قصة

جعفر من باكستان

(لابد أن الأصدقاء الذين كانوا يعملون في السفارة الليبية عام 1968 وبينهم الإخوة رمضان القذافي وعلي الدبسكي وفؤاد الثلثي يعرفون الصحفي جعفر الباكستاني الذي يعمل في تحرير نشرة السفارة وبقى يعمل بها إلى أن لقي وجه ربه ، فإلى روحه التي أحبت العرب ودافعت عن قضايهم إلى آخر نفس في حياته أهدي هذه القصة المستوحاة من حياته وكلماته).

ــ جعفر من باكستان .

هكذا كان يقدم نفسه لكل من يتعرف عليه ، وهكذا فعل معي عندما التقيت به في السفارة الليبية في لندن التي ذهبت إليها عام 1968 مبتعثاً من الإعلام لتسليم أوراقي إلى الملحق الثقافي السيد رمضان القذافي ، الذي أصبح دكتورا في علم النفس فيما بعد ، وكان السيد جعفر محرراً يعمل بالقسم الصحفي مع الملحق في ذلك الزمان السيد على الدبسكي ، وهو الذي عرفني ،باعتباري صحفيا ، بهذا الكاتب الذي يحرر للسفارة نشرة باللغة الإنجليزية ، فنهض الرجل من مكتبه يصافحني ويرحب بالتعرف علي من خلال انحناءة صغيرة من رأسه ، قائلا بلغة إنجليزية سليمة من أية لكنة، هي تلك التي تعارفوا على تسميتها بإنجليزية اكسفورد :

ــ جعفر من باكستان.

وعرفت أن ليس لباكستان هذه أي أثر في حياته فقد ولد وعاش وتربى ودرس في بريطانيا وينتمي لأب جاء من الهند منذ أكثر من خمسين عاما حيث كانت الهند مستعمرة بريطانية لم يتم تقسيمها إلى هند وباكستان وكان هذا الوالد يتنقل بين فروع بنك باركليز حتى استقر به العمل في فرع من فروعه في ضواحي لندن وتزوج امرأة إنجليزية هي أم السيد جعفر وادخله بسبب ما يعيشه من يسر وربما أيضا بسبب ذكاء الابن إلى إحدى أكبر قلاع العلم التي تستقطب زبدة الشباب النوابغ وهي جامعة اكسفورد يدرس فيها الصحافة والإعلام وينتمي في جنسيته إلى بريطانيا ويحمل منذ أن ولد جواز سفرها وليس له من هذه الباكستان التي يقرن بها اسمه إلا منشأ الأسرة الذي جاء منها والده وهي مدينة لاهور، واستقطبه العمل في صحف الجاليات الباكسانية والهندية المسلمة ، وانتهى به العمل في مجلة تتبع الجامعة العربية وعندما اقفلت تلك المجلة بحث له المندوب عن سفارة عربية تستفيد من خدماته فاستقر به المقام في السفارة الليبية ، وارتبطت كتاباته بسبب هذا التخصص بالشؤون الإسلامية والعربية وصار كثيراً ما تستضيفه الإذاعات المرئية والمسموعة باعتباره خبيرا في الشؤون العربية والإسلامية .

وتوثقت علاقتي به فصرت ألتقي معه أحيانا لتناول وجبات الغذاء والعشاء بإحدى المطاعم الشرقية التي تستخدم اللحم الحلال ، حيث كنا نلتقي في هذا الالتزام الديني ، الذي يصل بنا أحيانا إلى أن نخرج من السفارة لصلاة الجمعة في المركز الإسلامي ونعود لأن يوم الجمعة كان يوم عمل رسمي في السفارات تمشيا مع عوائد أهل البلاد الذين يخصصون للعطلة يومي السبت والأحد ، وعرفت منه الأذى الذي لحق به بسبب هذا الارتباط بالقضايا الإسلامية العربية فقد كان يرى نفسه المعبر عن الحلم الذي أحياه الرئيس المصري جمال عبد الناصر في قلوب العرب بإنشاء دولة الوحدة المتواشجة والمتداخلة في علاقة قدر ومصير مع أمتها الإسلامية ونتيجة للصراع الذي دار بعنف وقوة وشراسة مع هذا المعسكر الذي يمثله عبد الناصر منذ أن ظهر على المسرح السياسي في مطلع الخمسينيات مروراً بالاعتداء الثلاثي على مصر عام 56 وما سجله هذا المعسكر من انتصار في معركة قناة السويس كان هو دائما المعبر عن الصوت المخالف للأصوات التي تهاجم وتحارب وتتماهى مع الموقف الرسمي البريطاني فقد ظل هو على طول المدى متوحدا ومتماهيا وعن عقيدة راسخة وإيمان بما يقول بهذا الخط التقدمي بمنحاه العربي الإسلامي ، إلى حد أنه أضاع أكثر من فرصة عمل في صحيفة كبيرة مثل التايمز أو الجارديان أو الديلى تلجراف وعاش عمره الصحفى كله في هذا الهامش الذي تحتله صحافة الجاليات والسفارات غير نادم على ذلك ، إلا أن هذا الأذى وصل إلى دروته مع هزيمة 5يونيو عام1967م وهو العام السالف للعام الذي ألتقيت به فيه .

