لم يكن العروض الذي وضع قواعده أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي (170هـ) بمنأى عن جدال ومحاكمة النقاد المعاصرين، شأنه في هذا شأن أي موروث ثقافي وأدبي طال عليه الأمد، واختلفت فيه الأذواق والأفهام، ففي القرن الماضي وأثناء الجدل الذي عُني بقضايا الإطار الموسيقي للقصيدة العربية الحديثة استأثرت قضيتان من قضايا العروض باهتمام عدد من النقاد.
القضية الأولى هي القول بمناسبة الوزن لموضوع القصيدة ، وهي قضية اتخذت طابعاً جدلياً هادئاً ، التقطها نقاد العصر من إشارات النقاد القدامى لها في كتاباتهم ، ثم توسعوا فيها، واختلفوا بشأنها ما بين مؤيد ومعارض.
والقضية الثانية تُعَدُّ محاكمة لعروض الخليل، أثارها عدد محدود من الشعراء والنقاد الحداثيين ليؤكدوا بها عدم صلاحيته لاستيعاب مضامين العصر الحديث والتعبير عنها، بحجة أنه إطار موسيقي جامد وصارم، كثيراً ما يدفع الشاعر دفعاً إلى الحشو وتمطيط الكلام واجتلاب القافية لأجل إتمام البيت.
أولا / مناسبة الوزن لموضوع القصيدة:
أدرك النقاد القدامى ما للوزن من أثر في بنية القصيدة وفي ذائقة متلقيها، فوضعوا له شروطاً من بينها : أن يكون لذيذاً، عذب القافية ، خفيف الأعاريض، حلو الضروب. (1)
غير أن نفراً قليلاً من هؤلاء النقاد زاد على هذه الشروط شرطاً آخر، وهو أن يكون الوزن مناسباً وملائماً لمضمون وفكرة القصيدة ، فابن طباطبا العلوي(322هـ) خلال حديثه عن مراحل نظم القصيدة قال : (( فإذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثراً، وأعدَّ له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه ، والقوافي التي توافقه، والوزن الذي يسلس له القول عليه)). (2)
كذلك ارتأى أبو هلال العسكري(420هـ) أن من أراد نظم قصيدة عليه أن يطلب لها(( وزناً يتأتى فيه إيرادها، وقافية يحتملها ، فمن المعاني ما تتمكن من نظمه في قافية، ولا تتمكن منه في أخرى )) . (3)
يُفهم من نصيْ الناقديْن العلوي والعسكري أنهما يتصوران أن لكل وزن شعري موضوعه المناسب له، وأنه ينبغي للشعراء مراعاة هذا التناسب، دون أن يذكرا ما الموضوع المناسب لكل وزن من الأوزان الستة عشر.
ومن المؤكد أن رؤيتهما لمراحل نظم القصيدة تتوافق مع مفهوم الصنعة الذي كان سائداً في عصرهما، ولكنها لا تتوافق مع الواقع الشعري أو واقع الإبداع بصفة عامة، فليس ثمة شاعر حقيقي في العصور الخوالي وفي عصرنا هذا قصد أو تعمد نظم قصيدة على وزن كذا من الأوزان موافق للتجربة أو الفكرة التي أراد التعبير عنها، لأنه أصلاً ليس في ذهنه تصور مُعَد عما يناسب الأغراض الشعرية من أوزان.
إن القصيدة لا يُخطط لها هذا التخطيط المتصنع الذي تصوره الناقدان، لأنها ليست صنعة كالتي يقوم بها المتشاعر والمتدرب على النظم والملحن الموسيقي الذي يركِّب الألحان على الكلمات، فالشعر إلهام شعوري ونتاج تفاعل وجداني يختمر زمناً في الذات الشاعرة، ثم يخرج على شكل بيت واحد أو عدة أبيات أو سطور بوزنها وصورها وأخيلتها، ليتولى الشاعر بعدئذ تنقيحها.
وإذا كان ذانك الناقدان قد اكتفيا بالإشارة إلى ضرورة التناسب بين وزن القصيدة وموضوعها فإن ناقداً آخر جاء بعدهما وهو أبو الحسن حازم القرطاجني (684هـ) توقف عند هذه القضية قليلاً في كتابه ( منهاج البلغاء )، محاولاً في فصل سماه ( بناء الأشعار على أوفق الأوزان) الاستدلال على صحتها، فقال: (( لما كانت أغراض الشعر شتى، وكان منها ما يُقصد به الجد والرصانة، وما يُقصد به الهزل والرشاقة، وما يُقصد به البهاء والتفخيم، وما يقصد به الصَّغار والتحقير، وجب أن تحاكي تلك المقاصد بما يناسبها من الأوزان ويخيلها للنفوس، فإذا قصد الشاعر الفخر حاكى غرضه بالأوزان الفخمة البهية، وإذا قصد في موضع قصداً هزلياً أو استخفافياً، وقصد تحقير شيء أو العبث به، حاكى ذلك بما يناسبه من الأوزان الطائشة القليلة البهاء، وكذلك في كل مقصد، وكانت شعراء اليونانيين تلتزم لكل غرض وزناً يليق به، ولا تتعداه إلى غيره، وهذا الذي ذكرته من تخييل الأغراض بالأوزان قد نبَّه عليه ابن سينا في غير موضع من كتبه)). (4)
من الواضح أن القرطاجني استدل على صحة موقفه بحجتين:
الحجة الأولى أن تعدد الأغراض الشعرية يعني أن لكلٍ منها وزنه المناسب الذي لا ينبغي للشاعر تجاوزه، فلولا تعددها لما تعددت الأوزان، ولكان وزن واحد يغني عنها جميعها ، لذلك من المنطقي أن يكون لكل وزن موضوع مناسب له أكثر من غيره ، ولكن واقع المدونة الشعرية العربية على مدى تاريخها يبطل هذه الحجة ، فليس ثمة وزن اختص بغرض أو موضوع واحد.
