مصطلح انقلاب عرف خلال النصف الثاني من القرن المنصرم.. حين كانت الانقلابات التي يقودها العسكر على أنظمة الحكم التي تعتبر عندهم أحد رموز الرجعية.. ذاك المصطلح المرعب حينها.. بينما يصف من يقومون بالانقلاب أنفسهم بالتقدميين.. في المعتاد ما يشاع يكون مفاده أن الانقلاب هو لغرض الإطاحة بالنظام الرجعي الحاكم وبعد ذلك يتم تشكيل مجلس عسكري مؤقت يقوم بتسيير شؤون البلاد بشكل مؤقت يفترض بعدها أن يسلم الحكم لسلطة مدنية يختارها الشعب.. لكن ما يحدث على أرض الواقع غير ذلك.. حيث يبقى العسكريون على رأس السلطة بعد أن يتخلصوا من كل المعارضين بمن فيهم بعض من قاموا معهم بالانقلابات وارتفعت أصواتهم بإنهاء المرحلة الانتقالية وترك الشعب يقرر مصيره.. حقيقة لا نريد الدخول هذه المتاهات التي لها أول وليس لها آخر.. فقط ما أريد التنويه له هو أن هذه الانقلابات كانت تتم على حكومات الدول.. لكن أن يحدث انقلاب داخل مدرسة فهذا أمر طارئ لا يمكن أن يخطر على بال ذي لب.. فهذه المؤسسات تعنى بالتربية والتعليم وليست مساحة لمثل هذه المناكفات والصراعات.. بيد أن ما كان يحدث في تلك الفترة العصيبة كان تحت شعار الثورة والثورية.. وأن كل المؤسسات يجب أن تطالها رياح الثورة ولا بد أن تؤمن بالفكر الثوري.. عدا ذلك فهو يعد خيانة عظمى يستحق صاحبها العقاب العادل المتمثل في التصفية الجسدية في الميادين الرئيسة وقاعات الملاعب وأيضا ساحات الحرم الجامعي.. وفي أهون الأحوال السجن لمدة مفتوحة.. قد تستمر عقودا من الزمن دون محاكمة.. وهناك من يلوذ بالفرار قبل أن يقع في الشرك لكن الخناق والتضييق يلاحق ذويه وأقاربه.. المدارس كانت في تلك الأزمنة تشهد ما يشبه هذه الانقلابات.. لكنها كانت تحت مسمى آخر وهو في الحقيقة أسوأ من الانقلاب.. كان المسمى هو زحف.. طبعا ليست المدارس فقط.. كل المؤسسات.. حقيقة المصطلح غير لائق وفيه نوع من الاستخفاف والاستهانة بمن يتم تحريضهم للقيام بهذا الزحف الذي هو صفة لنوع من المخلوقات.. تلك التي وصفت في القرآن الكريم بأنه تمشي على بطنها.. وعلى ما يبدو أن الأمر كان كذلك.. فلا يمكن أن يقوم بتلك الأفعال إلى من كان بالفعل يمشي على بطنه وعيناه تلامس الأرض فلا يرى ما يدور فوق رأسه.. أو هكذا يفهم من هذا التشبيه.. فما يحدث هو أن من كان يجري هو في الحقيقة لا يدري.. بعض المدارس تم تغيير مدرائها بطريقة الزحف.. حيث تقوم بعض العناصر الثورية بالمدرسة بتحريض المدرسين وكذلك الطلبة على الإطاحة بالإدارة على اعتبار أنها لا تواكب المد الثوري ولا تتماشى مع أفكار وأطروحات المجتمع الجماهيري.. ويتم بث الحماس ورفع الشعارات وإلصاق التهم بتلك الإدارة حتى يتم تخدير من تأخذهم أصداء الخطاب وقرعات الطبول فتحدث الفوضى ويعتلي من تسببوا بهذه الفوضى تلك المناصب في عديد المؤسسات.. إذن أن هذه صورة تتكرر في الكثير من المؤسسات الخدمية والإدارية وغيرها.. وبالتالي يضمن ولائها للنظام من خلال الأشخاص عبر ولائهم الكامل دون التركيز على ما يحملون من مؤهلات وكفاءة.. في أحد السنوات شهدت الإدارة العسكرية بالمدرسة شيئا من الفتور ولم