد هذه البطالة بدلا من شهر واحد الى عشرين شهرا قادما، انني الان اقيم اقامة دائمة في كابينة البحر بعد مغادرة القسم الداخلي، وقد لا تتيح لي موارد الوالد تامين غرفة او دكانة اقيم بها في طرابلس لا يهم، ساعود الى القرية واقيم مع الاسرة واتدبر كلما وجدت سبيلا رحلة الى طرابلس القي خلالها نظرة على هند واعود،حسنا، هناك بالتاكيد افكار وحلول افضل من حل العودة الى القرية، الا ان قرار العمل بحقول النفط في الصحراء وضعني وسط امواج من الحيرة تقذفني شمالا وجنوبا، بل هو في الحق وضعني في صحراء اخرى تضربها عواصف الرمل والحصى فتضيع امام اقدامي الطريق ولا اعرف في أي اتجاه يجب ان اسير، في اليوم الثالث للمهلة التي اعطانيها رئيس شئون الموظفين وقفت حائرا ان كنت يجب ان اذهب اليه او اتركه يعرف دون ذهاب، فالنتيجة واحدة سواء ذهبت ام لم اذهب لان انتهاء المهلة دون جواب يعني في حد ذاته جوابا، ولكنني ذهبت لسبب واحد هو ان ارى هند، عاقدا العزم على ان اطيل الوقوف عندها واحاول ان اخرج بنتيجة ما، هناك حفل غنائي يقيمه مصيف الصيد والرماية فلتكن معي مطبوعة دعائية عنه اتبعها بدعوة شفهية لحضوره باعتباري من قاطني المصيف، المهم، اية ذريعة ولتكن النتيجة ما تكون، لان الهدف هو هند وليس الرجل البائس الذي اراد ان يبيعني وظيفة بين العقارب في الصحراء الغربية، لكي ابذلها بكابنيتي على شاطيء بحر طرابلس، تبا له ولكل امهات العقارب واصحابها في الدنيا والاخرة، ومع ذلك ولكي لا اقفل الباب نهائيا امام ذهابي للشركة لاكحل انظاري برؤية هند تفتق ذهني عن اختراع بديل لرفض الوظيفة وهو كتابة رسالة استعطاف واسترحام لعطوفة السيد مدير فرع الشركة اشرح فيه ظروفي البالغة الصعوبة التي نسجتها من ذرات الهواء عن ام مريضة واب عاجز واسرة تعيش في هذه المنطقة لا احد يقضي لها حوائجها غيري تلزمني بالبقاء في طرابلس ومن اجل ذلك اريده ان يعيد النظر في امكانية ايجاد عمل لي بالمقر الرئيسي للشركة، مدركا انها رسالة لن تلقى القبول كما شرح لي مدير الموظفين فهي شركة نفطية وليست جمعية خيرية، وكتبتها عارفا هذه النتيجة، ووضعتها في جيب سترتي وانا اتجه الى مقر الشركة ووضعت معها علبة تنتمي الى صنف فاخر من انواع السجاير رغم انني لا انتمي لاهل التدخين، لاستخدامها في قضاء بعض الاغراض. وعند وصولي الى دسك الاستقبال وزعت رشة من السجائر، باعتباري صرت زميلا لهؤلاء الحراس والكتبة، وهرولت صاعدا السلالم الى الدور الاول:
ــ صباح الخير آنسة هند
اقولها باعتبارها صارت كلمة السر بيني وبينها، واخرجت فور انتهائي من القائي هذه التحية ورقة الدعاية للحفل الساهر مشيرا الى مطرب الحفل الشهير الذي تحتل صورته الجزء الاكبر من الورقة، قائلا لها انه حفل عام نقيمه في هذا المنتجع السياحي، واتمنى حضورها لتشاهد انواعا من الفن الليبي ليس متاحا الاطلاع عليها باستمرار، وطبعا لم اعر انتباها للاسباب التي ساقتها بعد ان ابدت تعذر استجابتها للدعوة، ولم اتراجع منهزما امام اعتذارها فنفس هذا المطرب سيحيي احتفالات عيد الربيع التي يقيمها مهرجان جنزور في حفل شعبي يحين موعده بعد اسبوع، وهناك بعد اسبوعين العيد العاشر لتاسيس نادي الشباب الليبي حيث سيقوم باحياء الحفل حشد من المطربين مع فرقة لفنون الرقص الشعبي ستاتي خصيصا من تونس، لكي اجعل مجال الاختيار امامها واسعا عريضا، ولكن الاعتراض فيما يبدو ليس اعتراضا على الحفلات وانما على مبدأ ان تستجيب لدعوة شاب ليبي، قد تثير الاستجابة له السنة اهل القر والشر، فلست غافلا على التحذيرات التي تزود بها العائلات الاجنبية بناتها من مغبة التورط في علاقة مع شاب ليبي، وعن قسوة هذا المجتمع المتزمت المنغلق مع اية فتاة سافرة الوجه تعمل في وظيفة عامة او خاصة، وكيف يجب ان تلتزم الحذر خوف الوقوع فريسة لكلام الناس الذين يتربصون بها الدوائر لمجرد انها خرجت عن التقاليد التي تحكم نساء البلاد المحجبات القابعات داخل جدران البيوت. لم تستطع كل هذه الدعوات اقناعها بان تتزحزح مرة واحدة عن اعتذارها، ولكنني افهمتها على وجه اليقين، قوة اهتمامي بها، ولعلني اشعرتها بهذا الالحاح بمدى افتتاني بها وعمق ما احمله لها من مشاعر الحب والهيام، لم استطع بعد استنفاذ ذخيرتي من الدعوات الا ان اتركها واذهب الى مكتب السيد مدير شئون الموظفين، واضع امامه ورقة الاسترحام التي اجرى نظره فوقها بسرعة واستخفاف معيدا امامي ما سبق ان قاله بان الطريق مسدود امام مثل هذا العمل، وان القرار في يده لا في يد مدير الفرع المشغول باشياء اخرى اكثر اهمية، وان لا حل امامي الا ان انتظر ان تعلن الشركة بعد عام او عامين او ثلاثة اعوام عن وجود وظائف شاغرة في المقر الرئيسي بذات المواصفات التي تنطبق على امثالي من اصحاب المؤهلات المتوسطة، فلم ازد على ان ابديت له املي ان يتولى عرض الطلب على مدير الشركة فلعله يتاثر لظروفي ويجد لي مثل هذا العمل والقيت التحية مودعا دون ان انتظر منه وعدا بان يفعل ذلك، لان المهم هو ان اعطي نفسي فرصة المراجعة، والا يكون هذا اليوم هو اخر عهدي بالمجيء الى هذا المكتب وهذه الشركة.
تلكأت قليلا عند جماعة الاستقبال اسأل عن الوسيلة التي ياتي بها الموظفون الى العمل، وعرفت ان نقل الموظفين من والى بيوتهم امر لا تتكفل به الشركة لسائر الموظفين، عدا المدراء الذين تصرف لكل منهم سيارة لاستخدامها وقيادتها بنفسه، وسيارة بسائقها للمدير، وهناك سيارة صغيرة بسائقها مخصصة لنقل النساء العاملات في الشركة وعددهن لا يزيد عن ثلاثة فقط.