والحجة الثانية أن شعراء اليونان كانوا يختارون لكل غرض وزناً معيناً، والحق أن أرسطو(422ق.م) قد يكون أول من قال باختصاص كل وزن بموضوع معين، ففي خلال حديثه عن الملحمة عيَّن لكل وزن من أوزان الشعر اليوناني موضوعاً مناسباً له، وعنه نقل هذه الفكرة الفلاسفة المسلمون كأبي نصر الفارابي(339هـ) وابن سينا(427هـ) وابن رشد (595هـ).(5)
ويمكن القول إن هذه الفكرة لم تستوقف النقاد القدامى طويلاً ولم تبرز قضيةً نقديةً إلاَّ في هذا العصر، حيث قام عدد من النقاد بدراستها وتحليلها من خلال دراسة بعضهم لأوزان الشعر العربي واستقراء أغراضها، وكانت نتيجة هذه الدراسات بروز اتجاهين متعارضين، اتجاهاً يقول بالتناسب بين الأوزان وأغراضها ، وآخر ينفيه.
إن القائلين بالتناسب يمثلهم نفر قليل من الأدباء والنقاد أبرزهم سليمان البستاني (1925م) ، وأحمد أمين( 1954م) ، ومصطفى صادق الرافعي(1937م) الذي حاول الاستدلال على صحة رأيه بقوله: (( وإذا أنت اعترضتَ شعر الجاهلية فإنك ترى كل بحر من البحور مخصوصاً بنوع من المعاني، فالطويل وهو أكثر الأوزان شيوعاً بينهم إنما اتسع لتفرغ فيه العواطف جملة، فهو يتناول الغزل الممزوج بالحسرة والحماسة التي يخالطها شيء من الإنسانية، والرثاء الذي يتوسع فيه بقص الأعمال مبالغة في الأسف والحزن، ويتصل بذلك سائر ما يدل على التأمل المستخرج من أعماق النفس كالتشبيهات والأوصاف ونحوها، وبالجملة فإن حركات هذا الوزن إنما تجري على نغمة واحدة في سائر المعاني، وهذه النغمة تشبه أن تكون حركة الوقار في نفس الإنسان ، بخلاف الكامل، فإن كل ما يحمل من المعاني لا يدل إلا على حركة من حركات النزق في هذه النفوس)). (6)
ولا يخفى أن هذا الرأي إنما هو استنساخ لرأي القرطاجني، وما يضعف من قيمته هو الخلط الذي وقع فيه الكاتب ، فهو من جهة أقرُّ أن وزن الطويل اتسع لموضوعات وأغراض شتى كالغزل والرثاء والحماسة وغيرها، لكنه من جهة أخرى زعم أن لهذه الأغراض نغمة واحدة هي الوقار، وكذلك هو حال وزن الكامل الذي نعت نغمته بالنزق ، ولا شك أن نعت وزن شعري أو قطعة موسيقية بالوقار أو النزق أو غيرها من النعوت القَيْمية والأخلاقية خارج عن مجال الفن والإبداع.
ولم يبعد موقف الدكتور عبد الله الطيب المجذوب(2003م) عن موقف الرافعي كثيراً، وإن بدا أكثر منه ومن غيره من نقاد العصر حماسة واقتناعاً، ففي الجزء الأول من كتابه (المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها) الذي خصصه لدراسة الأوزان والقوافي، نفى نفياً قاطعاً أن يكون أي وزن من الأوزان يصلح لأي غرض من الأغراض الشعرية، محتجاً كالقرطاجني بأن تعدد واختلاف الأوزان يعني بالضرورة أن لكل منها غرضه الخاص، وإلاَّ كان وزن واحد يغني عنها كلها ، وتساءل: (( وهل يتصور في المعقول أن يصلح بحر الطويل الأول للشعر المعبر عن الرقص والنقزان والخفة؟)). (7)
وهذا سؤال غريب حقاً، لأن لا أحد من خبراء الشعر ومتذوقيه يعرف أن ثمة شعراً يعبر عن الرقص والنقزان أو يعبر عن الوجوم والسرحان، فالشعراء ليسوا كتَّاب أغاني يكتبون الشعر لأجل الغناء به والرقص عليه.
وفق هذه الرؤية شرع الدكتور المجذوب في تحليل جميع أوزان الشعر وفي تحديد الموضوعات التي تناسبها، وقد خصَّ بعضها بنعوت غريبة ذات دلالة قيْمية وأخلاقية، حيث نعت بعض الأوزان القصيرة مثل منهوك البسيط ، ومجزوء المتقارب، والمضارع ، والمقتضب بالشهوانية، لأن موسيقاها (( لا تكاد تصلح إلاَّ للكلام الذي قُصد منه قبل كل شيء أن يُتغنى به في مجالس السكر والرقص المتهتك المخنث ، ولو تأملتها جميعاً وجدتَ في نغمها شيئاً يشعر بالشهوانية، ولسمعتَ من نقرات تفاعيلها موسيقا ذات لون جنسي )). (8)
لكن استقراء وزن واحد من الأوزان الستة عشر وتتبع الأغراض المختلفة التي نُظمتْ فيه على مدى تاريخ الشعر العربي سيكشف أن رأي الدكتور عبد الله المجذوب ومن قبله الرافعي والقرطاجني وغيرهم كان استنتاجاً خاطئاً وانطباعاً وقتياً، لا يمكن الاعتماد عليه في إثبات صلة نسب حقيقية لوزن من الأوزان بموضوع ما.