وأنه في ذلك الأسبوع ربما في اليوم السادس من تلك الحرب عندما تأكد لديه حجم النصر الكاسح الذي حققته إسرائيل على مجموع الدول العربية وشاهد الجنود الإسرائيليين يمرحون ويسبحون في شواطىء قناة السويس يومها، كما يقول لي اسيانا حزينا ، أصيب بأزمة قلبية أدخلته المستشفى لمدة شهر كامل لأنها كانت حادة هددت حياته ، ونجا حقا من الموت لكن المرض مازال موجودا يتعايش معه ويداوم معه على العمل في مهنة الصحافة التي احبها،مستعينا بالأدوية التي تسعف القلب وتبعث شيئا من النشاط في عضلته التي أصابها منذ ذلك اليوم السادس من حرب الأيام الستة بالوهن والاعياء ، وهو مرض يأتيه وهو على مشارف الخمسين من عمره ، حيث أعضاء أخرى في الجسم اصابها الوهن وهي تتضافر مع أمراض القلب في الحيلولة بينه وبين أن يؤدي نشاطه بنفس القوة والفعالية ، ويقول ضاحكا إن هناك عاملا صغيرا تافها جعل ارتباطه أكثر قوة بالمشروع الوحدوي العربي الذي أعلنه عبد الناصر وهو أنه ولد في ذات العام الذي ولد فيه عبد الناصر واعتبره ابن دفعته في الوطنية ومعاداة الاستعمار اقتات وتربى على نفس المعاني التي اقتات وتربى عليها هذا الزعيم العربي المسلم ، والحقيقة فإنه كان غاضبا بعد الهزيمة على عبد الناصر ، مدركا حجم الخديعة التي عاش فيها والشعارات التي صدقها وأكاذيب الإعلام التي روجها هذا الزعيم والقيادات التي اعتمد عليها واضفى عليها أثواب المجد والكفاءة كذباً وزوراً.

 وعرف بعد الهزيمة كيف أنه كان يدافع عن أباطيل وأكاذيب بينما الذين يساجلونه ويناقشونه في المنتديات السياسية اللندنية كانوا يعتمدون على حقائق وأفكار نابعة من استراتيجيات رسمت لعزة وقوة مواطنيها وأوطانها بينما كان هو يردد الاكاذيب التي تذيعها أجهزة عبد الناصر وابواقه ، كان الخصوم يقولون له إن عبد الناصر ليس إلا طاغية ديكتاتوراً يحكم شعبه بقوة المخابرات وقوانين الطواري والأحكام العسكرية والمؤسسات الكارتونية الكاذبة التي تدعي الديمقراطية مثل الاتحاد الاشتراكي والحكم المحلي واللجنة المركزية وكلها أجهزة مخابرات تعمل على قمع المواطن وكان هو يدافع بثقة وإيمان عن تحالف الشعب العامل بفلاحيه وعماله ومثقفيه وموظفيه وجنوده وتجاره من المنتمين للرأسمالية الوطنية ، وصار يعرف الآن أن مايقوله كان كذبا وتزييفا للحقيقة وما يقوله الخصوم هو الحق بعد أن انكشفت الأوراق وكان الثمن كارثة بحجم النكسة التي كانت صدمة لكل فرد انتمى بصدق وإيمان لشعوب الأمتين العربية والإسلامية ، نعم كنت أقول له وأستطيع أن أرى انعكاس تلك الأزمة على نفسي، فقد كنت فتي في مرحلة الآمال والأحلام والمثاليات متعلقا مثل كل أبناء جيلى بذلك الخطاب الوطني الذي يفيض بالبهاء والذي جاء رافعا أعلامه الوحدوية منشدا الأناشيد التي تعبر عن حلم الأجيال في الدولة العربية القوية العزيزة المنيعة ، أصحو أحيانا في الفجر لا لشيء إلا لأسمع ذلك النشيد الذي يبدأ به صوت العرب برامجه لأنني أشعر بالفرح والتفاؤل عندما أبدأ به يومي والذي يقول (( أمجاد يا عرب أمجاد )) ولا أجد في النشيد الوطني المحلي القطري الليبي الملكي نشيداً يعبر عني وإنما أرى أن النشيد الحقيقى هو ذلك الذي تنطلق به حناجرنا في الحفلات المدرسية بعد ان جعلنا الأساتذه في المدارس والقادة في الكشاف ورؤساء الفرق في الأندية نحفظه ونغنيه ونجعل كلماته مثالا ونتخذها شعارا نسير على هديه هو :