اعرف على وجه اليقين حرج موقفي وصعوبة الطريق الى قلب هذه الحورية التي هبطت من رياض السماء الى ارض التزمت والانغلاق ليبتليني الله بحبها، كما ادرك ما يعترض هذا الطريق من اهوال لن يستطيع ازالتها الا مارد مصباح علاء الدين، الذي احلم دائما بلقائه، ليظهر لي مغمورا بسحائب من الابخرة والدخان، يسد المنافذ بين الارض والسماء، قائلا شبيك لبيك عبدك وبين ايديك، ويباشر فيما بعد تنفيذ اوامري بازالة العراقيل التي تحول بيني وبين الوصول اليها، المشكلة ان المصباح ومارده العظيم النبيل الكريم اسطورة من اساطير الخيال، وانا اواجه واقعا يفوق امكانيات بني آدم مثلي يبدأ اولى خطواته في السباق العظيم الذي يسمونه في بعض الادبيات سباق الفئران، اشارة ربما لمن كانوا مثلي ملتصقين بالارض لا يملكون من متاعها اكثر ما يملكه الفأر ولعل الفأر يتميز عن امثالي بجحر لا ينازعه في امتلاكه احد ولا يطلب منه ايجارا لقاء اقامته فيه، فرق شاسع واسع بين التفكير في الحب او تصوره في الاحلام وبين الوقوع فيه، صور جميلة رسمتها له في خيالي وانا اقرأ القصص المضمخة بازهى واجمل الكلمات ذات النفس الشعري واشاهد الافلام العربية التي تنتهي بتلك النهاية السعيدة التي يتزوج فيها العاشق الفتاة التي يعشقها،واسمع الاغاني فابتهج لها واغبط هذا المحب الذي تتغني باسمه الاغاني حتى وهو يعاني لوعة السهد وحرقة الفراق وارى الحب لذيذا جميلا حتى في انينه ومعاناته ولواعجه، ولكنني اطلاقا لم اكن اتصوره يماثل هذه الحالة التي اجد نفسي فيها، فانا احب هند، واحبها واحبها واحبها واستطيع ان امضي في تكرارها بعدد الجراد الذي اغار على اهراء الحبوب التي يذخرها الملك في الحكاية الشعبية لمواجهة الاعوم السبعة العجاف حتى اخلاها، لانني احس به حبا كبيرا بسعة الكون، ولا اتصور لحياتي معنى ولا قيمة الا اذا اتحدت هذه الحياة بحياة من احب، المعضلة طبعا ان هذه الفتاة ليست ابنة العم او الخال او الخالة التي اذهب متوسلا والدي ان يخطبها لي، وليست بنت الجيران التي اقذف شرفة بيتها بالورود الحمراء حتى تستجيب لي، وليست طالبة في المدرسة الثانوية التي لا تبعد الا شارعين عن مدرستي فامشي خلفها حتى اعرف اهلها وبيتها وارسل اهلي يخطبونها لي، انها هند، التي تنتمي لوطن اخر وطبقة اخرى وربما ثقافة اخرى غير ثقافة المجتمع الذي انتمي اليه الذي يمنع نساءه من الخروج الى النور والحياة خارج جدران البيت، ولها مركز متميز بمرتب متميز لانها مستخدمة اجنبية تخضع لمبدأ التعاقد لا الموظف المحلي، في شركة يحتل فيها احدى اقاربها منصبا قياديا، واثق انني لو، على سبيل الافتراض شبه المستحيل، جلبت امي الى بيت اسرتها فلن تفهم كلمة من لهجتهم اللبنانية وربما لن يفهموا هم كلمة مما تتكلمه امي بلهجتها القروية البدوية، فكيف وباية حصان سحري له اجنحة اعبر كل هذه الفروق اليها، المهم انني بعد ان تسكعت تائها بضع ساعات في شوارع وسط المدينة ورجعت اهجع في كابينة المصيف مفعم العقل بالافكار والهواجس، احاول ان اعثر على خطة اواجه بها الموقف، كان اقصر الطرق واكثرها وضوحا ويسرا، اضمن به راحتي واطرد ما يواجهني من عنا، هو ان اترك الموضوع جملة وتفصيلا، أي موضوع البي بي وهند وما ياتي منهما، وانشغل فيما ياتي من ايام بالبحث عن وظيفة جديدة اضمن بها البقاء بطرابلس، ولا باس لمعالجة مسألة القلب الذي تعلق بهذه الفتاة،ان اقوم بزيارات الى الجزء العائلي من المصيف البلدي، الذي تروده نساء الجاليات الاجنبية، احاول البحث عن وجه نسائي جميل اتعلق به، على سبيل التسلية والمساعدة في الخروج من تلك الحالة العاطفية التي اوقعت فيها نفسي والمحاطة من كل جانب بالطرق المسدودة،الا انني لم استطع بفكر ذلك الفتى الارعن المحكوم بطيش اعوامه العشرين ان التزم بهذا الطريق واخترت طريق التحدي الذي لا طاقة لي عليه والذي سيجلب لي الصدمات المتلاحقة واحدة بعد الاخرى مخدوعا في نفسي قائلا لها بانني سابذل اقصى ما في جهدي حتى اصل نبع الماء في قمة الجبل مدركا انني لا املك ابسط عدة تؤهلني لتسلق ذلك الجبل، فهوالعناد الذي لا سند له ولا زاد الا العناد،ولعله ايضا – وهو امر لابد من ذكره انصافا لما في سلوك ذلك الفتى الذي كنته من اندفاع ورعونة – ان الفتاة تملك سحرا لم املك ازاءه طاقة او ارادة تستطيع الصمود والمقاومة، وحيث لم اكن املك ذريعة اعود بها الى الشركة في اليوم التالي، فحتى ما زرعته لاجني تماره لاحقا وهو طلب الاسترحام، يحتاج الى بضعة ايام قبل ان يحين وقت المراجعة والاستفسار بخصوصه، فقد رايت ان اعتمد في اتصالي بها هذه المرة على الهاتف، اذ ذهبت الى مبنى البريد وطلبت من هناك هاتف شركة البي بي راجيا عامل البدالة تحويلي الى الانسة هند وباستغراب سالتني دون اية تحية عن الخدمة التي تستطيع تقديمها لي، ولم يكن هناك شيء في ذهني يمكن ان اقوله لها غير تلك الكلمات التي اطوي عليها قلبي ولا مجال للافصاح بها، لانها كانت ستقفل دون ريب الهاتف في وجهي لو همست بشيء منها في الهاتف، وتذكرت ان نادي الشباب يشارك في اقامة معرض لرسوم الاطفال بالتعاون مع احدى المدارس الابتدائية، فبالغت في الحديث لها عن اهمية المعرض الذي تشرف عليها بعض المدرسات الفضليات وانني احمل رسالة منهن بدعوتها لانهن يحرصن على وجود ضيفات ليبيا من الشقيقات العربيات في هذا المعرض والاطلاع على ابداع البراعم الليبية، وبضيق ونفاذ صبر اجابتني بان ظروف العمل لا تعطيها فرصة للذهاب لاية مناشط واحتفالات كما سبق ان اخبرتي وترجوني ان احترم وقت العمل الذي تقوم بها، فلا احرجها مرة اخرى بمثل هذه الدعوات. اتضح لي الان ان ما اظهرته لي ان ابتسام وترحيب خلال يومي الاختبار لم يكن غير نوع من المجاملة التي تفرضها المناسبة، اما الان، وانا احادثها هاتفيا بما لا يخص العمل، فقد كان لابد ان تظهر لي الوجه الوحقيقي الذي بدا حازما جازما صارما فيما يخص وضع الحدود بين العمل