الكاتب يوسف القويري.
شخصيات

فصل آخر.. من حياة يوسف القويري

الكاتب يوسف القويري.
الكاتب يوسف القويري. الصورة: عن الهيئة العامة للثقافة.

كان المرحوم يوسف القويري ضمن من طالتهم حملة الاعتقالات التي اعلن عنها رئيس الانقلاب عام 1973 فيما يسمى خطاب زواره بنقاطه الخمسة التي كانت اولاها تعطيل القوانين المعمول بها الان ، هكذا بجملة واحدة في خطاب يلقيه ملازم اعطى نفسه قبل عامين رتبة عقيد، وسط ضجيج الجمهور، ينزع الغطاء القانوني عن اهل البلد تاركا اياهم في العراء، عرضة لاستباحتهم ووقوعهم تحت رحمة نزوات رجل لم يكن في كامل قواه العقلية، ولم تكن هناك قوة قادرة على رده وردعه، بل ما كان موجودا هي قوة غامضة، في غرفة سرية من غرف الظلام، لدى احدى المخابرات الدولية ، اوصلته الى هذا المركز ووقفت خلفه لقضاء مصالح واغراض مشبوهة منه، المهم ان يوسف القويري وجد نفسه مع الحشد الذي جلبته سلطات النظام الانقلابي الى سجن بورتا بينيتو كما كان يسمى او الحصان الاسود كما كان يطلق عليه السجناء لوجود تمثال اسود لحصان في هذا السجن، ولم تكن هناك تهمة ولم يكن هناك تحقيق حول ما يريده صاحب الامر بسجنهم، كما لم يكن هناك رابط سياسي يجمعهم، فهم اصحاب توجهات سياسية قبل حكم الانقلاب، يتوزعون بين يمين ويسار، ولكن لا وجود لتنظيم ولا اساس لسجنهم ومع ذلك فما ان انتظم وجودهم في السجن بعد ترحيلهم من مراكز القبض والتجميع، حتى بدات اول خطوات الاهانة والقهر في شكل وجبة يومية من الفلقة يخضع لها كل المسجونين دون استثناء لكبير او صغير او مريض، و دون ان يكون وراءها هدف كذلك الذي يصاحب تحقيقا او يريد اعترافا، فهو عقاب لمجرد العقاب، وكانوا يخرجونهم من الزنازين الى الساحة، وياتي من ادارة السجن من يستعرض عضلاته على المساجين اثناء استراحتهم، ولبراءة وحسن نية يوسف القويري، وقف امام هذا المسئول من مسئولي ادارة السجون يطلب الاذن بالكلام، فتكلم عن غياب أي قاعدة قانونية في حبسهم وتكلم عن غياب أي مراعاة لحقوق الانسان اثناء وجودهم في السجن، لان اسلوب التعذيب بالفلقة واهمال حق من يطلب نقله الى المستشفى، امور تخالف مخالفة صريحة حقوق الانسان، فلم يكن من المسئول الامني من ضباط السجن، الا ان سال الاستاذ يوسف ان يقف في جانب وطلب من الحاضرين ان كان هناك غيره يبحث عن الجوانب القانونية ويريد التنبيه الى حقوق الانسان، وكان يقول ذلك بلهحة ساخرة تحمل وعيدا وتهديدا فصمت الجميع وهم يمدون بصرهم باشفاق للخطا الذي ارتكبه الاستاذ القويري وهو يسأل عن مثل هذه القضايا التي لا وجود لها في سجون الانقلاب ولا خارج سجونه، وامر ضابط السجن باخذ يوسف القويري الى زنزانة منفردة ليقوموا بشرح ما يعرفونه عن القانون وحقوق الانسان، وقضى يومين في زنزانته الانفرادية اعادوه بعدها الى الزنزانة الجماعة مدمى الوجه واعضاء الجسم بسبب ما لاقاه من تعذيب كاد يقضى عليه ليتولى زملاء الزنزانة السهر على اسعافه بما يتوفر لديهم من امكانيات وكان بينهم اصحاب طبابة وفكرة عن العلاج والاسعاف (وهو كلام اعاده عدد كبير من رفاق القويري في السجن واكده لي الاستاذ الديبلوماسي عمر حبيل الذي استقبله في الزنزانة بعد تعذيبه ) لم يطل