وقد تبنى هذا الرأي عدد من النقاد المعاصرين من بينهم الدكتور إبراهيم أنيس (1977م)، والدكتور محمد غنيمي هلال(1968م)، والدكتور محمد مندور(1965م)، والدكتور شكري عياد(1999م)، والدكتور عز الدين إسماعيل(2007م) والدكتور يوسف حسين بكار وغيرهم. (9)
لقد تتبع الدكتور إبراهيم أنيس في كتابه ( موسيقى الشعر) الأوزان الشعرية وموضوعاتها ونِسب استخداماتها، وانتهى إلى اليقين بأن الشعراء القدامى (( كانوا يمدحون ويفاخرون أو يتغزلون في كل بحور الشعر التي شاعت عندهم، ويكفي أن نذكر المعلقات التي قيلت كلها في موضوع واحد تقريباً، ونذكر أنها نظمت من الطويل والبسيط والخفيف والوافر والكامل، لنعرف أن القدماء لم يتخيروا وزناً خاصاً لموضوع خاص)). (10)
ووفق ما تقدم يمكن التأكيد أن الصلة بين وزن القصيدة وموضوعها إنما هي صلة عشوائية غير مقننة لا يفتعلها الشاعر ولا يعمد إليها وفق فلسفة معينة أو رؤية خاصة، فالأوزان بالنسبة إليه إنما هي أوعية إيقاعية تتسع لشتى المضامين ومختلف المشاعر، مع أنها ليست سواء في بنيتها ومكوناتها، وذلك بسبب اختلاف عدد التفعيلات في كل منها، واختلاف نِسب المسافات الزمنية الفاصلة بين المتحركات والسواكن من حروفها، وكذلك اختلاف سرعة تردد الإيقاع بين وزن وآخر، وما يمكن أن تدل عليه هذه السرعة.
ثانيا / انتهاء صلاحية العروض :
برزت هذه القضية في الكتابات النقدية المعاصرة التي درست قضايا الإطار الموسيقي الجديد للقصيدة العربية أو ما سُمِّيَ وقتها بإطار السطر، فقد ارتأى عدد من النقاد أن الإطار الموسيقي القديم (عروض الخليل) أو إطار البيت قد بَلِيَ ولم يعد صالحاً للتعبير عن مضامين وموضوعات هذا العصر.
وُيعَدُّ الشاعر المهجري ميخائيل نعيمة(1988م) من أوائل الذين جادلوا في فائدة وصلاحية عروض الخليل مع أنه ظل ملتزماً بأكثر قواعده في شعره ، ففي كتابه الشهير( الغربال) الصادر سنة 1923م زعم أن العروض جنى جناية كبيرة على الشعر والأدب عامة ، حيث بات كل قادر على رصف الكلمات وفق بحوره الستة عشر يُدعَى شاعراً ، لذا صار الناظم مساوياً للشاعر في نظر الجمهور مادام كل منهما يعتمد على العروض .
وسخر ميخائيل نعيمة ممن يرى الشعر كلاماً موزوناً مقفى، فالأوزان والقوافي في نظره ليست من ضرورات الشعر، ذلك لأن الغاية من الوزن هي ( التناسق والتوازن في التعبير عن العواطف والأفكار ، ولا شك أن الأوزان نشأت نشوءاً طبيعياً ، وكان سبب ظهورها ميل الشاعر إلى تلحين عواطفه وأفكاره …لذلك لحق الوزن بالشعر ونما معه نمواً طبيعياً ، فكان يتكيف بالشعر ولا يتكيف الشعر به، وما زال الوزن لاحقاً والشعر سابقاً إلى أن قيَّض الله لأبي عبد الرحمن أن جمع كل ما توصل إليه من الأوزان فبَّوبها وحدَّدها وجعل لكل منها قواعد، ولكل قاعدة جوازات وللجوزات جوازات .
منذ ذلك الحين يا أخي أخذ الوزن يتغلب رويداً رويداً على الشعر إلى أن أصبح الشعر لاحقاً والوزن سابقاً ، وأصبح كل من قدر أن يتغلب على عروض الخليل بأوزانها وزحافاتها وعللها أهلاً لأن يُدعى شاعراً). (11)
ولئن كان مبرر ميخائيل نعيمة في الهجوم على العروض هو إرساء مفهوم جديد للشعر يتماهى مع النظرية الرومانسية التي رأت فيه فيضاَ نفسياً يتأبى بطبعه الخضوع للقواعد الصارمة والأشكال الجاهزة ، فإن الشاعرة نازك الملائكة التي ثارت على قواعد عروض الخليل وابتدعت ما عُرف وقتذاك بشعر التفعيلة قد برَّرت ثورتها بأن هذا العروض شكل هندسي مقيد ذو طبيعة صارمة ، وخَلُصت إلى القول إن( هندسية الشكل لا بد أن تتطلب هندسية مقابلة في الفكر الذي يستوعبه هذا الشكل). (12)
وقد تلقف الدكتور عز الدين إسماعيل هذا الرأي فأكده مبيناً أن من غير الطبيعي( أن نتناول مضامين جديدة بخبرات فنية قديمة ، فالخبرة تفرض إطارها وتختاره ، ومن هنا تسقط دعوى أن خبرتنا الفنية القديمة في ميدان الشعر تكفي مضامين حياتنا الجديدة ، وكذلك يسقط القول بأن الإطار الشعري القديم يقبل كل المضامين الجديدة ولا يعجز عن تحملها ، فالحياة قد تغيرت في مضمونها وإطارها، وهي تتغير في كل مكان مع الزمن فكان لا بد أن يتغير معها إطار التعبير)) .(13)
لكن أقسى نقد وجِّه إلى عروض الخليل جاء من قبل الدكتور محمد النويهي (1980م) في كتابه ( قضية الشعر الجديد) ، فهو لفرط إعجابه ومغالاته في الدفاع عن الإطار الموسيقي الجديد الذي ابتدعته نازك الملائكة وأنصارها من رواد شعر التفعيلة لم يرَ في هذا العروض أية قيمة ، فهو في نظره موسيقى مكررة وصاخبة تؤذي الآذان المرهفة ، وينفر منها الذوق الموسيقي الحديث .