ـــ دعا الفجر هيا رجال الغد      وهبوا فإنا على موعد

وكنا نرى أنفسنا فعلا على موعد مع غد أفضل وأجمل وأرقى سنكون نحن أسياده ونحن رجاله ونحن بإذن الله صانعو مجده ومحققو أحلامه إلى أن افقنا جميعا على تلك الكارثة التي كانت صدمة سقطنا جميعا صرعى لها وأصابتنا جميعا بأمراض الكآبة ولم يكن ممكنا ، قلت له ، لن تراني موجوداً معك في لندن لولا تلك النكسة ، فقد كنت قلماً مفعماً بالقوة والنشاط ، أعزز مكانتي بين القراء بكل مقال أكتبه وأحصد التفاعل الهائل مع القراء والمديح من قادة الرأي العالم ، ولكنني عندما جاءت النكسة فقدت كل شهية للكتابة ومزقت أوراقي وحطمت ما أملك من أقلام واعتبرت أنني كنت مخدوعا وتبعا لذلك كنت أخدع القراء وعقدت العزم على أن أغادر هذه البلاد وأترك هؤلاء العباد وأهرب لأي بلد آخر يتكلم لغة غير هذه اللغة وأرى فيه وجوها غير هذه الوجوه وأقرا صحافة غير هذه الصحافة ولم أكتب حرفا واحداً منذ ذلك اليوم الذي أعلن فيه عبد الناصر هزيمة مشروعه وقرر الانسحاب من الحكم ثم قرر العودة إليه ربما خوفا من المحاسبة والمحاكمة التي سيتعرض لها لو غادر قلاع الحكام وقصوره المحاطة بحرس مدججين بأعظم أنواع السلاح ، نعم فهؤلاء الحكام ، قلت لجعفر ، لا يجيدون إلا الدفاع عن كراسيهم وعروشهم ، ويسخرون الجيش بتراسانات الأسلحة التي يملكها لحمايتهم ، وهكذا يعجزون عن حماية الأوطان ، فكيف يحمي الوطن من احتكر جيشا كاملا لحماية قصره .

كنت ذاهباً إلى لندن حتى لو اضطررت لأن أشتغل عتالا باعتباري فقيرا لا أملك موارد تعينني على القدوم ولذلك أرجأت السفر قليلا باحثا عمن يستطيع إرسالي بمنحة حكومية تمنع عني ضنك العيش عتالا أو عساسا ، حتى ساق الله لي هذه المنحة فجئت لا لغرض دراسي ، فما الدراسة إلا ذريعة أحصل بها على منحتي ، وإنما هروبً من تلك الأجواء لأستنشق هواء جديدا وأرى مشهدا جديدا وأسمع لغة وحوارات تنسيني لغة الشعارات الكاذبة والأمجاد العربية المزيفة التي لا مكان لها إلا على أفواه المذيعين وأبواق الدعاية والإعلام . كنت أتكلم غاضبا ، أنني حقا اعظم حظا من السيد جعفر لأنني كنت يجب أن أصاب بأزمة القلب مثله ، بل أنا وكل عربي آخر يجب أن يصاب بهذا المرض ممن آمنوا بذلك المشروع الوهمي الكاذب وعانوا صدمته ، نعم كنت مؤهلا أكثر من السيد جعفر لأن اصاب بأزمة القلب ، لأن المشروع الوهمي الذي تعلقت به كان يعنيني أكثر مما يعني رجلا إنجليزيا مثله ينتمي لأصول باكستانية بعيدة ، ولكنه كان الأسوأ حظا ربما لأنه اشتغل بمهنة تجعله أكثر تماهيا وتوحدا مع ذلك المشروع وحجم الخديعة ظهرت أمامه أكبر حجما ووقعت فوق رأسه أثقل وزنا لأنه كان يدخل معارك التحدي وساحاته وهو مسلح بسلاح فاسد ارتد عليه وأصابه في أكثر مواقع الجسم تأثيرا وخطرا وهو القلب .

