قراءات

رواية “التبر”.. ضد الجميع من أجل الحرية

موقع الكتابة

ربما يصح أن نعتبر رواية “التبر” للروائى الليبى الكبير إبراهيم الكونى، والتى صدرت فى طبعة جديدة مؤخرا من الدار المصرية اللبنانية، عنوانا بارزا فى مسيرته الأدبية، وترجمة بليغة لعالمه الخاص، الذى يصنع من الصحراء مشروعا للحكى، ظاهره البساطة، وباطنه التساؤلات والأفكار الكبرى، حيث الإنسان فى مواجهة نفسه ووواقعه وأحلامه وهواجسه وقدره وقدرته، وحيث تمتزج الأساطير بالوقائع، وحيث البشر والجان والحيوان فى سفينة نوح وسط أمواج عاتية، وحيث لا توجد لوحات فى الحياة لا تحمل توقيع وبصمة القدر.

رواية التبر للروائي إبراهيم الكوني
رواية التبر للروائي إبراهيم الكوني

صاحب روايات “نزيف الحجر” و “واو الصغرى” لا يعرف فقط البشر الذين يحكى عنهم، ولكنه يعيد طرح أسئلته الخاصة من خلالهم، ليست “التبر”، كما يعتقد القارئ المتعجل، مجرد تعبير عن حكاية حب وصداقة بين شاب من الطوارق، وذلك الجمل الأبلق الرائع الذى أُهدى إليه وهو فى صباه، ولا هي نوع من الهوس والولع بالحيوان، وليست بالتأكيد مجرد تنويعة على نغمة التواصل مع الكون بكل مخلوقاته من حيوان ونبات ومكان وزمان، فى الرواية كل ذلك، ولكنه المستوى الأول فقط، فى مغزاها الفلسفى الأبرز، تتغنى “التبر” بحق الإنسان فى أن يشترى حريته، وأن يتخلص من القيود، أن يجد نفسه أخيرا، حتى لو تطلب الأمر أن يكون فى مواجهة العالم كله.

أُوخيّد، بطل الرواية، لم يكن شخصا عاديا، كان يبحث عن شئ ما فى علاقته بالجمل الأبلق، تعامل معه كجوهرة ثمينة، لا وجود لهذه السلالة من الجمال النادرة، شيئا فشيئا، تتم أنسنة الجمل، يتحول رغاؤه الى أصوات معبرة يفهمها أوخيّد، يقرأ لغة عينيه، يعرف كيف ومتى يتألم روحيا وجسديا، فى كل مرحلة يكتشف فى الجمل شيئا جديدا، وكلما ابتعد أوخيّد عن الإنسان، وكلما نبذته القبيلة، التمس فى الجمل بديلا، حتى نصل فى النهاية الى ما كان يطلبه أوخيّد بالفعل، وكأنه اكتشفه من خلال هذا الصديق فقط :” الأبلق أنقذه من القيد. الأبلق رسول، الأبلق روح بعثه الله لكى يحرر قلبه المقيد بالأصفاد، لولا الحيوان الطاهر لاقتفى أثر إبليس ولتخلّف عن السفينة ولهلك مع الهالكين”.