والعبث. لعلها ظنت انني اعمل مدير تسويق وعلاقات عامة لمثل هذه الحفلات والمعارض، وارادت ان تهرب مني كما يهرب الناس عادة ممن يريد ان يفرض عليهم شراء بضاعة لا يريدونها، وما كنت اريد منها غير فسحة نختلي فيها معا، لاكاشفها بحقيقة مشاعري واترك لها بعد ذلك حق ان تختار،وهاهي لم تفهمني ولابد اذن من وسيلة لازالة اللبس وتوصيل هذه الرسالة اليها، هل ياتي الامر عن طريق مكالمة اخرى لا اتطرق فيها للمعارض والدعوات واطلب لقاء بسيطا لشرح مشاعري، ليس اليوم بطبيعة الحال، في الغد ربما وفي وقت اكثر تبكيرا لايكون فيه العمل قد وجد فرصة ليتراكم فوق مكتبها ويضعها في جو نفسي غير قابل للاخذ والرد بسماحة وبها طبع، وهذا فعلا ما قمت بفعله في بواكير اليوم التالي عندما ذهبت في اولى ساعات الدوام الى البريد اطلب الشركة وارجو العامل كما فعلت في المرة الماضية ان يحيلني الى الانسة هند ذاكرا له اسمي، فاذا بالجواب ياتي هذه المرة بالاعتذار عن تحويلى لان الانسة هند مشغولة ولا وقت لها لاستقبال المكالمات الهاتفية، هاهو سوء الفهم يصل بها الى مرحلة الغضب مني، لانه لا تفسير لهذا الرفض غيرذلك، وانا طبعا لا اطيق باية حال ان اكان مصدر غضب وكدر لها. قررت ان هذه الالة الصماء التي يسمونها الهاتف، لن تستطيع ان تكون رسولا بين العاشقين، برغم كل اغاني الافلام التي تتغزل باسلاك الهاتف باعتبارها اسرع الوسطاء واكثرهم امانا، واقدرهم على ربط اسلاك القلوب ببعضها البعض وهاهي التجربة العملية تبطل خيال المغنين، ولا حل بالنسبة لي الا ان اعرف بيتها، واترصدها هناك، لكي ازيل سوء الفهم الذي حدث، وقبيل انتهاء الدوام، استأجرت سيارة اجرة وقفت بها امام مرآب شركة البي بي، وامرته ان يتبع السيارة التي تقل النساء العاملات وبينهن هند لحظة ان رايتها تهم بالخروج من الجاراج، وانتظرت حتى اوصلتها السيارة الى الفيلا التي تسكنها في اول طريق سيدي المصري، وراقبتها حتى دخلت، وعندها نفحت سائق سيارة الاجرة اجرته وخرجت عازما ان استخدم الحافلة في طريق العودة بعد ان تاكدت من المكان ورسمت له خريطة في ذهني بما حوله من بنايات وامامه على الجانب الاخر من الطريق من بساتين لكي لا يغيب عند ذهني،خاصة وان هناك يافطة يضعها صاحب مزرعة على سورها تحمل اسمه، تفاءلت به لانه يجمعني معه لقب الفقيه، حسبت المدة التي تستغرقها رحلة السيارة بين بيتها ومقر الشركة وجدتها لم تاخذ غير عشرين دقيقة، وستأخذ في الصباح الباكر حيث المرور اقل زحاما زمنا اقل، ومعنى ذلك انها ستكون في صباح اليوم التالي امام باب الفيلا تنتظر السيارة قبل ربع ساعة من بدء الدوام، وساكون هناك قبل خروجها بربع ساعة اخرى، لانتظرها واختطف دقيقة او اثنين من وقت انتظارها للسيارة اشرح لها فيها غرضي لكي لا يبقى هناك مجال لاي لبس، ولم اكن احتاج في اليوم التالي الى سيارة اجرة فقد عرفت المكان وموقف الحافلة ومحل انطلاقها والوقت الذي تاخذه في رحلتها ورسمت خطتي بحيث اكون في الوقت المحدد قريبا من باب بيتها، واشتريت قبل ان اركب الحافلة باقة ورود حمراء تعبر عن لواعج الشوق الذي احمله لها لتكون عربون محبة وسلام وامان، وقفت على الرصيف المقابل لباب البيت انتظر خروجها، وتوافق هذا الخروج مع اقتراب السيارة التي جاءت تقلها، فاسرعت الخطى الحق بها قبل ان تركب السيارة، الا انها اهملتني واتجهت الى السيارة قبل ان يصل بها سائقها الى الباب ويوقفها، وتفتح بسرعة وغضب بابها ولا زالت عجلاتها لم تتوقف تماما عن الحركة، كانها تريد الهروب من شبح يطاردها، وخاطبت السائق قائلة في غضب:
ــ من فضلك يا عمي سعيد، انظر في امر هذا الولد ماذا يريد.
خرج من السيارة مارد اسود، اقرب الى صورة المارد الذي تصورته لمصباح علاء الدين،لا ليقول شبيك لبيك ولكن ليسألني بلهجة حانقة زاعقة عما اريد بوقوفي امام بيت الانسة، تلعتمت ولم ادر ماذا اجيب، فهل حقا سيفهم لوقلت له انني احبها واريد ان افاتحها بامر هذا الحب، ام ان هذا الكلام سيجعل الغيرة السوداء تشتعل في جوفه ويصبها جاما من الغضب الناري علي بدني لكما وركلا، وخروجا من المأزق قلت له انني اشتغل بمحل لبيع الورود جئت اجلب هذه الطلبية من الورد لاهل البيت، فاجابني بنفس اللهجة بان الانسة لاتعرف شيئا عن هذه الورود، “ولابد انك اخطأت العنوان، فعد بورودك لمن ارسلك” وتحرك بسيارته، واحسست بشيء من الارتياح لانني استطعت الافلات من عقابه. اعرف ان الانسة هند ستكشف له كذب ما قلته ولكن بعد ان اكون قد تركت المكان ولن يجدني حتى لو فكر في العودة، المشكلة هي انني لن استطيع ان ارجع صباح الغد حاملا ذات الباقة من الورد، لانني بالتأكيد لن اخرج من الموقف سالما كما خرجت اليوم، لابد من التفكير في خطة اخرى للتعامل مع هذه الحالة، قضيت الوقت اتسكع في مركز المدينة، ووجدت امام جامع ميزران شحاذا عجوزا يفرش منديلا لعطاي الناس فرميت له باقة الورود عله يجد احدا يشتريها منه، واوصلني تسكعي الى الوكالة التي يقصدها تجار القرية لاجد والدي قد وصل لتوه من القرية ولم يباشربعد في الاتصال بالتجار الذين يتعامل معهم ولم يذهب الى قريب يعرفني في شارع ابو هريدة ليرسله الي، فجاءت به اليه المصادفة في الوقت المناسب، لاخبره بانني نجحت في امتحان شركة البترول دون ان اضيف ما اعقب النجاح تمهيدا لان اخبره بالمبلغ الكبير الذي كلفته شراء الملابس التي ضمنت لي النجاح، وان الام يحتاج الى المزيد من النقود لكي استطيع ان ابدا الاعتماد على نفسي وانا ادخل الحياة العملية، فالمرتب نفسه لن ياتي الا بعد مضي شهر بعد مباشرة العمل وهذه المباشرة احيانا تاخذ اكثر من شهر حتى يحين موعدها، توقف برهة للتفكير، وكانه يريد ان يحسب في راسه كيفية المواءمة بين هذه المصاريف الطارئة وبين ميزانيته للدكان ومصاريف البيت، واقتحمت صمته لاقول ان المرتب في شركات النفط عادة ما يساوي مرتين مرتب الحكومة، وانني ساعفيه من التفكير مستقبلا