تعد المدرسة تابعة عسكريا للمعسكر القريب.. معسكر الزاوية.. بل صارت تتبع ما يعرف بالتجييش.. وهم في الغالب عسكريون كبار السن ولا يكترثون كثيرا بالروتين العسكري المعروف.. هذا الوضع أتاح للإدارة المدرسية فكرة إحياء وإعادة تسيير الأمور بالشكل التقليدي المعتاد بعيدا عن الروتين العسكري.. أي أن الضبط يمارس من الإدارة المدنية كما كانت في الزمان الأول إثر عدة تقلبات وتغييرات في الإدارة المدنية بعد أن تسلل إليها الروتين العسكري من خلال تسليم الإدارة لما يعرف بالضابط المعلم.. وهم في الأصل كانوا مدرسين تم تدريبهم لفترة محدودة منحوا بعدها رتبة عسكرية.. هي في الغالب ملازم أول.. لكن لم تستمر الفكرة وعلى ما يبدو أنها لم تؤت ثمارها.. فكانت العودة للنمط السابق خاصة بعد أن خفت حدة الروتين العسكري بوجود العسكريين التابعين للتجييش الذين كانوا يتواجدون بأعداد قليلة.. أيضا يجدر بالذكر أنه حتى التقيد بالزي العسكري لم يكن ملزما.. الغالبية صاروا يحضرون للمدرسة بملابسهم المدنية.. وفي نفس الوقت صار هناك نوع من الضبط والتشدد خاصة على الحضور والغياب وكذلك متابعة الواجبات المدرسية وحتى الاطلاع على الكراسات لتقييم مدى الاهتمام لدى الطلبة.. هذا الأسلوب يبدو أنه لم يرق لبعض الطلبة وخاصة من المعيدين الذين ظنوا بأن خفة حدة الروتين العسكري ستجعلهم يشعرون بشيء من الارتياح جراء الضغط الذي عانوه عبر سنوات.. بعضهم منح سنة استثنائية.. وهي تعني أن الطالب أعاد السنة أكثر من مرة ويمكنه إعادة السنة من جديد.. وهم يريدون فقط عبر هذه السنة الاستثنائية فقط حضور الامتحانات.. فبعضهم قد انخرط في بعض الأعمال لشعوره بأن الوقت صار يمضي بسرعة ويريد التعويض عن ضياع سنوات من شبابه.. هناك حتى من التحق بمركز التكوين المهني وفي نفس الوقت يريد الاستمرار في الدراسة ولكن دون تقيد بالحضور اليومي.. وهكذا يحصل على شهادة التكوين المهني وفي نفس الوقت يشارك في الامتحانات عله يحصل على الشهادة الثانوية.. ومن ثم يمكنه الالتحاق بالعمل بشهادة التكوين ويواصل الدراسة بالجامعة أو المعهد العالي بالشهادة الثانوية.. وفي الحقيقة جل الطلبة في العموم لم يكونوا قادرين على التكيف مع الروتين الجديد في الوقت الذي كانوا فيه يتحملون الضغط العسكري رغما عنهم.. صار التبرم هو الصفة الغالبة لدى العموم.. ربما يرى البعض أن العودة لعملية ضبط الأمور عبر الإدارة المدنية يحتاج لنوع من التدرج.. وبالفعل في السنوات اللاحقة تكاد تكون اختفت كافة الملامح العسكرية بالثانويات.. ذات يوم قرر مجموعة من الطلبة قفل بوابة المدرسة وعدم السماح بالدخول مطالبين بتغيير الإدارة.. وللأسف تعرض المدير للإهانة من قبل بعض المشاغبين.. مما اضطره لترك الإدارة بل والمدرسة بأسرها.. وتم تكليف معلم آخر بمهام الإدارة بحيث لم تعد مظاهر التشدد التي فرضها الإدارة السابقة ملزمة.. كان المشهد فوضويا بمعنى الكلمة.. وحمل معه إشارات سالبة بأن الإدارة التعليمية بل والعملية التعليمية كلها تسير إلى انحدار.
المنشور السابق
المنشور التالي
مقالات ذات علاقة
- تعليقات
- تعليقات فيسبوك