“التبر” فى بُعدها الأهم والأعمق هى قصة تمرد مدفوع الثمن، رجل جعل حريته واختياره فى مرتبة أعلى من الزوجة والولد والقبيلة ومن الذهب، ولم يكن الجمل الأبلق سوى قنطرة عبور الى التفرد والإختلاف، بدلا من أن يصبح أوخيّد ذرة من رمال كثيرة متشابهة، فى صحراء بلا ضفاف، اختار أن يكون عاصفة تصنع أسطورتها وحكايتها : ” لم يبع أحدا سوى قيوده، تخلّى عنهم طائعا كى يسترد حياته مع الأبلق، كان يسعى لأن يخلص .. يتخلّص، ي.ت.ح.ر.ر، ولكن من يفهم هذا الهراء؟ من يصدق هذه الأساطير”، تلك هى مأساة أوخيّد كبطل تراجيدى، فى حكاية ابن الطوارق الشاب مع جمله مغزى صوفى، هروب من عالم المادة والإنسان وضغائره، تخلّى عن الزوجة والولد والقبيلة والسلطة، بحثا عن عالم باتساع الصحراء وسماواتها، ربما يكون خطأ أوخيّد التراجيدى فى أنه أودع قلبه كائنا أرضيا هو الجمل، يستطيع أن يدمّره الإنسان، بينما قال له حكيم الرواية ومتصوفها الشيخ موسى:” لاتودع قلبك فى مكان غير السماء”.
يعتمد إبراهيم الكونى فى بناء لوحته على المقابلات الدالة، الواحة فى مقابل الصحراء، والولد والزوجة وعار القبيلة فى مقابل العراء والأفق والفضاء، الظلمة والسقف المهدد بالإنهيار والكائن المجهول الذى يهدد أوخيّد فى كوابيسه، فى مقابل الهدوء والسكينة والصمت، أما الصحراء ففيها علامات على الطريق، وفيها علامات وإشارات تمثل لغة الألهة، ” فكم هى عارية، وكم هى خفية هذه الصحراء”، “سكينة فى الصحراء، وسكينة فى القلب، ماء عين الكرمة يغسل الجسد، والصحراء وحدها تغسل الروح، تتطهر، تخلو، تتفرغ، تتفضى، فيسهل أن تنطلق لتتحد بالخيال الأبدى. بالأفق، بالفضاء المؤدى الى مكان خارج الأفق وخارج الفضاء. بالدنيا الأخرى. بالآخرة، نعم بالآخرة، هنا، فقط، هنا، فى السهول الممتدة، فى المتاهة العارية، حيث تلتقى الأطراف الثلاثة: العراء_ الأفق_ الفضاء لتنسج الفلك الذى يتصل بالأبدية، بالآخرة”.

يتعلم أوخيّد من الأبلق، يكتشف معه حبه للحرية، ويقوم هو بدوره بتعليمه خلاصة ما يعرفه :” اصبر. اصبر. الحياة هى الصبر، ألم نتفق؟ لو صبرت نلت الشفاء. أعرف أن الجن قوى، ولكن الصبر أقوى من الجن.”، “ماذا تفعل؟ توقف. الهرب لن يفيد. مم تهرب؟ هل تهرب من نفسك؟ هل تهرب من قدرك؟ الشجاع لا يهرب من نفسه. الحكيم لا يهرب من قدره، إذا هربت منه تمكن منك أيها الأبله، وتعلّم أوخيّد من الشيخ موسى، المتصوف القادم من المغرب، أنه لابد أن يدفع ثمنا مقابل البحث عن الكمال والجمال، وأنه لايمكن أن تشترى العافية بغير شقاء، عندما أصيب الأبلق بالجرب، خاض أوخيّد معه تجربة البحث عن العشب السحرى ، عشب آسيار الذى يمكن أن يصيب المرء بالجنون، اختلطت دماء أوخيد بدماء الابلق، فلم يعد ممكنا أن يتخلى عن الجمل إلا بأن يتنازل عن نفسه، لذلك كله قرر أوخيّد أن يطلق زوجته، وأن يترك ولده، من أجل أن يستعيد حريته، نسى أن يفى لإله التانيت بالنذر بعد شفاء الأبلق، هرب مع الجمل، فطارده قدره، مزّقه جملان يتجهان فى طريقين متعاكسين، انتقاما من قتله لزوج طليقته الجديد، الذى ساومه على الأبلق، والذى أشاع أنه باع زوجته بالتبر، بينما تنازل هو عن زوجته وطفله من أجل حريته، من أجل أن تتخلص روحه من قيودها.

وإذ يبدو الإنسان خارقا إذا أراد، وإذ تبدو المعجزات ممكنة فى الصحراء، فإن رواية “التبر” فى أحد أجمل مستوياتها، ليست سوى هجرة صوفية بعيدا عن كل ما يمكن أن يستعبد الإنسان، حالة من التخلى الضرورية حتى تصعد الروح، بعد أن يتمزق البدن، وبعد أن يتحول الألم الى قربان، التبر الحقيقى فى هذه الرواية هو أن تعرف نفسك، وأن تدفع ثمن حريتك، وأن تواجه القدر بلا ندم أو خوف، وأن تستوعب إشارات الحياة، التى ليست سوى أقدارها المخفية، ما يلمع فى هذه الرواية ليس الذهب، ولكنه الإنسان، حامل الأمانة الأبدية.

مقالات ذات علاقة

بنغازي تقود أميركا إلى الحافة

مهنّد سليمان

سعيد المحروق.. الرجل الذي خرج وحيداً يحمل سيفه على عاتقه، ليحارب رياح القبلي

المشرف العام

علي الزويك .. القائل بالروح عند عتبة عيادته

صلاح عجينة

اترك تعليق