في أي مصاريف تتصل بالبيت، وبعد برهة فتح المحفظة واخرج ما قميته عشرون جنيها، ومدها لي في صمت وحزن، دون ان ياخذ رائي فيما اذا كان هذا يكفي او لا يكفي لانه لن يستطيع تدبير اكثر من ذلك بالاضافة الى الدين الذي ترتب عن الملابس والذي سيسعى لتقسيطه، لانه لن تكون له امكانية تسديده من ميزانية هذا المشوار الذي يقوم به مرة كل شهرين او ثلاثة اشهر لتموين دكان البقالة الفقير الصغير الذي يسترزق منه في القرية. وكان هذا اكبر مبلغ اضعه في جيبي منذ ان جئت الى الدنيا. قضيت معه بعض الوقت وشاركته وزملاء الوكالة وجبة الشكشوكة التي اعدوها على عجل للغذاء وبقيت معه حتى اذان العشاء حيث ودعته وتركته يدخل مسجد ابورقيبة القريب من الوكالة، لانه في الصباح سيشحن مااشتراه من بضاعة ويعود مع سيارة الشحن الى القرية. وعدت اتقلب فوق سريري بكابينة نادي الصيد والرماية وافكر في خطة جديدة، متسلحا بهذا المبلغ الكبير من المال الذي تحايلت على استلامه من ابي. اعرف الان على وجه اليقين، انه لا وجود لاي لبس لديها من حيث الهدف الذي اريده منها، خاصة وهي تراني اقف امام بيتها حاملا ورودي الحمراء، فليس هكذا يفعل من ياتي طالبا عملا، ولا من ياتي من قسم العلاقات العامة ليروج لمعرض او حفل موسيقي، ولا تفسير لسلوكها وهي ترفض هذا الموقف الا انها ترفضني كشخص حتى لو كان ما احمله لها عواطف فيها سمو الحب ونبله، وطبعا من حقها الا تستجيب لهذا الحب، الا ان ثمة طريقة اكثر تهذيبا من مثل هذا السلوك المهين الذي سلكته معي، وهو سلوك لن يجعلني اتراجع عن حبي لها، لانني لا املك السيطرة على قلبي وعواطفي لافعل ذلك، ولكنني استطيع ان اشعر في مكان عميق من نفسي ان هذا الحب صار يمازجه شيء من الرغبة في الانتقام، ليس الانتقام بمعني انني ساسعى لاهانتها، او اقوم بشيء لإيذائها، ولكن انصافا لكرامتي لابد ان اجعلها تعرف، بطريقة ما، انني لا اقبل الاهانة ولا احتملها، ولا ارضى بالسكوت عنها، عندما يتعمد احد الناس توجيهها لي، مهما كان حبي لهذا الشخص كبيرا، اكبر من حبي لامي وابي، هكذا اتجه تفكيري، وبدات ارسم تصورا لما يمكن عمله وهو امر يوجب ان ابحث عن صديق يملك سيارة خاصة، لان هذا ما سوف احتاجه في اليومين القادمين، ثمة زملاء لي في نادي الشباب ينتمون الى كبرى العائلات التجارية في طرابلس، ولن يعدم ان اجد بينهم من يملك هذه السيارة التي اريده ان يقلني بها في بضع مشاوير صغيرة، وقصدت عندما ذهبت الى النادي اول واحد منهم يشرب علبة مشروب، وفاتحته في الاستعانة به وبسيارته فسالني ان كنت اعرف القيادة فتذكرت انني اخذت منذ عامين عندما بلغت سن الحصول على رخصة بضعة دروس مع صاحب مدرسة سيارات من اهل قريتي ثم ارجأت الموضوع الى ان ياتي وقت اكون فيه قادرا على شراء سيارة، فقال لي الرجل طالما اعرف ان اقود السيارة فان لشقيقة وكالة لتأجير السيارات يستطيع ان يوصي بي لديه واحصل منه على سيارة فلوكس قديمة ولكنها في حالة جيدة، بايجار بخس هو جنيه واحد في اليوم بدل الاجرة الكاملة وهي جنيهان ونصف وستعطيني مثل هذه السيارة كما يقول حرية اكثر في استخدامها كيف ما شاء فاتفقت معه على لقاء عند وكالة اخيه في ظهر اليوم التالي وذهبت قبل موعدي معه الى مدرسة تعليم السيارات لاستعادة ما اعرفه من معلومات، واستذكارها، وتغلبا على عدم وجود الرخصة تم تسجيل رخصة زميل النادي باعتباره هو الذي قام بتاجير السيارة واستلمت السيارة الفولكس البيضاء بعد ان اعطيت صاحب الوكالة خمس جنيهات مقابل استخدامها لخمسة ايام وتبرع لي بما فيها من بنزين يزيد على ربع الخزان. كانت تحرياتي قد افادتني بان صلة القرابة التي تربط هند بمساعد المدير العام هي انه خالها وقد احضر شقيقته ام هند ووالدها للعمل في مصنع حلويات يملكه مع شريك ليبي واعطى للابنة وظيفة بمرتب كبير في الشركة التي يقوم فيها بدور المدير الفعلي لان مديرها الانجليزي كثير الغياب والمهمات في بريطانيا تاركا لمساعده اللبناني كل الاختصاصات، ولانهماك ابويها في مصنع الحلويات طوال اليوم فانها هي الموكول اليها قضاء حوائج البيت ولديها مشوار يومي للمتاجر تقوم به كل مساء مستخدمة سيارة العائلة.
اتجهت فور استلامي سيارة الفولكس البيضاء الى سيدي المصرى واخترت ظل شجرة في الجهة المقابلة لبيتها وجلست انتظرموعد خروجها لا احيد ببصري عن باب البيت، حتى رايت ظلفتي باب الجاراج تنفتحان وتخرج هند تقود سيارة الفورد الزرقاء وتمر بجواري دون ان تنتبه لوجودي في السيارة واستدير خلفها اتبعها وهي تنعطف باتجاه الطريق الذي يقود الى حي قرقارش، وهناك اوقفت سيارتها في شارع جانبي فاوقفت سيارتي على بعد مسافة قليلة خلفها وتبعتها وهي تهبط من السيارة وتعود الى الشارع الرئيسي حيث صعدت سلالم المدخل العريض المهيب لمتجر من نوع المتاجر الممتازة التي كانت ظاهرة جديدة ترافقت مع هذه المرحلة النفطية التي استقطبت الشركات الاجنبية الكثيرة، واختارت الامريكية منها هذا الحي بالذات ليكون موطنا لها، ومكانا للمتاجر والافران والمقاهي والمطاعم التي تحاكي الطابع الاجنبي الامريكي الذي يألفونه، كان المتجر على ما اذكر يحمل اسم سوبر ماركيت الحلبي نسبة الى الاصل الشامي لصاحبه ولعل هند اختارت ان يكون الدكان المفضل لها لوجود سلع واطعمة تنتمي الى تلك المنطقة، تبعتها حتى رايتها تدخل في عمق المتجر وعدت الى المكان الذي ركنت فيه سيارتها وفي لمحة خاطفة حرصت خلالها الا يراني احد، قمت بافراغ عجلاتها الاربع من الهواء، وعدت بسرعة الى مدخل المتجر حيث يخصصون زاوية منه لبيع القهوة والمشروبات والسندوتشات واستهلاكها وقوفا لضيق المساحة المخصصة لهذا البوفيه الصغير، فاشتريت علبة مشروب وبقيت واقفا انتظر خروجها، ولم يمض طويل وقت حتى رايتها تتجه بخطوات بطيئة نحو الباب بسبب ثقل كيسين البلاستك مليئان بما اشترته من حاجيات، فاقتربت منها احييها قائلا:
ــ مساء الخير يا انسة هند.