وربما بسبب الغيظ والأسف أسرفت في إدانة الزعيم الذي قاد مسيرتنا إلى هذه الكارثة السيد جمال عبد الناصر الذي كان لا يزال في ذلك الوقت ينتصب جالسا فوق كومة ذلك النظام الذي هوى وتكدس كجبل من الأنقاض ، فوجدت السيد جعفر الذي تصورت أن يكون صدره أكثر ايغارا وامتلاء على عبد الناصر يعترض سيل الإدانات التي أسوقها لذلك الزعيم ويمنعني من متابعة سردها فوقفت مندهشا متسائلا عن اعتراضه طالبا منه أن يشرح لي عما إذا كان مازال في قلبه المريض المأزوم ذرة إيمان بهذا الرجل ، فإذا به يقول بأنه بكل ما أصابه من مرض وبكل ما يعرف من أسرار الكارثة وبكل ما يؤمن به من دور لعبد الناصر ونظامه ومثالب حكمه وأدواته الفاسدة ما زال لا يملك لهذا الرجل إلا الحب والإكبار ، صرخت في احتجاج على هذا التناقض وسألته إن كان سبب هذا الحب هو تلك الصدفة التافهة التي جعلته يتطابق في عام ميلاده مع عام ميلاد البطل الكارثي ، فأجابني بأن هذا كان مجرد سبب من الأسباب التي قربت بيني وبين الزعيم العربي لكنه ليس السبب الذي يجعله يحتفظ بحبه بعد الكارثة ، نعم، استمر يقول ، لن أعترض على أي شيء يرجع الهزيمة لخروق وانحرافات وأمراض وانتهاكات لحقوق الإنسان الأساسية في الحرية والحياة الكريمة يحملها النظام الذي أنشأه عبد الناصر ، ولكنني اؤمن بأنه كان إنسانا شريفا ، أمينا، خدعته إدواته وكوادره ، كما خدعته أيضا رؤيته الأحادية العسكرية وربما محدودية ثقافته وقصور نظرته للأمور، فعانى الخديعة وأصيب بالصدمة التي أصيب بها أي مواطن مثلي ومثلك ، وعلمت من مصادر صحفية وثيقة أن الأزمة القلبية التي تعرضت لها تعرض لها هو أيضا وتم التكتم عليها لكنه يمارس عمله ويقوم بالتزامات منصبه مستعينا بنفس الأقراص والحقن التي أستعين بها على عملي وهكذا تجد أن تشابه الأقدار بيني وبينه لم يقتصر فقط على سنة الميلاد ولكنه موصول ومستمر فيما أصابنا من صدمة وما ترتب عليها من مرض وما نتناوله أنا وهو من أدوية وأضاف بأنه يعرف بعض الدكاترة أحدهم من أصل باكستاني يعتبر حجة في أمراض القلب هو الذي وصف لعبد الناصر نفس الوصفات التي وصفها للسيد جعفر وسأله أن يتكتم عليها لأنه لم يقل له ذلك إلا لمعرفته بسبب مرضه ولكي يطمئنه أنه هو أيضا يعاني نفس الداء ويتناول نفس الدواء.

– جعفر من باكستان

ظل هكذا طوال المدة التي عرفته خلالها، بسيطا، يمد يده في تواضع وقد احنى رأسه قليلا لكل من يأتي لتحيته، وكانوا كثرة من الليبيين يترددون على المكتب الإعلامي في السفارة ومكتبه في الصدارة من الطابق الثاني فيأتي كل زائر حتى من لا يعنيه القسم ولا يقصده بالزيارة يمد له يده فيقوم منحنيا ويقول كلمته فإذا بالرجل الذي مد يده تائها يبحث عن موظف مالي أو إداري أو قنصلي أو له علاقة بقسم التعليم أو قسم الصحة فكل الأقسام كانت تتجمع في ذلك المبنى الكلاسيكي العتيق الذي دخل التراث الشعبي لأن الليبيين بدءاً باولائك الموفدين للعلاج وضعوا عنوانه في اهزوجة شعبية تمت صياغتها لتكون دليلا للمسافر الليبي إلى لندن ، تبدأ بذكر عنوان السفارة الذي يمكن أن يقوله لأي صاحب سيارة أجرة فيوصله إليها ويشكل مطلع القصيدة بهذا الشكل : فيفتي ايت برينسس جيت وبعد أن يمضى الشاعر الشعبي راسما خريطة لأماكن قريبة من السفارة مثل مكان صغير للصلاة ومطعم يستخدم في طهي اللحم الحلال قائلا على نفس القافية (( ولقيت لحم حلال كليت وجنبه في جامع صليت)) ولم يكن السيد جعفر يعرف إلا كلمات قليلة من اللغة العربية مما جعل صداقته لبعض الليبيين تقتصر على المتكلمين بلغة أهل هذه البلاد من امثالي، ولم يكن في الحقيقة يقصر نشاطه على هذه النشرة الحكومية التي تكتفي بالحديث عن أخبار ليبيا وبعض التعليقات التي تدافع عن سياستها والتحقيقات التي تشير لمواقعها السياحية والأثرية ، فلا يترك كلمة تسيء للعرب والمسلمين إلا ويرد عليها ويشير بفخر إلى ما ينشر له من رسائل في بريد جريدة التايمز قائلا أنها أشهر صفحة بريد في العالم وأنه معروف عن الملكة اليزابيث إنها تبدأ قراءة التايمز بقراءة البريد وهو أمر معروف ورأيته شخصيا منشورا في الصحف البريطانية ، فاقول له مداعبا : ــ إذن فلا شك أن ملكة البلاد تعرفك وتعودت على رؤية اسمك الذي يتكرر ظهوره في هذه الصفحة . ــ وماذا يفيدني أن تعرفني أو لا تعرفني فلن أكون في يوم من الأيام على قائمة حاملي الاوسمة من أبناء قومها لأن شرط هذه الاوسمة هو الولاء للملكة وعرشها وحكومتها، وسأبقى في عرف المؤسسة مواطنا مارقامنذ أن تحيزت ضدهم في حرب القنال.