ونظراً إلى كثرة استعماله منذ قرون عديدة فقد استنفد أغراضه حتى بات عاجزاً عن أداء المعاني وخلق الصور الجديدة ، وصار عبئاً ثقيلاً على فن الشعر، ومطية سهلة للنظَّامين والمتشاعرين ، ينظمون فيه العواطف والأفكار المكررة والمبتذلة ، ويجترون بوساطته نفس الإيقاعات والقوافي والصور والتراكيب اللغوية القديمة .
ولكي يقنع الدكتور النويهي القارئ بوجهة نظره أحاله إلى قصيدة نظمها الشاعر صلاح عبد الصبور في نظام الشطرين ، مؤكداً له أنه سيجد فيها (حشداً محشوداً من الأنغام المكررة التي سمعناها من قبل عشرات المرات، والتراكيب المحفوظة المحفورة على الذاكرة .. جميع نقائص الشكل القديم حين ينظم عليه ناظمونا المحدثون من اضطرار إلى الإطناب والحشو من أجل استكمال الوزن والوصول إلى القافية ) . (14)
ولو أن الدكتور النويهي آثر الإنصاف ، وعدل عن تعصبه لإطار السطر الشعري أو شعر التفعيلة ، وأحال نفسه وقارئه إلى قصيدة منظومة في إطار البيت لنزار قباني أو محمد الفيتوري مثلاً ، لتغيَّر حكمه وأحسن الظن بعروض الخليل، ولكن الهوى غلب على نفسه فزين له موقفه ونفوره من عروض الخليل، فاندفع بحماس جارف يرميه بكل منقصة .
ثالثا / نقض دعاوى النقاد :
هذه الدعاوى التي رفعها النقاد ضد عروض الخليل بحاجة إلى فحص حيثياتها ومصداقيتها ومن ثَم نقضها ، فالقول بأنه لم يعد صالحاً للتعبير عن قضايا وموضوعات العصر ادعاء لا يسنده دليل واحد ، وهذه مدونة الشعر العربي منذ نشأته إلى عصرنا هذا تؤكد أن هذا العروض بأوزانه وقوافيه ونظامه الهندسي الدقيق قد استوعب ولا يزال قادراً على استيعاب كافة الموضوعات والمضامين الفكرية والشعورية التي واكبت ولا تزال تواكب حياة الشاعر العربي، فكما صاغ الشاعر القديم في هذا الإطار مدحه وهجاءه وفخره وغزله ورثاءه ، كذلك صاغ فيه الشاعر الحديث مشاعره ومواقفه تجاه القضايا الخاصة والعامة في عصره كالحب والمرأة والوطن والكون والطبيعة والإنسان والنفس والغيب والموت ، وغيرها من القضايا .
ولا شك أن إنكار هذا الأمر يعني شطب شعراء كباراً من مدونة الشعر العربي المعاصر لم ينظموا قصائدهم إلاَّ وفق عروض الخليل كجبران خليل جبران(1931م) ، وميخائيل نعيمة ، وإيليا أبي ماضي(1957م) ، وعبد الرحمن شكري (1958م) ، وأبي القاسم الشابي(1934م)، وعمر أبو ريشة (1990م) ، وغيرهم كثير.
كذلك فإن القول بأن عروض الخليل إطار نمطي ثابت وصارم لا يعني بالضرورة جموده وضيق مجالاته ، لأن تعدد أشكال الوزن الواحد منه والتغييرات التي تعتري تفعيلاته بسبب الزحافات والعلل ، والضرورات المسموح بها للشاعر دون الناثر، كلها تتيح قدراً لا بأس به من حرية الحركة للمبدع .
على أن أخطر دعاوى أولئك النقاد التي احتجوا بها على انتهاء صلاحية عروض الخليل هي قولهم إن صرامة قواعده عادة ما تجبر الشاعر على اختلاق الكلام الزائد واصطناع القافية لأجل إنهاء البيت ، وهذا القول ليس على إطلاقه ولا يمكن تعميمه ، فشواهده قليلة ، ولا يصحُّ اتخاذها دليلاً للحكم على انتهاء صلاحية العروض، ومن أمثلتها الحشو الذي يقع في صدر البيت، كما في قول زهير بن أبي سلمى (611م) : (15)
وأعلمُ علمَ اليومِ والأمسِ قبلهُ
ولكنني عن علمِ ما في غدِ عَمِ
حشر زهير لفظة ( قبله) بعد لفظة ( والأمس) ، ليُتم بها عدد حروف تفعيلة عروض البيت ، فظهرت بذلك اللفظة مقحمة إقحاماً فجاً ، ومجرد فضلة لا قيمة لها ، وكان بإمكان الشاعر تفادي هذا الحشو المعيب ؟ .