ــ اهذا انت من جديد؟
ــ هل اعزمك على مشروب سريع ؟
تركتني وهبطت سلالم المتجر دون ان ترد على دعوتي بشيء. تبعتها قائلا:
ــ هل تسمحين بان احمل عنك هذين الكيسين؟
ردت وهي تنعطف مع الشارع الجانبي باتجاه سيارتها:
ــ الا تتركني امضي الى حال سبيلي يرضى الله عليك.
قالت الجملة الاخيرة بصوت رغم الحنق مفعم بالعذوبة، وبلهجة لبنانية جميلة جعلتني احس بشيء من الندم لما ستلاقيه من عنث وكدر بسبب العجلات التي افرغت هواءها. ومع ذلك فانني لم اتركها، مضيت وراءها. فتحت باب السارة تضع الكيسين،ثم تدخل وتدير المحرك وتمسك بالمقود لتخرج من الموقف بغية الانطلاق عائدة من حيث جاءت، وادركت وهي ترى السياة ثقيلة تابى الحركة والمقود يابى الانقياد اليها ان هناك احدى العجلات المعطوبة، فخرجت تتفقد ما حدث لسيارتها لتجد ان العجلات الاربع ملتصقة بالارض مفرغة من الهواء. تقدمت منها مستعدا لما تتطلبه الشهامة الكاذبة:
ــ هل تأمرين بتقديم اية خدمة ؟
انطلقت من عينيها الجميلتين شرارات الغضب وهي تقول لي:
ــ لا تقل لي ان هذا حدث صدفة، لقد حدث قطعا بفعل فاعل هوانت ؟ فهلا قلت لي مال الذي تريده مني ؟ ولماذا يبتليني الله بك؟
كدت اقول لها دعي الان عمك سعيد الذي اصدرت امرك تحرضينه ضدي ان ينفعك الان، الا يقولون في ميزان العدل والانصاف ان الباديء بالسيئة هو الاظلم. قلت بدلا من ذلك:
ــ انني اعرض عليك خدماتي، فماذا قلت؟
ــ قلت انني ساطلب لك البوليس حالا.
وصارت تصيح تطلب بعض العابرين في الشارع ان يساعدوها باحضار البوليس، وتسللت بخطي سريعة معطيا للناس بظهري تاركا سيارتي حيث هي منطلقا الى الاتجاه المعاكس لكي لا تستطيع ان تشهد الناس علي. غادرت المكان وخلفتها تعاني مشكلة اصلاح العجلات الاربع ومايقتضيه ذلك من عناء وكدر واهدار للوقت والمال والجهد لتعرف ما يمكن ان تكلفه لها اهانة رجل مثلي.
لا ادري ان كان ما احسست به ندما او مجرد الم لانني انزلت بها هذا العقاب، نعم، اعرف انه كان ضروريا ان تعرف انه ليس سهلا ان تمر اهانتي دون رد فعل، وان العقاب الذي انزلته بها لم يكن عقابا مؤذيا الى الحد الذي يورثني الندم، ولكنه في نهاية المطاف عقاب يسبب كدرا لهند الجميلة التي احبها اكثر من نفسي، ومعنى ذلك انني كمن يعاقب نفسه، والتعبير الشعبي يقول بلسان الانسان الذي يحب انسانا اخر انه لا يطيق ان يرى شوكة حسك صغيرة تؤلمه بنغزتها، ثمة سوء فهم ما زال قائما بيني وبينها لابد من ازالته، لم اعد الى الشارع الجانبي الذي شهد الحادثة الا مع الليل بعد ان انتهت الدوشة وعاد الشارع الى سكونه، فاخذت سيارتي عائدا الى حيث اقيم، هناك امامي اربعة ايام املك فيها حق استخدام هذه السيارة وساسخر هذه الايام لمحاولة الوصول اليها وازالة أي سوء تفاهم بيني وبينها، اعتبرت ان ما فعلته بسيارتها كان ردا عادلا على اهانتها، حقق ما اردته من توازن في التعامل بيننا، ولم يبق الان الا الحب الذي احمله لها والذي لا يرضيه الا ان ارى وجهها واتكحل بجماله كل يوم محاولا ان استغل اية فرصة تلوح لازالة أي سوء فهم بيننا، فعمدت فيما تلى هذا اليوم ان اسير خلفها بسيارتي في أي مشوار تذهب اليه بسيارتها الفورد واتعمد ان احاذيها لاقول لها الجملة الشهيرة التي اعتبرتها تميمة العلاقة بيننا
ــ مساء الخير انسة هند.
ولا بأس ان تتكرر التحية مرتين وثلاث واربع مرات في اليوم الواحد، دون افهم الحالة العصبية التي تصيبها كلما قلتها، ولا الرغبة في الانطلاق بسيارتها كي تختفي من سيارتي وكانني عضو عصابة يريد قتلها، دون ان يجعلني ذلك اتراجع بل احسست ان السيارة الفلكس البيضاء وجدت متعة في هذه المطارات اليومية، اما انا فقد صرت الان افهم ان هناك شخصية جديدة تلبستني منذ اول يوم رايته فيها كانني مزقت في دقيقة واحدة كل تلك الاقمطة الريفية التي تلفني وانطلقت امارس افعالا لم اتصور انني امارسها حتى ما فعلته عندما اشتريت البذلة الجديدة مدعيا انني احمل تفويضا من والدي بشرائها ومواجهة والدي بتلك الاكاذيب لابتز منه النقود ثم مواجهاتي لهند وانتقامي منها وترصدي لها كل هذه الافعال جاءت بفعل قوة جديدة لم اكن اعهدها في نفسي ومازلت استغرب وجودها لذي ولا فضل في ظهورها الا بسبب ظهور هذه المراة ذات الجمال الساحر في حياتي.
ــ مساء الخير انسة هند.