ويضيف بأن الوزير الذي عارض الحرب واستقال بسببها،انتوني ناتنج عاش طوال عمره محروما من الاوسمة التي وصلت لأناس أصغر منه عمرا ومقاما ، لأن الإنجليز يغفرون لك أن تعارض الحكومة أو تشتم المؤسسة أو تقف موقفاً معادياً من السياسات التي تنتهجها البلاد في مستعمراتها ولكن لا يغفرون لك أن تقف متحيزا ضد البلاد في أوقات الحرب ، لأن المواطن في وقت الحرب عليه أن ينصر بلده ظالما أو مظلوما هذا هو المبدأ الذي يؤمن به أهل هذه الجزر، شعبا وحكومة وملكة.

ونبهني إلى تأثير العلاقات الشخصية والعامة في النشر الصحفي فهذه الرسائل التي يداوم على نشرها في صفحة الرسائل لم تتأتي له إلا لأن المشرف على تلك الصفحة صديق احتفظ بصداقته منذ أن كان زميلا معه في جامعة اوكسفورد ، وهو لا يكتفي باستقبال رسائله ، بل يهاتفه إذا رأى موضوعا يستحق النقاش ليكتب باسمه ردا عليه لأن ذلك الصديق يهمه أيضا أن يحتفظ بحيوية الصفحة وجعلها مثيرة تستحق القراءة من الملكة وعامة القراء .

وحدث بعد أن انهيت الكورس المخصص للغة وانتسبت إلى الأكاديمية المسرحية أن زادت ضغوط الدراسة التي تستغرق في مثل هذا النوع من الدراسة النهار والليل احيانا حيث نشاهد العروض ونشارك فيها من أجل التدريب ونحضر الندوات عنها في اليوم التالي فقلّ ترددي على السفارة كما قلّت زيارتي للسيد جعفر والخروج معه كما كنت أفعل في السنة الأولى لتعرفي عليه ، للمطاعم والمساجد ، وحدث أن وجدت نفسي أمر بالسفارة لأخذ ورقة تحتاجها الأكاديمية وأمر عليه للقيام بواجب التحية فإذا به يستبقيني ليقول لي بأنه كان يبحث عني ويريد أن يتحدث معي حول شيء مهم . ولأنني جئت في مهمة عاجلة أعود بعدها للدراسة اتفقت معه على اللقاء في يوم الأحد ، نقرأ صحف الأحد ، وربما نتجول في حديقة الهايد بارك باعتبار أننا ما زلنا في أشهر الصيف حيث يحلو التسكع في هذه الحديقة الباذخة الكبيرة الجميلة ،وأن نستخدم في الغذاء أحد مطاعمها ونحصل على تسلية مجانية حين نتفرج على المهرجان الخطابي الذي يقدمه خطباء الحديقة يوم الأحد.

