عبد الرحمن الشاطر
هذا بالضبط ما حدث ويحدث لمدينة طرابلس.. اعتقدوا أنهم يريدون تجميلها فإذا بهم يشقون جيوبها ويدمون وجهها ويطمسون هويتها ويقضون على ما تبقى لها من خصوصية. لقد أرادوا أن يكحلوها فأعموها. ليس هذا وحسب بل إن ما يحلمون بتحقيقه من جمال للمدينة هي في غنى عنه لو أبقوا وحافظوا على جمالها القديم والذي سمتها من أجله جريدة “لوموند” الفرنسية في الخمسينيات من القرن الماضي بـ (عروس البحر المتوسط).
ما حدث ويحدث لمدينة طرابلس لم يراع ظروف سكانها فجاءت حملات الإزالة من أجل التطويرعلى حساب مصالح قاطنيها بالاعتداء على استثماراتهم وأرزاقهم وتشتيت شمل أسرهم وبعثرة كياناتهم الاجتماعية. وما صاحب ذلك من ارتفاع فاحش في أسعار العقارات بيعا أو ايجارا. فلماذا هذا كله؟.. هل الجهاز التنفيذي للدولة موكلة له مهمة تسهيل حياة الناس وتحقيق استقرارهم ورفاهيتهم، أم العمل على ارتفاع معدلات الفقر والبطالة والتضخم والتأزم في الشارع الليبي؟
هدمت مبان وانتزعت ملكيات مقدسة وشردت عائلات وقطعت أرزاق ودمرت استثمارات وزادت من حالات الاحتقان الشعبي، وكل هذا بدون مبررات مقبولة .. وبدون سماع رأي سكان هذه المدينة بدعوة مؤتمراتهم الشعبية لمناقشة أدق ما يتعلق بشؤون حياتهم . بل وبدون أن يقدم شرح واف ومقنع من مسؤول يفهم ويحترم معنى المسؤولية أو يدرك أبعادها أو يتصرف من خلال ائتمانه وتكليفه بهذه المهمة . الكل، إما أنه جبن ولم يواجه الواقع وأدار ظهره للجماهير أو أنه تشجع فأدلى بتصريح مملوء بالمغالطات أو بالأفكار القاصرة لتضليل الرأي العام.
ما حدث لمنطقة سوق الثلاثاء دليل على ذلك، فقد هجمت الآليات هجمة شرسة على المحلات كما لو أنه غزو مبرر، تدكها دون احترام لقدسية ملكية المال الخاص ودون احترام لأرزاق وعرق جبين الناس ومواطن عملهم .. وعندما تم التصريح عن الغرض من هذه الإزالة الفورية قيل أنها من أجل إنشاء حديقة ومكتبة!! ياللمنطق الساذج. ألم يفكر المسؤول ما هو وجه الاستعجال في تشييد حديقة أو إنشاء مكتبة؟ بحيث يمكن التضحية بأرزاق الآلاف من المواطنين والتنكيد على الآلاف من العائلات في قمة الاحتفال بالعيد الأربعين للثورة.
في مقال نشر لي بصحيفة الشمس الغراء يوم 28-9-2009م نبهت من احتمال أن يتحول الخطأ إلى خطيئة.. متحدثا في المقال عن الهلال الأخضر الذي يريدون إنشاؤه والذي يشمل فيما يشمل منطقة المنصورة وباب العزيزية وسيدي المصري وخلافها . وقلت أن هذه المنطقة بها ما لا يقل عن مائة ألف مواطن لا يجوز رميهم في الشارع وأن ذلك القرار خطأ رجوت أن لا يتحول إلى خطيئة. ولقد تحول الخطأ بالفعل إلى خطيئة عندما هجمت الآليات على منطقة سوق الثلاثاء.
وفي مقالات سابقة نشرت لي، بصحيفة أويا الغراء ، مع بداية أزمة الإزالة من أجل التطوير تحدثت عن أن ما يحدث هو تحطيم لحياة الناس وتدمير لاستثماراتهم وغلق أبواب العمل أمامهم ومساهمة غير مقبولة في ارتفاع معدلات البطالة والفقر والتضخم.. وقلت أيضا اتركوا طرابلس وشأنها واتجهوا إلى الأراضي الشاسعة التي حبانا بها الله فاستقطعوا مائة كيلو متر مربع وتفننوا في إنشاء مدينة تفوق ما عمل في إمارات دبي وأبي ظبي والشارقة وعجمان وأم القوين مجتمعة . مدينة أكبر من جمهورية مالطا. اذا كان ما حدث هناك من أبراج يبهرهم.
إن مدينة طرابلس بحاجة إلى شئ من الاهتمام والتحسين ولكنها أبدا لا تستحق هذا الهدم. وحذرت من الانجرار وراء مقترحات الشركات الاستشارية الأجنبية لأنها لا تعرف خاصية المجتمع الليبي ولا خاصية الاقتصاد الليبي ولا خصوصية مدينة طرابلس ، كل ما يهمها أنها تقدم لنا مقترحات في غاية الروعة وتقبض أتعابها وترحل ونبقى نحن الليبيين الذين سوف نعاني سلبيات وتداعيات مقترحاتهم .