اربعة ايام شهدت فيها طرابلس هذه المطاردات المثيرة التي تقوم فيها الفورد المهيبة الجديدة بدور الهارب وتقوم فيها الفولكس القديمة المهترئة بدور المطارد، وفي حين اعتبرتها لعبة لم تحقق لي سوى ان ارى هند واكحل عيني بمنظرها كل يوم عدة مرات، كانت فيما يبدو كابوسا بالنسبة لحبيبة القلب الجميلة وعندما انتهى اليوم الرابع وقمت بتسليم السيارة الى صاحبها احسست براحة العداء الذي وصل خط النهاية بعد ان انهكه العدو،ولم افز اثناء مطاردتها باية لحظة استطيع ان اشرح فيها بعض مشاعري بطريقة هادئة حتى عندما اقف بمحاذاتها في اشارة مرور يطول عندها الوقوف بما يسمح بتبادل بعض الكلمات كانت الحالة العصبية التي تتملكها ومحاولة ان تتفادى البقاء بجواري بارغام السيارة على الحركة الى الامام او الخلف او شمالا او يمينا في المساحة المحدودة يجعله مستحيلا الفوز بكلمة واحدة منها ثم انها تقفل زجاج سيارتها فور ان تراني لكي لا تسمع تحياتي ولا اسمع السباب الذي احس به ينطلق من فمها ردا على تحيتي وهكذا فانا بدل ان ارفع الالتباس وازيل سوء الفهم جعلت الاثنين يزدادان سوءا. المهم انني قررت بعد ان استنفدت لعبة السيارة اغراضها واعدتها لاصحابها ان استخدم وسيلة اخرى تشبه ما يسميه اهل الهندسة الخط المستقيم بين نقطتين، لانه لا مجال فيه للتعرجات والالتواءات التي تطيل الطريق وتزيد الامور تعقيدا، يتوفر فيه العاملان الاساسيان وهما السرعة والوضوح، وهذه الوسيلة التي رايت انها تزيل اللبس وتعيد التفاهم بين النقطتين، وهما انا وهند، هي كتابة عدد من الرسائل اليها، ومعنى ذلك انني لن اكتفي برسالة واحدة تتوه في اضابير المكتب او اخرى تتوه في مراسلات الاب او الام او تقع في يد احدهما فيخفيها عنها، كما يحدث في احسن العائلات، ولن اقول في هذه الرسائل شيئا معيبا حتى لو قرأه والدها فلن يجد فيه الا نبل العواطف وشهامة المحبين الشرفاء، ساكتب ولمدة سبعة ايام رسالتين كل يوم، واحدة ارسلها باسمها على عنوان الشركة واخرى على عنوان البيت فلا مجال الا ان تقرا احداها او تقراها جميعا لا يهم ولن اعجز عن التعبير بمختلف الاساليب والعبارات عن شيء واحد هو هذا الحب الكبير بسعة الكون كله الذي احمله لها، معتذرا لها عن أي سوء فهم تسببت فيه او أي ضيق او كدر حدث لها دون قصد مني، لانني لا اريد الا سعادتها، واذا رات ان سعادتها هي ان ابتعد عنها لانها تفكر في رجل اخر، ولها فتى احلام تريده على غير صورتي فلن افرض عليها نفسي وسانسحب دون تاخير من حياتها التي اشك انني اساسا دخلتها وانما هي مجرد تماس بسيط لعله احرقني حقا ولكنه يبقى مجرد تماس لن يعيق تدفق النور في عروق الشبكة الكبيرة التي تضيء المدينة او تضيء بلدا باكمله، وسانتظر بعد هذا الاسبوع ان اتلقى ردا لان عنواني في نادي الرماية وعنواني الدائم في بيت الاهل بالقرية سيكونان مسطوربن في كل رسالة وساتابع التواصل مع الاهل لاعرف اذا ما وردت اليهم اية رسالة باسمي، ولا يبقى الا شوقي لان ارى وجهها خلال هذه الاسبوع الذي ساعتمد فيه على الرسائل، وهو ما يمكن التغلب عليه بان اترصدها من بعيد وهي تدخل الشركة وتخرج منها دون ان تراني، لانني ساكون سعيدا لمجرد ان ارى طيفها حتى لو لم املأ بصري من جمال وجهها وبهاء الكون معكوسا في عينيها.
انقضت ايام من التلصص عليها وكتابات رسائل العشق اليها، وانتظرت بعد انتهاء الاسبوع ان يصل رد منها، وليكن ردا بالاعتذار فيسكون رغم ما يحمله من صدمة لي تذكارا منها معطرا بانفاسها ومكتوبا بحروف خطتها ريشة قلم تمسكه باناملها ويحمل شيئا من داخل عقلها وقلبها، الا ان هذا الرد الذي اتحرق واتوق كل يوم لاستقباله لم يات، فكان لزاما من اخراج الورقة الاخيرة التي احملها في كم قميصي، والتي كنت قد زرعت بذرتها برسالة الاستعطاف التي كتبتها لمدير الشركة، وحان بعد مرور ما يقرب من اسبوعين ان اذهب الى الشركة للاستفسار عن نتيجتها، رغم معرفتي بسلبية الجواب، فانا لا استخدمه هذه المرة الا لكي ارى هند واكلمها، وقبل ان اذهب الى الشركة ذهبت الى فقيه بالمدينة القديمة، امدني بحجاب القبول، اعلقه فوق الجلد تحت ملابسي قريبا من منطقة القلب، وقرأ لي التاجزة لاختيار اليوم الذي اذهب فيه للقائها، ورجوته الا يكون بعيدا، فتساهل معي وجعله قريبا، في ساعة الضحى يوم الغد، الاثنين، لانه يوافق في تقويمه القمري يوم اكتمال البدر الذي يمنح الكون كامل انواره المباركة، وتحت اشعة هذا النور تنمو علاقات الحب وتكبر اذا كان المقصد شريفا، فاقسمت للفقيه انني صاحب مقصد شريف واسعى لبناء علاقة تقوم على سنة الله ورسوله، فدعا لي بالنجاح وارسلني في مهمتي العاطفية محفوفا بالملائكة الكرام ممن عهد الله اليهم رعاية القلوب العاشقة، واعطاني عود بخور اتبخر به قبل مغادرة بيتي،وعمدت مرة ثالثة الى ارتداء تلك البذلة التي ذهبت بها للاختبار الشفهي بما يرافقها من قميص من الحرير وحذاء شديد اللمعان ولم ابذل غير ربطة العنق التي جعلتها هذه المرة زرقاء تتفق ولون البذلة لاحداث تغيير في المظهر الذي راتني عليه في المرات السابقة، ووجدت شيئا من الفتور لدى موظف الاستقبال ورفيقيه من اعضاء الحراسة، ولم اتردد عندما سالني تسجيل اسمي في سجل الزيارات بان اضع اسمي وعنواني وتوقيعي وعندما اراد ان يستمهلني ليعرف اسم الشخص الذي اقصد زيارته لكي يأخذ اذنا منه، ابلغته بانني لست قادما لزيارة احد بعينه وانما هي رسالة تنتظرني في قسم شئون الموظفين استلمها في الدور الاول واعاود الهبوط، وصعدت راكضا مع السلام دون ان اعطيه فرصة للاعتراض، وعرفت من خلال هذا الاستقبال البارد الجاف ان هناك اجواء في الشركة تعمل لغير صالحي، الا انها لم تنقص من قوة معنوياتي، باعتباري مدعوما بالقوى الغيبية التي سخرها لي السيد الفقيه من خلال الحجاب والتاقزة والبخور، وفي اقل من دقيقة كنت اقف امام الفتاة التي يتعشقها القلب لاقول لها تميمة الخير والمحبة والعلاقة المتشحة باللون الوردي لزهرة الحلم والامل.
ــ صباح الخير آنسة هند.