 وفعلا وجدته في الموعد المحدد ينتظرني في مقهى يطل على فرع النهر الذي يشق الهايد بارك ويسمونه نهر الأفعى، حيث انتبد مكانا قصيا يقرأ الصحف، فصار يشير إلى بعض المواضيع في تلك الصحف طالبا مني قراءتها، كاشفا لي عما فيها من زيف وتضليل خاصة فيما يتصل بقضايا الصراع العربي الصهيوني وجاء الجرسون فطلب كلانا طبقا من السمك المشوي ، وعندما انتهينا من الأكل والقراءة ، اتخذ مظهرا جادا قائلا لي بأنه التقى بصديقه القديم السيد كينيت وول مسؤول صفحة القراء في جريدة التايمز وأبلغه خبرا ما زال يصيبه بالرعب ولا يريد أن يشيعه بين الناس لأنه يتمنى ألا تتحقق النبوءة التي يحملها الخبر ، ولكنه يقوله لي لأنني صحفي مثله مهموم بما يحدث في المنطقة،ويقوله لي في ثقة متوقعا مني أن أحتفظ به سراً إلى أن تظهر أمور تؤكده أو تنفيه ، وسيواصل من جانبه إجراء التحريات ومعرفة إذا ما كان لهذا الخبر خلفيات تؤكده او هناك إشارات وعلامات تنفيه ، ثم سكت وبقى ساكتا دون أن يقول شيئا، قلت أخاطبه غاضبا أتقول لي كل هذا الكلام الذي أثارني واستنفر كل مداركي العقلية وملكاتي الحسية والشعورية ثم تمد وجهك صامتا كأنه أصابك البكم (( هيا أرجوك أخبرني عن ماهية هذا الخبر ، فقد نفد صبري، ماذا قال لك السيد كينيث وول )) وهنا التفت يمينا وشمالا واطمأن إلى أننا نجلس في مائدة منفردة تفصلها مسافات عن الطاولات الأخرى ولا وجود لكائن يمكن أن يسمعنا إلا بعض طيور البجع التي تسبح في النهر بجوارنا، ومع ذلك وزيادة في الاحتياط دس رأسه في رأسي ، وجعل صوته خافتا حتى صار ما يقوله أقرب إلى الهمس :

ــ أبلغني كينيث أن رئيس تحرير التايمز طلب من زميل يعمل بالشؤون العربية اسمه روبرت مورتمر أن يكتب رثاء للرئيس جمال عبد الناصر ، هل تعرف معنى هذا الكلام ؟

ــ لا معنى له إلا أن السيد رئيس التحرير يتوقع موتا قريبا للرئيس المصري لكي تكون صحيفته جاهزة بكلمة الرثاء فور إعلان الوفاة.

ــ ولعله رأى أن هذا الموت سيكون مفاجئا إلى الحد الذي قد لايسعفهم فيه الوقت لكتابة المراثي كما يحدث في حالات الموت العادي الذي يأخذ وقتا أو المرض الذي تسبقه تكهنات الأطباء بالموت ، فكتابة المرثية قبل موته له مغزاه ، أليس كذلك؟

ــ إنه حقا أمر خطير.

ــ لقد سبق أن قلت لك إن مرضي ومرضه يتشابهان وما نأخذه من أدوية يصل إلى حد التطابق فهل يحق لي أن أبحث عمن يكتب مرثيتي أو بالأحرى وصيتي لأن أمر المرثية لن يعنيني سواء وجد من يكتب مرثية لي أو لم يوجد.

ــ ليست حياتك هي التي في خطر ، لأن ما يحاك لزعيم كبير مثل عبد الناصر ، قد لا يحتمل الصبر حتى يموت بمرضه ، وإنما يستعجلون موته بوسائل أخرى ، فأرجوك لا تقلق على حياتك ، ودعنا نقلق على هذا القائد العربي ، لماذا تراهم يريدون قتله بعد أن قتلوه بمؤامرة النكسة ؟

ــ ها أنت تسميها مؤامرة ؟

ــ إنني أراها مغامرة جلبنا بها الكارثة لأنفسنا ، دون أن ننفي دورالمؤامرة فهي موجودة بالتأكيد.

ــ وربما قتله الآن هو الجزء الذي يكمل تلك المؤامرة .

ــ هل تقول قتله ؟

ــ ألست أنت الذي تقول ذلك ؟ لا أدري إن كنت قد جئت على ذكر القتل فقط بسبب التخفيف عن السيد جعفر فإن هناك بالتأكيد في جسد عبد الناصر من الأمراض ما يمكن أن يقضي عليه ، ويمكن ان تكون قد وصلت معلومات مخابراتية ، مصدرها مراكز صحية كالتي كان منذ أيام قليلة يعالج فيها في موسكو تقول بأنه حان وقت انتقاله من دار الفناء ، هذا أيضا وارد ، وهذا ما يجب لأي رئيس تحرير أن يفعله ، لأن روبرت مورتمر محرر الشؤون العربية ليس دائما متوفرا وموجودا فهو يذهب لحضور مؤتمرات وندوات ولعله أيسر وأكثر توفيرا وجهدا أن يكون النعي موجودا حتى لو كان سينتظر عاما أو بعض عام، وانتهى الاتفاق بيني وبينه إنه من الضروري أن يفعل شيئا لأن الأمر أكثر خطورة من أن يترك دون اتخاذ إجراء، فلمعت في عينيه نظرة انتصار قائلاً:-

