بداية السبعينيات، كنا نقطن في خلاء جنوب قرية القيقب لم تصله الكهرباء بعد، لذلك كان الراديو الذي يعمل ببطاريات صغيرة هو وسيلتنا للتواصل مع العالم، وحدث أن تحصل جيراننا على تلفزيون صغير كان يعمل على بطارية سيارة الأوستين القديمة من مخلفات الجيش الإنجليزي، وبدأت علاقتي مع هذا الجهاز عبر حكاية صغيرة ذات فجر ضبابي مفعم بالزغاريد.
انتشرت الأخبار وقتها عن مباراة مثيرة في الملاكمة بين البطل الذي اعتنق الإسلام، محمد علي كلاي، وملاكم آخر لم أعد اذكره. لكن كل ما أذكره أن المباراة كانت في ساعات الفجر الأولى، وضبطت أمي منبه الساعة على توقيت المواجهة، وفي الفجر أيقظتنا بما يشبه طقوس السحور في رمضان، وذهبنا العائلة كلها صوب جيراننا، وجدناهم أمام الجهاز الصغير يكابدون النعاس بعين مفتوحة وأخرى مغمضة. فاز كلاي بالمباراة وانقلبت (براكة الصفيح) إلى احتفال بين تكبير الشيوخ وزغاريد العجائز. في تلك الفترة كانت تلك البرّاكة جزءاً من العالم الإسلامي الذي شعر بقنوط أنه انسحب من صناعة التاريخ منذ هزيمة الأندلس وما توالت بعدها من هزائم، وبدا مأخوذا بالبحث عن أي نصر ولو كان عبر هذا البطل المسلم الأسمر الذي يطرح خصومه من (الكفار) أرضا.
وكان التلفزيون الليبي يبذل قصارى جهده في تلبية هذا الظمأ التاريخي مصاحبا هذا الشغف الشعبي بخطابه العنصري الباحث في أرشيف التاريخ وفي حلبات القمار عن كل ما يعزز أوهامه الكبرى.
بعد فترة من هذه الحمى، منع النظام الليبي رياضة الملاكمة باعتبارها رياضة عنيفة، بينما كان التلفزيون ينقل لنا وقائع إعدام المعارضين بشكل وحشي، حين انتقل العنف المقنن من الحلبة إلى عنف غير مقنن في الشوارع والميادين، بينما الجهاز الأنيق الذي فرحنا به، يحيط هذا العنف “الثوري المقدس” بالأناشيد وقصائد الشعر، وبالهتاف للموت.
لا أخفي تعلقي بالتلفزيون، ولا أنكر متعة هذا التعلق الذي كثيراً ما يجعلني ممتناً لأنني شهدت هذا العصر الذي يجعل العالم برمته يمر أمامي وأنا مسترخٍ في فراشي، لكن هذه المتعة لا تخلو من هاجس شك تجاه هذا الدفق الرقمي البراق، ونوع من الاسترابة تجاه تظاهره بالحياد وشغفه بالاختلاف، زاعماً أن هذا التنوع الشكلي يغطي على تسويق فكرة مهيمنة ومدفونة تحت هذا التعدد الهائل لأساليب العرض، الشأن الذي نكد علي هذه العلاقة التي بدأت ذات فجر ليبي يكسوه الضباب، خصوصا حين أصبحت ليبيا في قلب اهتمام قنوات العالم التي جاءت لتغطي أهم حدث مر به التاريخ الليبي الحديث، ثورة الليبيين ضد إحدى أعتى الدكتاتوريات، وشاهدت عن كثب آلية تعامل هذه القنوات بهذا الحدث، ليس على مستوى التلاعب بالمعلومات وفبركة الأخبار فقط، ولكن عبر التدخل في مسار الأحداث مباشرة وصناعة الخبر.
قبل ذلك كنت قد قرأت كتاب “التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول” للمفكر وعالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، الذي يتوجه بنقد بنيوي تجاه تركيبة هذه الأداة الإعلامية التي غدت مسيطرة على الأذهان، مستنداً إلى بحث مُضنٍ لآليات وخطاب العديد من شبكات الإرسال المرئي العالمية التي لا تنفك تعمل عبر الليل والنهار، وبطرق مستحدثة وخلابة، على صياغة رأي عالمي عام تجاه فكرة موحدة تتجه بأكملها لأخلاقيات السوق والتبرير، حيث هذا البازار العالمي الكبير المشرع لتجميل كل البضائع وتسويقها من المشروبات إلى الجسد البشري، وغزارة المعلومات التي لا تفضي في النهاية لأية معلومة موثوق بها، وحيث الحوارات التي يتهافت عليها الأكاديميون والسياسيون والمثقفون بإجابات مرتجلة لقضايا في ذروة التعقيد والغموض.