رفعت هند عينيها من فوق الورق الذي تنقل منه الكلمات لرقنها فوق الالة الكاتبة، توقفت فورا عن الرقن فوق الالة، وظلت عيناها شاخصتان في وجهي للحظة وجيزة مليئتان بلون الرعب، ثم اذا بها تطلق صرخة فزع ترددت في كل ردهات الشركة وادوارها السفلى والعليا، وهي تنتفض وترتعش وتعاود الصراخ تطلب النجدة، في حالة من الهستيريا كان مسا كهربائيا اصابها ويابى لها فكاكا، لينهمر الموظفون من كل صوب وباعداد غفيرة يحيطون بها، ويحاولون تهدئتها، بينما صرخ احدهم بالحارسين للمجيء، وانا ادفع عن نفسي الايدي التي احاطت بي تريد امساكي وتدفع بي الى ركن بعيد عنها كانني امثل خطرا يريدون ازاحته من امامها، وكنت اقول بانني لم اقل لها شيئا ولم افعل شيئا ولم افتح فما بغير كلمة صباح الخير، لكن احدا لا يريد ان يصدق انني لم اتهجم عليها بغية اغتصابها، وجاء الحارسان يضع كل واحد منهما مسدسه في خاصرتي ويجرانني عبر السلالم الى الطابق الاسفل، ومن خلفي التعليقات التي تتهمني بالجنون.
كان واضحا عندما وصلنا منطقة الاستقبال ان الصراخ والصخب كان عاليا بحيث استقطب عددا من الناس القريبين من مقر الشركة فانشأوا تجمعا عند الباب، فاخفى الحارسان مسدسيهما وامسك احدهما بي وقد الصقني بالجدار مستعينا بموظف الاستقبال لمحاصرتي كي لا اهرب، وتقدم زميله من الزحام الذي يسد باب الشركة قائلا بانه لا وجود لشيء يستدعي هذا الزحام، الذي يعيق الداخلين والخارجين، ويستخدم يديه في دفع الناس وحثهم على الانصراف لشئونهم، ثم عاد قائلا لصاحبه ان يدفع بي الى مكان ابعد وان يبقيني تحت حراسته تحت تهديد المسدس الى حين استدعاء الشرطة التي رفع السماعة طالبا من البدالة اعطائه اياها وبالذات مركز المدينة لقربه من مقر الشركة، وقبل ان يكمل المكالمة جاء احد الموظفين هابطا مع السلام يساله ان يتوقف عن اجراء المكالمة، وعرفت من حديثه الذي لم يتعمد اخفاءه عني ان الشركة لا تريد شوشرة ولا دوشة ولا تبحث عن اثارة تصل الى مراكز الشرطة وربما بعد ذلك الى الصحافة، فتضر الشركة وربما تضر بالمرأة التي تعرضت لمضايقتي، وهي التي رغبت في ان ينتهي الامر عند هذا الحد وامر الحارسين قبل ان يعود ادراجه من حيث اتى باحضاري الي حيث مكتب الاستقبال وامر باعطائي ورقة بيضاء لاكتب فوقها تعهدا بالا اعود لمقر هذه الشركة والا اتعرض للانسة هند بالمضايقة والملاحقة وكتابة الرسائل اذا اردت لنفسي النجاة، فكتبت الاقرار بما املاه هو من كلمات واخذه معه، طالبا اياهما اطلاق سراحي.
خرجت من الشركة وقد اظلمت الدنيا في عيني لا اكاد اعرف موضع قدمي، وانا احاول ان آخذ طريقي الى المصيف، ولا ادري كيف وصلت القصة الى بعض اعضاء المصيف فاذا بمن يعرفني يسألني عما حدث وكيف تجرات على محاولة اغتصاب امرأة في مكتبها ويكتفي من لا يعرفني بالنظر في استغراب نحوي والهمس لرفاقه مشيرا نحوي فيتضاحكون ويمضون في طريقهم، واحسست وكان الحب العارم الذي احمله لهند يتحول الى حقد ضدها بسبب هذا الافتراء وهذا الايذاء وهذه الاهانات التي لم يكن لها أي شيء يبررها لان كل ما اردته هو ان اظهر لها عواطف الحب التي احملها لها، ولعل التوفيق جانبيني، بسبب جهلي وغشامتي، في وجود اسلوب اكثر اناقة ونعومة وجمالا، ولكن هدفي كان واضحا وسلامة نيتي تجلت اكثر وضوحا في كل كلمة تبادلتها معه وزادت الرسائل في رفع أي لبس لانني شرحت فيها بصدق وامانة مشاعري معترفا بحقها في ان ترفض قبول هذا الحب الذي اعرضه عليها، ولكن الحد وصل بي الان الى ان ادوس بنعلي على هذا الحب، وادوس مرة اخرى اذا استطعت على المراة التي ظلمتني وظلمت هذه العاطفة النبيلة عندما قابلتها بهذه الافعال الشائنة، وفكرت افكارا سوداء مثل ان ارمي ماء النار في وجهها، قائلا في نفسي بانني طالما لن استطيع ان انالها، فلامنع غيري ايضا من نيلها بالقضاء على هذا الجمال، وما يثنيني حقا على تنفيذ جريمة كهذه ليس الاشفاق عليها، وقسوة ما ستعانية من تدمير لحياتها، ما يثنيني هو ان الجريمة ستلصق بي وكل من شهد ما حدث في اخر مرة اذهب بها في الشركة سيكون شاهد اثباث ضدي، واتخذت خطة بديلة بدأت بان توسلت لصديق يعرف عائلة المشيرقي، ان يأخذني او يعطني وصفا لموقع المزرعة التي اعطاها السيد الهادي المشيرقي للفدائيين الجزائريين، لانني علمت انهم يقومون بتدريب المتطوعين على العمل الفدائي ولم يكن هدفي ان اتطوع لمقاتلة الفرنسيين في الجزائر، ولكنني فقط اريد ان اكتسب مهارة صنع العلب الحارقة وهي قنابل يدوية ذات مفعول محدود يستخدم في تجهيزها علب الطماطم الفارغة وحشوها بمادة كبريتية ترمى في المظاهرات لردع القوات التي تطارد المظاهرين، او تخلق لديهم حالة فزع عند وضعها تحت سياراتهم، لكي احقق بها حالة كهذه مع سيارة هند، تنتج عنها حالة فزع وقد تصنع بادرة حريق في السيارة عند بداية تحريكها ولكن يبقى الكثير من الوقت الذي يتيح لسائق السيارة ان يخرج منها ويقف بعيدا يشاهد سيارته تحترق اذا لم يفز بانقاذ سريع عن طريق سيارة اطفاء الحرائق، تكون موجودة في عين المكان، وهو امر يشبه المستحيل في طرابلس لان الحريق يكون قد اكل السيارة قبل ان تصل الى هاتف تخطر به جهة الانقاذ، وقد يجد المحققون بعد ذلك ما يدل على وجود فاعل تسبب في هذا الحريق وقد تتجه اصابع الاتهام نحوي ولكن الجريمة ستكون اقل خطورة من ماء النار، والعقاب اقل بكثير ويمكنني احتماله حتى لو كان سجنا نظير ما انزله بها من فزع والم خطة كنت سامضي في تنفيذها لولا الصعوبة التي وجدتها في الوصول الى المزرعة، والتحوطات الامنية التي تقتضي المرور بمراكز شرطة ومكاتب للمندوبية الجزائرية وغيرها تجعلني هدفا سهلا للاتهام عندما اقوم بارتكاب عملية كهذه، وتصادف ان حضرت جلسة في نادي الشباب دار فيها الحديث عن عمليات انتقام قام بها طلاب ضد اساتذة عاكسوهم وتسببوا في سقوطهم في الامتحان وتكررت في هذه