ــ إذن فأنت معي أننا مازلنا رغم الهزيمة نحتاج لهذا الرجل ، أليس كذلك؟ فرددت عليه قائلا بأنه مهما كان حجم غضبنا عليه فإنه لابد أن ننصره عندما يستهدف الأعداء حياته ، وسألته إن كان يعرف الملحق الصحفي المصري فأبلغني بأنه يعرفه منذ أن كان يعمل في مطبوعة الجامعة العربية :

ــ إذن فلتنقل له ما سمعت دون حاجة لذكر اسم الصديق الذي ذكر لك الكلام ولا المحرر الذي سيكتب النعي ، لأن ما يهم المحرر هو أن التايمز وتحسبا لما تراه موتا قريبا لعبد الناصر قد استعدت بتكليف محررها للشؤون العربية بكتابة نعي للرئيس المصري، واترك الباقي لهذا الملحق المصري ليتصرف بما يمليه عليه واجبه نحو وطنه ورئيسه.

لم أعد أثق الآن في ذاكرتي لأقول في أي يوم بالضبط كاشفني السيد جعفر بما سمعه من صديقه كينيث وول وعلى وجه التخمين أنه يقع في بداية الأسبوع الثاني من شهر أغسطس في عام 1970 وكان عبد الناصر قد عاد فعلا من رحلة علاج الى موسكو نقلت أخبارها الصحف ولكنه عاد إلى أجندة زاخرة بالعمل والمؤتمرات وحرب الاستنزاف التي سجلت فيها القوات المسلحة نقاطا مهمة في مناوشاتها الحربية مع جيش العدو ، ورأيت السيد جعفر على عجل في مكتبه مطلع الأسبوع التالي للقائنا، لأعرف ماذا حدث فأبلغني أنه فعلا زار الملحق الصحفي المصري ورجاه الملحق نظرا لحساسية الموضوع أن يجنبه مسؤولية نقل هذا الخبر المشؤوم إلى مكتب الرئيس حتى لا يسيء أحد فهمه هناك ، خاصة أنه ينحدر من عائلة باشوات تنتمي إلى طبقة غير تلك التي ينتمي إليها ضباط الثورة ، وارتجاه أن يكتب ما سمعه منه في رسالة إلى الرئيس ممهورة بإمضائه وسيحيلها على الفور إلى مكتب المعلومات في قصر الرئاسة وهذا ما فعله ، قائلا بأنه يضع يده على قلبه وينتظر ما تأتي به الأيام ، ولعلها حقا أرادت أن يغادر كل منهما الحياة في نفس العام كما ولدا في نفس العام حسب ما يرى فلا مجال في نفسه للحزن والأسى إذا اقترن مصيره بمصير هذا الزعيم الذي أحبه في حالات النصر والهزيمة وفي أيام المجد والضعة والصعود والانهيار .

جاءت أحداث أيلول الأسود بكل ما صاحبها من كوارث الحروب العربية العربية التي عادة ما تكون أكثر قسوة على القلب من الحروب مع العدو بكل ما ينتج عنها من دمار وخراب وكوارث وهزائم ، لأن هذه تكون من فعل العدو الذي لا نتوقع منه إلا الشر ، وتلك من فعل أهل البيت الواحد التي تحسب في سجل الجرائم ضد أنفسنا .