ومن أمثلة حشو الكلام في تضاعيف عجز البيت قول شوقي(1932م) :
فاصبرْ على نُعْمى الحياة وبؤسها
نُعْمى الحياةِ وبؤسها سيانِ(16)
لم يكن ضرورياً أن ينهي شوقي البيت بهذا العجز المقحم الذي جعل نسيجه يبدو مهلهلاً ، ولغواً لا طائل منه .
وللشاعر أحمد الشارف (1959م) أبيات برز فيها الحشو صارخاً : (17)
لديهِ من لــــغةِ القــــرآنِ معــــجـزةٌ
تلوحُ كالدرِ والياقوتِ والذهـبِ
عـــــزمٌ لديـهِ وإيـــــمانٌ وتضـــحـيةٌ
والجبنُ عارٌ ومن أجلى مظاهــرهِ
يومَ اللقاءِ بلا خوفٍ ولا رهـبِ
حبُ التزلفِ والتمويهِ والكـــذبِ
ليس بخافٍ ما تعانيه أعجاز الأبيات الثلاثة من ترهل وحشو جاء به الشاعر لأجل الوصول إلى القافية ، فألفاظ مثل : ( الياقوت ـ الذهب ـ رهب ـ التمويه ـ الكذب) كلها حشو ليس لها من فائدة سوى أنها مكَّنت الشاعر من إتمام أبيات، وعندي أن سبب ضعف هذه الأبيات لا يعود إلى صرامة الإطار الذي نُظمتْ فيه ، بل يعود إلى ضعف مَلَكة الشاعر وقدرته على التفنن في الصياغة .
إلى جانب هذا فإن ثمة أمثلة قليلة للقافية المصطنعة ، ذكرها الدكتور يوسف بكار في معرض دراسته لموسيقا شعر الغزل في القرن الثاني الهجري ، وهو يرى أن الالتزام الصارم بوحدة القافية عادة ما يجبر الشعراء على المجيء بقافية مصطنعة ، واستدل ببعض أبيات منسوبة لبشار بن برد (167هـ) ، ومنها قوله : (18)
هي الروحُ من نفسي وللعينِ قرَّة
فداءٌ لها نفسي وعيني وحاجبي
وقوله : غنني للغريضِ يا ابنَ قِنانِ
وقوله أيضاً :
للهِ دَرَ فتاةٍ من بني جُشمٍ
ما أحسنَ العينَ والخدينِ والنابا
عَدَّ الدكتور بكار لفظة (حاجبي) في البيت الأول حشواً لا مبرر له بعد أن قال الشاعر إنه فدى حبيبته بعينه ، وهذا رأي سليم يمكن قبوله ، ولكن بدلاً من أن يرجع الناقد الحشو إلى سوء صياغة الشاعر للبيت أرجعه إلى سطوة القافية .
ولنزار قباني(1998م) بيت انتهى بقافية تشبه قافية بيت بشار : (19)
لم تُغيِّرْ حضارةُ النفطِ ظفراً من أظافيرنا ولا إبهاما
يمكن عدُّ قول نزار ( ولا إبهاما) من الحشو الزائد الذي كان يمكن الاستغناء عنه ، وإتمام البيت بتعبير آخر ينسجم فيه المعنى مع وحدة القافية .
أما البيتان الثاني والثالث فلا يصح الاستشهاد بهما ولا بمثلهما في مقام ذكر عيوب الالتزام بوحدة القافية ، فليست القافية هي التي أجبرتْ بشاراً على إنهاء البيت الثاني بذكر اسم رجل نكرة ، والبيت الثالث بذكر لفظة (الناب) الذي لا يُعَدُّ من بين الأعضاء التي يُتَغزل بها كالعين والخدين ، ومن هنا يمكن القول إن القافية لم تدفع الشاعر إلى هذا الحشو، بل هو التندر برجل من النكرات والسخرية من قبيلة جشم أو من الفتاة الجشمية .
كذلك رأى الدكتور بكار أن الشاعر اُضطر إلى استعمال لفظة (الصين) لينهي بها هذا البيت :
فرَّقتَ قوماً لا يُرى مثلُهم ما بين كوفانَ إلى الصينِ
علَّق الناقد قائلاً : (( فأين الكوفة من الصين ؟ وما العلاقة بينهما في ذلك الوقت ؟ ثم ما الذي جرَّ الشاعر إلى الصين حتى فطن إليها من بين سائر البلدان لولا أن القافية الملعونة هي التي جرته إليها جرَّاً لا محيد عنه)) . (20)
ولست أميل إلى رأي الدكتور بكار، فموقع لفظة (الصين) في البيت طبيعي، لأنها بلد يُرمز له منذ القدم بالبعد ، ولم يُضطر الشاعر إلى ذكره لأجل إتمام بيته ، بل لأجل المبالغة في ذكر قوم لا يمكن أن يوجد مثيل لهم فيما بين الكوفة والصين .