عبر كتابه المثير للجدل، والذي تمخض عن بحث سوسيولجي شاق تناول العديد من الأحداث والمؤشرات والبرامج التي تربط هذا الجهاز ــ عبر خضوعه لمن يتحكمون في الخطاب الإعلامي ــ تناول بورديو “العنف الرمزي” الذي ينشأ عبر تواطؤ ضمني بين من يخضعون له ومن يمارسونه، انطلاقا من عدم وعيهما بهذا العنف الناعم الذي يمارسه التلفزيون، ويُشبّه ألعاب هذه الأداة في نقل الخبر، أو توصيل المعلومة، بالحواة والسحرة الذين يجذبون الانتباه نحو شيء غير ذلك الذي يقومون به، وهو الأسلوب الذي يظهر في واجهات الأحداث من إثارة تحاول أن تلهي الأنظار عن الجوهري والأهم ، مشيرا إلى أن عالم الصورة هنا تسيطر عليه الكلمات، فالصورة تمتثل وتروض للتعليق أو التفسير المصاحب، وهذا يدل على أن هناك مفسرين يضعون مفتاح القراءة أمام كل صورة، وهؤلاء المتدربون على المشاهدة يتمتعون بدرجة من الإبداع في مناصبهم الحساسة ولديهم القدرة على جذب الجمهور وتوجيه وعيه وردود أفعاله. “يمكن – يقول بورديو – للكلمات أن تسبب الدمار والخراب: إسلام، إسلامي، إسلاموي، مسلم – هل الحجاب هو حجاب إسلامي أم حجاب مسلم ؟ هل تأثيره يكمن ببساطة في مجرد شكله أم أنه أكثر من ذلك؟ تحضرني أحيانا رغبة في إعادة أخذ “كل كلمة” من كلمات مقدمي البرامج التلفزيونية الذين يتحدثون غالبا بخفة ودون أن يكون لديهم أية فكرة عن خطورة ما يقدمون.. ذلك أن هذه الكلمات تخلق التصورات والتخيلات الخادعة، تحدث الخوف، تؤدي إلى الهلع أو ببساطة إلى تقديم عروض زائفة” ويظل البحث عن السبق المثير هو حلبة وسائل الإعلام التي لا يعنيها ما تثيره من انفعالات وعنصرية وتأجيج عواطف متطرفة في حمى تسابقها على الجمهور، فاللعبة مقودة باعتبارات أخرى أبعد ما تكون عن المعرفة وعن النزاهة الإخبارية. ويصبح فن حجب المعلومات أو لعبة المنع بواسطة العرض هي عماد سياسة هذا الجهاز المسيطر الذي تديره من خلف الكواليس قوى اقتصادية وسياسية كبرى، استبدلت تلك المناشير التي تلقيها من الطائرات على الناس بجهاز أنيق في كل بيت يجعلك تقلب العالم أمامك وأنت مستلقٍ بارتخاء في فراشك، تعتقد أنك تتلاعب به بينما هو يتلاعب بك.
وبالتالي فإن هذا الجهاز يمكن اختصاره في حالة شاملة من الترويج بجميع أنواعه، ترويج ثقافة النظام المسيطر ودافعي ثمن الإعلانات التي يخدمها صحفيون يتوهمون أنهم يعملون باستقلالية تامة، بينما هم الوسيط المعد بإتقان للتواصل المخطط له بين هذا النظام المتعدد اللغات، أو الأيديولوجيا الناعمة، وبين المجال الذي يشكل فضاءً اجتماعياً مشيداً، ووسط هذا الصخب المنظم، تغيب محاولات عدة للخروج عن هذا النظام، لكنها تقف عاجزة أمام سلطة الأوديمات التي يتحكم بها مدى الإثارة ومعرفة أقصر الطرق إلى الغرائز الإنسانية، الشأن الذي أحال التلفزيون من “أداة رائعة للديمقراطية إلى أداة للقمع الرمزي، أداة للتلاعب الأكثر روعة”.
___________________