سجن هذه المجموعة غير عام او عام وبضعة اشهر، لانها لم تكن غير حاكم يستعرض عضلاته، ويختبر قوته في اخضاع هذا الوسط الثقافي ورموزه، وكيف يمكن له وهو الذي كان يفشل في نشر مقال في صحيفة ، ان يضع نعله العسكري فوق جباه اكبر هؤلاء الادباء والمبدعين، وحدث اثناء ذلك مفارقة من المفارقات التي يتميز بها العهد الانقلابي، فقد كان صديق وقريب يوسف القويري، الاستاذ عبد الله القويري، احد من شملهم السجن وشملتهم وجبة الفلقة، وتلقى رسالة وهو في السجن تقول له بان يستعد لتعيينه وزير اعلام في حكومة اتحادية شبه صورية في القاهرة، تتبع اتحاد اسمه اتحاد الجمهوريات العربية، مما قضى باخراجه من السجن قبل رفاقه وصدور قرار بالمنصب، وكان المرحوم يوسف القويري تربطه علاقة صداقة قوية جدا مع قريبه وزميله عبد الله، وكان يمكن ان يتقبل النقد لنفسه وادبه ، ولكنه كان دائما في حالة استعداد للعراك لو احد لمس عبد الله القويري بكلمة سوء او حتى بنقد بريء لعمل من اعماله، ولهذا فانه عند خروجه من السجن كان غريبا ان يجد الناس يوسف القويري غاضبا غضبا شديدا من عبد الله القويري، كثير السخط عليه لانه قبل المنصب، مع انه لم يكن هناك استشارة ولا قبول ، وانما جاءه عرض للخروج من السجن ومن تلقي وجبة الفلقة ليكون وزيرا مهما كان المنصب مجرد ديكور فكيف كان بامكانه ان يرفض، وكان هذا ما يقوله الاصدقاء ليوسف ولم يكن عبد الله موجودا ليدافع عن نفسه، ولكن ما لا يعرفه اغلب الناس ان هناك سرا وراء هذا السخط وهذا الغضب، فقد خرج عبد الله القويري من مصر، بعد مقتل اخ اكبر من اخوته، كان وقع مقتله شديدا عليه، واخذ على نفسه عهدا بانه لن تطأ قدمه ارض مصر مرة اخرى، وهو ما كتبه في احدى رسائله للمرحوم احمد محمد عطية الذي كتب كتابا عنه بعنوان المفكر المبدع عبد الله القويري، وكنت قد كتبت مقدمة لهذا الكتاب الذي احتوى جملة من رسائل القويري الى صديقه مؤلف الكتاب، وجاء هذا التعيين يرغمه على ان يرجع عن العهد الذي اخذه على نفسه وان يذهب الى مصر وهو مجبر على ذلك، ولعله كان حزينا وهو يقوم بتنفيذ الامر بالذهاب، وكان دائما في حالة قلق وحصل خلاف بينه وبينه مسئولي الدولة المصرية الذين ساقوا كلاما عنه للرئيس المصري فامتنع عن استقباله لحلف اليمين، فظل يرتاد مكتبه في وزارة اعلام الاتحاد، دون ان يكون له حق التوقيع او ممارسة العمل لانه لم يقم باداء اليمين القانونية امام رئيس الدولة، حتى انتهى الاتحاد وعاد القويري الى طرابلس، ولاشك ان وراء هذا الموقف رفضا في نفسه وفي وجدانه للمنصب ولوجوده في مصر، ويبدو ان يوسف القويري متاثرا بصديقه وزميله عبد الله القويري عند مجيئه الى ليبيا دخل معه في هذا العهد وتضامن على تنفيذه، ولم يكن غضبه خالصا لوجه قبول القويري بالمنصب، فهو بالتاكيد يعرف انه كان صعبا الرفض وعدم القبول، ولكن الغضب يأتي من ان هذا المنصب جعله يكسر العهد ويخالف الاتفاق بعدم العودة الى مصر.

مقالات ذات علاقة

أمل عمر شنّيب .. أول ليبية تقود السيارة

عائدة الكبتي

مواقف مضيئة من حياة الشيخ محمد رجب عيّاد (1918- 2006م)

محمود الغتمي

كل يوم شخصية ليبية مشرقة (11)… الشيخ محمود صبحي

حسين بن مادي

اترك تعليق