العمليات طريقة يقومون باستخدامها يفسدون بها سياراتهم ويدمرون محركها، فلا تعود للحركة الا بمحرك جديد يتكلف ربما ثمنا يعادل نصف ثمن سيارة جديدة، لا باس، قلت في خاطري من انتقام كهذا، ارد به شيئا مما اصابني من اذى بسببها، خاصة وان مشاعر النقمة التي ركبتني مثل عفريت يتجه به للبحث عن اكثر الطرق بشاعة، قد بدأت تبرد قليلا، وتنتهي فورتها الاولى وتتضاءل معها كميات الحقد التي رافقت ذلك الموقف المهين في الشركة، فلا احتاج هذه المرة الا الى تجميع مجموعة من الصخور ذات الحواف القاطعة مثل السكاكين، اخذت اكثر من يوم في تجميعها ووضعها في ركن منعزل من ذلك الشارع الجانبي الذي تقصده بسيارتها عند ذهابها الى سوق الحلبي، واخذت اكثر من يومين او ثلاثة اترصد مجيئها بالسيارة واتخاذ السيارة وضعا يساعد على تنفيذ العملية، لان انجاح العملية يقتضي ان تندفع بالسيارة دون وجود عائق يمنعها من هذا الاندفاع وهذا العائق غالبا ما يكون سيارة مركونة امامها فنجحت في سحب يفط من امام اكثر من جارج ووضعتها في مواقع تتيح لها ايقاف السيارة مع وجود فراغ امامها هو الفراغ الذي وضعت فيه تلك الاشارة، التي قد لا ينتبه اهلها لتحويلها من مكانها الا بعد انجاز الهدف الذي ابتغيته والذي لن ياخذ الا ساعات قليلة، المهم حدث ما اردت، واوقفت سيارتها في المكان الذي يتيح لها فرصة الاندفاع دون عوائق كنت جاهزا حال دخولها الى المتجر في نقل تلك الكتل من احجار الصوان ووضعها تحت مقدمة السيارة، ضامنا من وجود رؤوسها المدببة في الوضع الصحيح القادر على الفتك بمحرك السيارة وجهازها الداخلي الموجود تحت قدم السائق، ولم انس وضع مجموعة من المسامير مغطاة بالتراب امام وحول عجلات السيارة زيادة في احداث عطب بالعجلات فوق عطب المحرك،وكنت قد ارتديت لهذه المهمة ملابس شعبية قروية لها غطاء راس ملفوف بعمامة لها طرف يمكن استخدامه كلثام اخفي به ملامح وجهي، لكي لا اعطي فرصة لشاهد يشهد ضدي لانني اعرف على وجه اليقين انها ستعرف انني الفاعل، ولن اعطيها فرصة لاثبات شيء ضدي اذا ارادت ان ترفع الامرحقا الى الجهات الامنية والقضائية، ولهذا السبب قمعت رغبة في نفسي بان اريها وجهي رغبة في التشفي فلا حاجة لي لمثل هذا التهور.
لم اكن بعيدا عندما خرجت من المتجر متجهة الى السيارة وهي تحمل اكياس البلاستك المحملة بالبضائع، وفتحت باب السيارة تضع الاكياس وتركب دون ان تنتبه لكمية الاحجار المندسة تحت انف السيارة، واتاحت لها المساحة الفارغة امامها ان تسرع في الانطلاق لتجد احجار الصوان التي تشبه الحديد في صلابتها تنشب اسنانها في قاع السيارة وتصطدم بحديدها تمزقه فينتج عن الاصدام وتمزق الحديد قرقعة وفرقعة وتنتفض السيارة وترتعش وهي في حالة وقوف غير قادرة على الانطلاق، كنت قد اقتربت لارى عابري السبيل يتحلقون حول السيارة وقد خرجت صاحبتها تتفقد معهم هول ما حدث لها، ورأيت مثلهم زيوت السيارة ومياه مبردها وهي تنزف من قاع السيارة وتصنع جداول تتسرب من تحتها ورايت عجلاتها وهي مرشوقة بالمسامير ملتصقة بالارض، كما رايت وقع الصدمة على هند التي انكفأت فوق حطام السيارة تبكي بصوت مرتفع، عندها اقفلت راجعا وانا احاول ان امنع نفسي من الشعوربالحزن لما حدث لهند، فقد بلغت مرحلة اليأس من انشاء علاقة سوية معها ولم يبق الا ان تنال جزاء ظلمها لي، وهيات نفسي في ذات اليوم ان ابحث عن سيارة تقلني الى القرية حتى لو كانت سيارة شحن، اركب فوق اشولة وصناديق البضائع بها، لانام هذه الليلة بين اهلي وافرح معهم وهم يعبرون عن فرحتهم بوصولي،وهناك شرحت لوالدي كيف انتهى النجاح الذي حققته في اختبار شركة النفط الى ارسالي الى براري برقة فرفضت لانني لا اطيق الابتعاد عن العائلة فلم يقل سوى لا حول ولا قوة الا بالله في المبلغ الذي ذهب بسبب هذه الشركة سائلا الله ان يعوضني بوظيفة افضل، وانتظرت على قلق ان يصلني شيء من اصداء هذا الحادث هناك الا ان اسبوعا مضى دون ان اتلقى أي استدعاء من الشرطة او يظهر في الافق ما يوحي بان هناك قضية رفعت ضدي، ولان الموسم موسم اعراس تقام عادة في وقت يتوافق مع وقت نضوج البلح في عراجين النخيل، اسلمت نفسي لهذه الاحتفالات حتى انقضى ما يقرب من شهر وحان موعد تسليم كابينة الشاطيء واخلائها من الحوائج التي اضعها فيها فعدت الى المدينة لابدأ بجد واجتهاد البحث عن وظيفة بعد ان ضاعت فرصة العمل مع شركة البي بي.
اكتشفت وانا اتسقط بعد عودتي الى المدينة، اخبار هند، واذهب الى بيتها لاتاكد مما سمعته بانها غادرت البلاد، فافاجأ برجل اجنبي يرتدي ملابس الطيارين قد احتل البيت، واتصل بهاتف الشركة اسأل عنها فياتي الخبر مؤكدا ما سمعت من انها تركت العمل بالشركة وعادت الى بلادها،واغامر بالذهاب الى مكتب الاستقبال فاجد الموظف يستقبلني دون ابداء أي تحفظ ويخبرني انها عادت مع اسرتها الى بلادها وانها اخبرت زميلاتها في العمل بانها تعود لانه حان موعد قرانها على قريب لها يملك شركة في لبنان ستعينه في ادارتها.
هكذا انتهت علاقتي بالانسة هند، خرجت من من حياتها وخرجت من حياتي بعد ان تركت بعض الندوب التي ما زلت وانا اجتاز عتبات الكهولة الى خريف الشيخوخة، اشعر بها، فتثير في نفسي هذه الذكريات التي يحب اصحاب هذه المرحلة العمرية اجترارها كبديل عن القيام بمثل هذه الافعال التي انتهى زمانها ولم تعد القدرات البدنية والعقلية والعاطفية لامثالي من الرجال والنساء تتيح فرصة ان ناتي بمثلها، هل انا نادم على ما فعلته نكاية بالانسة هند ازاء ما قابلتني به من صدود، نعم لان ما فعلته كان فعلا يمتليء بالطيش والرعونة، والخطأ يركبني من اخمص قدمي الى قمة راسي، ولكنني لو عشت حياتي ثانية وخيرت بين ان افعل ما فعلته او اعدل عنه، لاخترت ان اقوم بكل ما قمت به مدركا الان ان الطيش والرعونة هما ايضا جزء من تلك المرحلة الخضراء من العمر التي نسميها سن الشباب.