والجهاز التنفيذي للدولة اثبت قصر نظره فانجر وراء هذه الأوهام التي تبيعها لنا الشركات العالمية وتحمس لها إلى الدرجة التي جعلته يتصرف بعيدا عن القانون والمنطق. فهو مثلا أصدر لائحة بالتعويضات جاءت محبطة ومجحفة وغير منصفة مما دعا العديدين إلى عدم التعاون وبذلك تعطلت المناطق الصناعية التي استهدفت لتحريك عجلة الاقتصاد وخلق مواطن عمل وتعديل الميزان التجاري وخلق اكتفاء ذاتي في بعض البضائع تحقيقا للأمن الغذائي. فلماذا لم يتحمس هذا الجهاز لبناء المناطق الصناعية بنفس قدر تحمسه للتهديم والتخريب؟ في حين لو أنه كرس جهده في بناء المناطق الصناعية لجاءت اجراءات ازالته لمنطقة سوق الثلاثاء على سبيل المثال منطقية ومراعية لمصالح الجماهير في دولة الجماهير.
أيضا أثبت الجهاز التنفيذي قصر نظره عندما اقدم على نزع ممتلكات المواطنين ليسلمها لشركات أجنبية لاستثمارها بالمشاركة تحت غطاء المنفعة العامة. ألا يعرف هذا الجهاز اشتراطات المنفعة العامة؟ ، وهذه مخالفة قانونية لأنها اعتداء على الملكية المقدسية. وان كان بعض المواطنين ممن نزعت ملكية عقاراتهم رفعوا دعاوى قضائية فان الكثيرين منهم لم يفعلوا إما خوفا أو استسلاما ودعوة من أعماقهم ( حسبنا الله ونعم الوكيل).
الآن نحن بحاجة إلى إعادة فتح ملف تطوير مدينة طرابلس بصورة جدية لا غبار عليها.. فان كان الإصرار على الاستمرار في تنفيذ هذا التطوير فليكن بعد إيجاد البديل وليس قبله . وهذه مهمة مؤتمر الشعب العام أن يتأكد من التزام الجهاز التنفيذي للدولة بذلك احتراما للملكية المقدسة واحتراما للمال الخاص واحتراما لمصالح المواطنين والتزاما باشتراطات نزع الملكية لأغراض المنفعة العامة. وتوفيرا للأمن والاستقرار لهم ليعيشوا في وطنهم عيشة كريمة.
لا بد أن يتم التحقق في توفر الشروط القانونية في مشاريع المنفعة العامة ولا يجوز مطلقا أن تنزع ملكية عقار مواطن ليقام عليها مشروع تجاري . هذا خطأ قانوني واعتداء صارخ على الملكية المقدسة وعلى المال الخاص لا ينبغي السكوت عليه.
لا أدري كيف يمكن لمسؤول أن يسوّق ليبيا على أنها تتمتع بمناخ استثماري جيد وبيئة أعمال ممتازة وهذا الذي يحدث يناقض ذلك بل وينسفه نسفا؟
ولا أدري كيف يمكننا أن نتحدث عن سلطة الشعب والقرار بيد الشعب فإذا باستثماراتنا تدمر ربما بمكالمة هاتفية أو قرار ارتجالي غير مدروس.
لا أدري كيف يمكن أن نقول أن الشعب يحكم نفسه بنفسه وهو غير قادر على حماية أمواله وأكل عيش أبنائه من هجمة شرسة لا يدري من أين تأتيه ولا متى تأتيه.
الآن ترسخت قناعة لدى الكثيرين أن نهب المال العام جائز في وقت لا يُحترم فيه المال الخاص بل ويحارب محاربة شرسة.
الآن ترسخت ثقافة (انهب واهرب) و تجارة الصفقة والسوق السوداء .. وهذه معطيات كنا نتمنى أن تمر بخاطر المسؤولين وصناع القرار الذين يتحدثون عن الشفافية ويمارسون خلافها ..ويتحدثون عن الوطن .. ومقصدهم البطن.
الآن ترسخت لدينا شبه قناعة أن المشاريع التي يراد بها تجميل مدينة طرابلس وعصرنتها هي كلمة حق أريد بها باطل . والباطل أن هذه المشاريع مفصلة تفصيلا بدليل أنها لم تطرح في عطاءات عامة.
طرابلس ليست في حاجة إلى أبراج ولكنها بحاجة إلى تسليك مصارفها الصحية ومعالجة التيار الكهربائي كثير التذبذب والانقطاع وصيانة طرقاتها .
طرابلس ليست بحاجة إلى حدائق على حساب سكانها ومصادر رزقهم.
طرابلس ليست بحاجة إلى ميادين رياضة لعبة الغولف ولكنها بحاجة إلى إزالة (الزبالة) التي تملأ شوارعها.
طرابلس ليست في حاجة إلى مجمعات تسوق ولكنها بحاجة إلى مواصلات عامة تحت الأرض وفوق الأرض لمنع هذا الاختناق الذي يتراكم شهرا بعد شهر.
وطرابلس في حاجة إلى مدن شقيقة بجوارها تمتص منها الازدحام.. وتساعدها في حمل عبء التكدس البشري المتفاقم.
فرجاء..رجاء.. اتركوا لنا طرابلس على ما هي عليه .. و (بزنسوا) بعيدا عنها
18.10.2009