وقد اختتم الشاعر نزار قباني بيتين متتالين بنفس اللفظة في قصيدته (جسمك خارطتي ) ، يقول فيهما : (21)
وجعي يمتد كبقعةِ زيتٍ من بيروتَ إلى الصينِ
وجعي قافلـةٌ أرسلها خلفـاءُ الشامِ إلى الصـــين
وهنا لا يصحُّ الحكم بأن لفظة (الصين) حشو لا مبرر له، بحجة أنه لا توجد صلة تصل بيروت والشام بالصين، فمثل هذا الحكم يشي بعدم القدرة على تلقي البيتين بذائقة فنية، ولكن يمكن بموجب قواعد القافية التراثية مؤاخذة نزار على انهاء بيتين متتاليين بكلمة واحدة ، وكان بإمكانه الاستغناء عن البيت الثاني كله، لأن الأول أغنى عنه، ويمكن القول إن ما يصيب البيت أو الأبيات من ضعف بسبب حشو الكلام أو اصطناع القافية لا يعود إلى صرامة قواعد النظم في عروض الخليل كما يزعم خصومه بقدر ما يعود إلى عدم تحري الشاعر جودة الصياغة .
لكن الدكتور عز الدين إسماعيل شأنه شأن غيره من خصوم عروض الخليل أصرَّ على أن إطار البيت يجبر الشاعر مهما عظمت قدرته الشعرية على اصطناع الحشو حتى يصل إلى القافية ، ومثل هذا الخلل المعيب لا يحدث إذا نظم الشاعر قصيدته في الإطار الجديد أي نظام السطر، وقدَّم دليلاً من شعر السيَّاب : (22)
تنامين أنتِ الآن والليلُ مقمـرُ
أغانيه أنسامٌ وراعـيهِ مزهـرُ
وفي عالَم الأحلامِ من كل دوحةٍ
تلقــــاكِ معبـــرُ
أكد الدكتور إسماعيل أن السيَّاب تمكن من قول ما أراد حين صاغ كلامه في إطار السطر، وافترض لو أن الشاعر نظم قصيدته في إطار البيت لأضطر إلى إتمام السطرين الثالث والرابع ، فهما خلافاً للسطرين الأولين لا يشكلان معاً بيتاً شعرياً كاملاً من وزن الطويل، لذلك سوَّاهما على هذا النحو :
وفي عالَم الأحلامِ من كلِ دوحةٍ تلقاكِ ظلٌ أو تلقاكِ معبرُ
ولو تمَّ التعامل بهذا المنطق الافتراضي المتعسف مع الشعر العربي لصحَّ وصم معظمه بأنه شعر الحشو وتمطيط الكلام ، وبات من الضروري عندئذ
نُصح الشعراء باجتناب النظم في إطار البيت والاقتصار على استخدام إطار السطر، مع أن النتاج الشعري يشهد أن شعراء مثل نزار قباني ، وسليمان العيسى (2013م)، ومحمد الفيتوري ، وعلي صدقي عبد القادر(2008م)، وعلي الرقيعي(1966م)، استخدموا الإطارين معاً ، ولا يمكن الزعم بأنهم برعوا في التعبير عن ذواتهم وعن مضامين عصرهم في إطار السطر أكثر مما برعوا في إطار البيت ، ومن الممكن التدليل على فساد هذا الزعم بإيراد نصين قصيرين للشاعر نزار قباني ، متفقيْن في المضمون ومختلفيْن في الوزن والإطار الموسيقي :
النص الأول من قصيدة ( إفادة في محكمة الشعر ) : (23)
يا فلسـطينُ لا تزالين عطــشى
وعلى الزيتِ نامتْ الصحراءُ
العبــــاءاتُ كلـها مـــــن حـــريـرٍ
والليــالي رخيـصــــةٌ حمـــــراءُ
يا فلسـطينُ لا تنــــادي عليـهم
قد تساوى الأمواتُ والأحياءُ
قتل النفـط ُما بهم من سجــايـا
ولقـــــد يقـتلُ الثـــــريَ الـــثـراءُ
النص الثاني من قصيدة ( الحب والبترول ) : (24)
تمرَّغْ يا أميرَ النفط ، فوق وحولِ لذاتكْ
كممْسحةٍ …. تمرَّغْ في ضلالاتكْ
لك البترولْ فاعصرْه
على قدميْ خليلاتكْ
كهوفُ الليلِ في باريسَ … قد قتلتْ مروءاتكْ
على أقدامِ مومسةٍ هناكَ
دفنتَ ثاراتكْ
فبعتَ القدسَ … بعتَ اللهَ …. بعتَ رمادَ أمواتك
النصان يصوران موقفاً شعورياً واحداً يكنُّه نزار قباني تجاه بعض مسؤولي وأثرياء الأنظمة العربية النفطية بسبب تخليهم عن قضية فلسطين ، فهو يراهم فاسدين أبطرهم المال ، وأمات في كينونتهم خلق النخوة والتراحم مع إخوانهم الفلسطينيين الذين لطالما استصرخوهم لإنقاذهم من جرائم المحتلين الصهاينة ، لكنهم ظلوا مشغولين في إنفاق ثرواتهم الطائلة على إقامة الليالي الحمراء في علب الليل بأوروبا .
صاغ نزار هذه الفكرة في إطارين موسيقييْن مختلفين ، ففي النص الأول صاغها في إطار موسيقي جاهز يتميز بحسن التنسيق والتنظيم : شطران متساويان في عدد التفعيلات ، ووزن ثنائي التفعيلة هو وزن ( الخفيف ـ فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن ) ، وقافية موحدة ، ورويَّ الهمزة المضمومة .