وجاء بعد ذلك المؤتمر الذي دعا إليه الرئيس المصري ولبته الفرق المتحاربة ومجموعة من الزعماء العرب لايقاف هذا النزيف وظهر عبد الناصر في الصور التي نقلتها النشرات الرئيسة مليئا بالنشاط والحيوية أزالت من أنفسنا كل الشكوك التي تثار حول صحته، وكدت فعلا أحسب أن ما سمعه السيد جعفر من صديقه في التايمز يدخل في مجال الحرب النفسية التي تستخدم مثل هذه الألاعيب الصغيرة، إلى أن جاء الخبر فاجعا مؤلما سريعا تنقله الأخبار على عجل ، مات عبد الناصر التفاصيل في نشرة التاسعة ، هكذا سمعته في التلفاز في ومضة خاطفة اعقبها إعلان ضاحك عن الشيكولاته ، فزاد الأسلوب الذي تم فيه الإعلان عن موت عبد الناصر من ألمي واستفزازي وعمدت إلى الهاتف أكلم كل من أعرف فهناك من سمع ومن لم يسمع ، ولكن لا وجود لتفاصيل ، وخرجت هائما في شوارع كوينز واي المأهولة بالعرب علني أجد أحداً أتبادل معه المواساة وأفهم إن كان قد عرف شيئا من الإذاعات العربية لأنني لا أملك غير التلفاز الذي لم يكن به في ذلك الوقت غير ثلاث قنوات إحداها فقط تهتم بالأخبار ، فوجدت تاجر صحف مصري ، سمع بالخبر وعنده بعض التفاصيل لأنه اتصل هاتفيا بأهله بالقاهرة يتبادل معهم التهاني ، لأنه ينتمي إلى عائلة هربت من مصر منذ التأميمات ويكاد يرقص في شوارع لندن تعبيرا عن فرحته ،فلم أصبر على كلامه ولم أطق أن يكون هذا مصدر معلوماتي عما حدث لعبد الناصر لأن الحقد والتشفي جعله لا يقيم احتراما للموت ، وعدت أنتظر التفاصيل وإزجاء للفراغ كتبت مقالة رثاء أرسلت بها في صباح اليوم التالي إلى صديقي الكاتب علي مصطفى المصراتي لينشر في ذات الأسبوع في جريدته الشعب ، وتفجر في نفسي كل ذلك الحب الذي ظل رغم الهزيمة وما زرعته من غضب في نفسي ضده موجودا في مخازن الروح وخرج أثناء كتابة المقال في فيوض من الحزن والعبرات التي تسيل مع الحروف والكلمات ،وتصورت في المقالة أن سحابة في سماء لندن ، استهونت أمري واستفردت بي بعد وفاة الزعيم فقررت مطاردتي في شوارع لندن وأنا أطوف بها دون الغطاء الذي كان يمنحه عبد الناصر للعرب الغرباء من أمثالي وأسقطت فوقي وابل أمطارها ، ولا تتركني إلا وأنا أعاني من البلل والأوحال ، وكان أول إنسان فكرت فيه هو جعفر الباكستاني ، الذي لم أكن أعرف طريقا إلى بيته وانتظرت حتى صباح اليوم التالي لأذهب إليه في السفارة التي كانت قد نكست العلم وأعلنت الحداد وفقا لما فعلت ليبيا ، ولم أجد جعفر لأن عددا من الناس اعتبروه اجازة حزن على الزعيم الراحل ، وفي اليوم التالي كان موعد مسيرة اعلنت الجالية العربية عن قيامها في الهايد بارك لتوديع عبد الناصر ، فكان لابد أن تشارك السفارة بكل موظفيها في هذه المسيرة التي يعقبها مهرجان خطابي تأبيني للرئيس المصري وكنا نخترق شوارع لندن من الهايد بارك إلى الطرف الأغر فيرفع الإنجليز قبعاتهم احتراما لموكبنا الحزين ، وجاء بعد هذا الوداع يوما عطلة الأسبوع ، وعندما ذهبت يوم الاثنين إلى السفارة علمت أن السيد جعفر أصيب بأزمة قلبية جديدة نقل على إثرها للمستشفى ، واستغرق الأمر أكثر من يوم حتى عرفت المستشفى وذهبت هناك إلى زيارته في قسم القلب ، فوجدت الوهن قد تمكن منه ويكاد لا يتكلم إلا همسا وبطريقة بطيئة قائلا إنه يشعر بأن الأجل قد حان،وأن ما ربط بينه وبين عبد الناصر في الميلاد هاهو يربط بينهما في الموت والانتقال إلى دار البقاء وأبلغني أنه أوصى بألا يدفن في هذه البلاد،إن انتماءه وولاءه ظل دائما لموطن أهله وأسلافه في لاهور ،وأن له من المدخرات ما يكفي لأن يقوم أحد أفراد العائلة بكل الإجراءات لدفنه هناك ، فطمأنته بأن الأزمة ستمر كما مرت الأزمة التي قبلها منذ أربعة أعوام ، وأنني سأزوره إن شاء الله بعد أيام قليلة في مكتبه بالسفارة الليبية كما تعودت أن أفعل منذ أن عرفته ما يقرب من ثلاثة أعوام ، وفعلا مررت بعد أسبوع لأرى إعلان نعيه كبيرا يغطي لوحة الإعلانات في مدخل السفارة يشرح فيه كاتبه كيف أن السيد جعفر قد انتقل إلى رحمة الله وإن أسرته قررت دفنه في مدافن الأسرة في لاهور مع عنوان في تلك المدينة لمن يريد أن يبعث برقيات العزاء ، فكتبت من داخل السفارة برقية لأهله في المدينة التي اختارها لمقامه الأبدي مبديا مشاعر الحزن والأسى على هذا الصديق الذي أفنى عمره مدافعا عن الحق والذي كان صادقا مع القضايا التي آمن بها إلى حد الموت ولا زلت كلما حلت ذكرى نكسة “حزيران” أذكر السيد جعفر الباكستاني الذي ذهب ضحية لها ، متحسسا رأسي بشيء من الدهشة ، لا أكاد أصدق أنني شهدت تلك المحنة وبقيت بعدها على قيد الحياة.

مقالات ذات علاقة

رنين

هدى القرقني

العم صالح

شظيتان متباعدتان

محمد دربي

اترك تعليق