ذات سهرة تلفزيونية في بنغازي، كان النقل مباشراً، نهايات السبعينات لا يمكنني تحديد تاريخ هذا الحدث على وجه الدقة، لكنني كنت طفلة تتقافز على أنغام اللحن الذي بدأ يتسرب رويداً رويداً وينساب ليصل حتى مشارف شغاف القلب ويرابط عند تخوم الروح الأمامية تماماً…
منطقة الصابري كانت تعج بالفرح تلك الليلة، انتبهنا أنا والعمة والجدة إلى هذا النسق المختلف من النغمات غير المعتادة، شعرتُ بأن الجميع حولي في انسجام تام، أثاث الغرفة بسيط ومتناسق، يلفت جهاز JVC التلفزيوني الأنظار ويتصدر المكان بجدارة موغلة في القدم، كدتُ أنسى ذلك الحدث وأنهمك في القراءة بعيداً عن المكان، أعداد غفيرة من مجلات الأمل التي جلبتها لي عمتي أخذت تتكدس حولي ويسيل لها لعابي لولا تلك الالتفاتة غير المحسوبة لحظة دخول المطرب الشاب الذي سبقته موسيقاه إلى المسرح وفعلت فعلها في النفوس، أنا توقفت عن القراءة، عمتي توقفت عن مزج الشاي لجلب رغوة كثيفة في الأكواب و جدّتي عادت من عوالمها الخفية لتتحسس علبة “المضغة” وتزيد جرعة الكيف المعتادة، بدأ الرجل في الغناء معلناً امتلاكه لأثير بنغازي كله بلا استثناء.
”لا نعاتبك لا نلوم.. لا نقول أه…“
يجد الشاب متعة كبيرة في تطويع النغمات وكانت الكلمات تتلوى تحت سياط المتعة عند كل أه تخرج من تحت لسانه وكان صوته يحمل مزيجاً غريباً. ”ذلك الصوت الجميل كأنه قد من إحدى الجبال البعيدة“ (قالت عمتي). مسحة حنان غريبة تحد من قسوة هذا الصوت الرجولي الرخيم.
ضجيج “الصابري” انسحب عند نقطة معينة من الغناء، صوت الباعة وضجيج السيارات تلاشى، جيران عمتي البحارة توقفت حناجرهم عن التغني بشباك البحر وقوارب الصيد والتغزل بعرائس البحر، أية عذوبة خبأها هذا الرجل في صوته ونغماته وحتى في ثيابه حتى جعلنا نشتهي أن لا ينقطع تلك الليلة عن الغناء، همستُ الجدة غائبة في غيم النغمات النقية: ”ما اسم هذا المطرب؟“.. ردتْ عمتي: ”محمد أو حسن أو لا أذكر“…
تلألأت عينا الجدة عند مقطع الأغنية: ”عاتبت فيك كثير.. ما لقيت في حبك علامة خير“.. قفزتُ إلى مكان بعيد وتركت الجدة تتلوى من سيل الذكريات وقد بدت نائية وباهتة كأن صورتها تتراءى من خلف بلورات ماء كثيرة وكثيفة.
أخذت كلمات الأغنية تطاردني حتى هذه اللحظة من العمر. لا نعاتبك لا نلوم لا نقول أه… نويت نتركك بينك وبين الله.
(واحة النصف الأخر)