وفي النص الثاني صاغ نزار نفس الفكرة والموقف الشعوري في إطار حر مفتوح لم يتقيد فيه بعدد التفعيلات ، لكنه تقيد بقافية واحدة ورويِّ الكاف الساكنة، وقد استخدم تفعيلة (مفاعلتن) صحيحة في بعض المواضع، وفي بعض المواضع الأُخر أدخل عليها زحاف العصب، وهو تسكين الحرف الخامس ( اللام) من التفعيلة ، فصارت (مفاعيلن ) .
وعندي أن نزاراً تمكَّن بيسر من التعبير عن موقفه الشعوري في كلا الإطارين الموسيقيين ، بلغته ذات النبرة الغنائية الخطابية والصور الفطرية والأنيقة، ولا أظن أن هندسة ونظام الإطار الأول ألجأته إلى الحشو أو الإطناب أو اصطناع قافية في غير موضعها ، ولا أظن أيضاً أن حرية وانفتاح الإطار الثاني أغرته بالانسياب الشعوري أو الإسفاف اللغوي والثرثرة .
ولا بأس من التمثيل بنصين آخرين للشاعر علي الرقيعي، متفقيْن في الفكرة والوزن ومختلفيْن في شكل الإطار الموسيقي :
النص الأول من قصيدة ( أمسنا الثائر) : (25)
وذكرتُ أفواج الحزانى في المدينةِ كـالقطـــــ،يعْ
متواكبين إلى المساجدِ والمقـاهي في الصقيعْ
لا حلمَ لا آمالَ تبهجهم سوى البـؤسِ الفظيعْ
في محنةِ القحطِ الجذيبِ تدبَّ هاتيك الجمـوعْ
النص الثاني من قصيدة ( هياكل في الطريق) : (26)
فيطأطئون رؤوسَهم متواكبينْ
نحو المساجدِ والمقاهي يهرعونْ
نتفُ الكآبةِ والأنينْ
والهيكلِ المكدودِ بالألمِ المروعِ بالشحوبْ
وضراعةِ القلبِ المعنَّى والثيابْ
خرقٌ مهلهلةٌ وأسمالٌ ( بلتْ)
لا تسترُ الجسمَ المقفقفَ بالصقيعْ
يا للصقيعِ لكم يريعْ
كلا النصين يصور موقفاً مأساوياً واحداً استدعته ذاكرة الشاعر من سنيِّ القحط والجفاف التي فتكت بالإنسان والزرع والحيوان في ليبيا إبَّان منتصف القرن الفائت ، حيث تدب مواكب الجياع والمعدمين بحثاً عن الطعام ، نحو المساجد والمقاهي بأجسادها الهزيلة التي هدها الجوع وجمَّد أطرافها الصقيع .
وقد استخدم الشاعر في النصين معاً تفعيلة (متفاعلن) في إطارين مختلفين ، ففي النص الأول استخدمها في إطار البيت ، وذلك وفق المنصوص عليه في وزن مجزوء الكامل، لذلك كرَّر (متفاعلن) في كل بيت أربع مرات ، وأنهى الأبيات بقافية ورويٍّ متتابع .
وفي النص الثاني استخدم التفعيلة في إطار السطر، وقد وردت في بعض المواضع صحيحة وفي غيرها وردت مضمرة ، والمعروف أن زحاف الإضمار يعني تسكين الحرف الثاني ، بحيث تتحول متفاعلن إلى (مستفعلن) ، ومن الملاحظ أن الشاعر لم يتقيد في كل السطور بوحدة القافية والرويِّ ، وأنه كرر التفعيلة بحسب الدفق الشعوري ، فهي في بعض السطور وردت مرتين ، وفي بعضها الآخر ثلاث مرات ، وثمة سطر واحد وردت فيه أربع تفعيلات .
والمهم هنا أن نتساءل.. هل كان لالتزام الشاعر في الإطار الأول بعدد التفعيلات وبالقافية أثراً سلبياً أعاقه عن التعبير عن فكرته وتصوير مأساة الجياع، فاضُطر إلى الحشو وتكلف القافية لأجل إنهاء البيت ؟.
قد يزعم من يحلو له قياس إفرازات الشعور قياساً (سنتمتريا) بأن قيود هذا الإطار فرضت على الشاعر أن يحشر جملة (تدب هاتيك الجموع)، لتكون تكملة للبيت الرابع ، فحينها وبحسب هذا القياس ينبغي القول إن جملة (وأسمال بلت) في السطر السادس فضلة لا فائدة منها، لأن ثمة جملة مفيدة سبقتها وهي (والثياب خرق مهلهلة).
وقد يقال إن الإطار الثاني مكَّن الشاعر من التعبير بحرية عن فكرته وشعوره دونما حاجة إلى اصطناع كلام زائد ، والدليل أن السطر الأول المكون من ثلاث تفعيلات لو وُضع في إطار البيت لاحتاج إلى تفعيلة رابعة ليتكون منها بيت مجزوء، ولأضُطر حينها الشاعر إلى اختلاق كلام زائد، كأن يقول مثلاً :
فيطأطئون رؤوسهم في ذلة متواكبينْ
وهكذا نظل وفق هذا القياس (السنتمتري) نتتبع البيت أو السطر الشعري إلى ما لا نهاية، ونرمي معظم ما ينظمه الشاعر بالحشو وقلة الفائدة.
ولعلنا نخلص مما تقدم إلى أن شأن الإطار الموسيقي القديم كشأن صنوه الجديد ، فهما يعودان إلى بنية إيقاعية واحدة قوامها التفعيلة وما يعتريها من زحاف أو علة، فلا مزية لأحدهما على الآخر إلاَّ بمدى تفاعله مع ما يصاغ فيه من رهيف الشعور وبديع التصوير، وما يثيره هذا التفاعل في نفس المتلقي. لم يسلم الإطاران من انتقادات النقاد والمهتمين بشؤون موسيقا الشعر، فكما رأى بعضهم أن قيود النظم في إطار البيت قد تدفع الشاعر إلى الحشو واصطناع القافية، رأى آخرون من بينهم الشاعرة نازك الملائكة نفسها أن حرية النظم في إطار السطر المتمثلة في عدم التقيد بعدد معين من التفعيلات وعدم الالتزام بالتقفية قد تغري الشاعر إلى الوقوع في الحشو واختلاق نهايات ضعيفة للسطور، كما أن اعتماد هذا الإطار على تكرار تفعيلة واحدة قد يؤدي في بعض القصائد إلى السأم وابتذال الكلام .(27)
والحق أن مثل هذه الهنات والأخطاء التي تقع في هذا الإطار الموسيقي أو ذاك إنما هي استثناءات قليلة وعوارض محدودة لا تشكل ظاهرة ، وعادة ما يقع فيها الشاعر حين يفتر نشاطه وتضعف جذوة إبداعه، أو حين يستعجل إتمام قصيدته ليتخلص من وجع النظم ، لذلك لا أرى من الحكمة تضخيمها والبناء عليها لأجل الحط من قيمة وجمالية أيٍّ من الإطارين .
_____________________________
مصادر ومراجع البحث:
(1) يُنظر: على سبيل المثال: العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، ابن رشيق القيراوني، تح محمد محي الدين عبد الحميد ،دار الجيل، بيروت ، ط5 ، 1981م ، ج 1، ص 140.
(2) عيار الشعر، ابن طباطبا العلوي، تح محمد زغلول سلام، منشأة المعارف بالإسكندرية، ط 3، 1984م،ص 43.
(3) كتاب الصناعتين، أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري، تح علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، ط1، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1952م، ص 139.
(4) منهاج البلغاء وسراج الأدباء، أبو الحسن حازم القرطاجني، تحقيق الدكتور محمد الحبيب الخوجة ، دار المغرب الإسلامي، ط 5، 1981م، ص 266.
(5) يُنظر: بناء القصيدة في النقد العربي القديم ،الدكتور يوسف حسين بكار، دار الأندلس، بيروت، ط 2، 1983 م، ص 164.
(6) تاريخ آداب العرب، مصطفى صادق الرافعي، مطبعة الاستقامة ، القاهرة ،ط2،ج3، 1954م ، ص 12 ـ 13.
(7) المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها، الدكتور عبد الله الطيب المجذوب، لا ط،ج1، ص 74.
(8) المصدر نفسه، ص 90 .
(9) يُنظر: بناء القصيدة في النقد العربي القديم، في ضوء النقد الحديث، الدكتور يوسف حسين بكار، ص 166.
(10) موسيقى الشعر ، الدكتور إبراهيم أنيس ، دار القلم، بيروت ، ط 4 ، 1972م ،ص195.
(11) الغربال، ميخائيل نعيمة، دار نوفل، ط 16 ، 1998، ص 126 ـ 127 .
(12) قضايا الشعر المعاصر، نازك الملائكة، دار العلم للملايين، بيروت، ط 5، 1978، ص59 .
(13) الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، الدكتور عز الدين إسماعيل، المكتبة الأكاديمية، القاهرة، ط 5، 1994 ، ص 16.
(14) يُنظر: قضية الشعر الجديد، الدكتور محمد النويهي، مكتبة الخانجي، دار الفكر، ط 2 ، 1971م، ص 93 .
(15) شعر زهير بن أبي سلمى، صنعة الأعلم الشنتمري، تح فخر الدين قباوة، منشورات دار الأفاق الجديدة، بيروت، ط 3، 1980م، ص 25.
(16) الشوقيات ، أحمد شوقي، مطبعة الاستقامة بالقاهرة، 1950م،ج 3 ، ص 158.
(17) أحمد الشارف، دراسة وديوان، علي مصطفى المصراتي، الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان، الطبعة 3، 2000 م، ص 112.
(18) اتجاهات الغزل في القرن الثاني الهجري، الدكتور يوسف حسين بكار، دار الأندلس، ط 2، 1981م، ص 356 .
(19) مووايل دمشقية إلى قمر بغداد، نزار قباني، منشورات نزار قباني، ط1، 1979م، ص 31 .
(20) اتجاهات الغزل في القرن الثاني الهجري، الدكتور يوسف حسين بكار، ص 357 .
(21) أشعار خارجة على القانون، نزار قباني، منشورات نزار قباني، بيروت، لا ط ، ص 38 .
(22) الشعر العربي المعاصر، الدكتور عز الدين إسماعيل، ص 81 ـ 82 .
(23) الأعمال السياسية، نزار قباني، منشورات نزار قباني ، بيروت ، ط 15 ، 1980م ، ص 74 .
(24) أحلى قصائدي، نزار قباني، منشورات نزار قباني ، بيروت، ط 11، 1980م ، ص 124 .
(25) الحنين الظامئ، علي الرقيعي، منشورات الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان، ط 1، 1979م، ص 140.
(26) المصدر نفسه، ص73 .
(27) يُنظر : قضايا الشعر المعاصر، نازك الملائكة، ص 40 وما بعدها .