المقالة

ما عادت الأرض «بتتكلم عربي» يا سيّد!

الوطن العربي
الوطن العربي

مات الواقفون عليها كالأشجار. ماتوا على رملها الجاف تحت رمق السماء.. غاب المطر كثيراً في

المواسم يا “سيِّد” واحترقت الغابات، والأنهارُ عادت من صدٍّ إلى ينابيعها الأولى وقد فقدت في طريقها أحلام الضفاف. لا شيءَ غدا ممكناً للحياة، لا الأرض التي وثقت في الإنسان، ولا الإنسان الذي فقد ثقة الأرض!

ما عادت الأرض “بتتكلّم عربي” يا سيّد.. الأرض التي أنشدتها كثيراً في القاهرة وعواصم اللاءات الأكيدة، وناشدناها أن تبقى، حتى لا نفقد الضفاف، لكنّنا فقدنا الضفّة والقطاع خلف هدير المذياع، وقد سقط القناع وغابت الأرض في القصائد الجوهرية للفلسطينيين، وفي قصائد المنابر العربية، في بيروت ودمشق وبغداد وعمّان وطرابلس وصنعاء.. وفي الإعلام الرسمي بكى المذيع واستقال الزعيم حين الحرب التي فصلت بين الأخوة الأعداء وكانت حربنا التي وضعتنا في المحكّ، بين أن ننتصر أو نموت!

<<الأرض بتتكلم عربي وقول الله، إن الفجر لمن صلّاه، ما تطولش معاك الآه، الأرض بتتكلم عربي ومن حطّين، ردّي على قدس فلسطين، أصلك مَيّه وأصلك طين، الأرض بتتكلم عربي..>>

مقدّمة واحدة من الأغنيات الوطنية التي كان لها مفعول السِّحر في التعبير عن القومية العربية وفي إشعال حماس الجمهور خلال حرب الاستنزاف ما بين نكسة يونيو 1967 وانتصار أكتوبر 1973 من خلال كلمات بسيطة نابعة من القلب كتبها الشاعر “فؤاد حدّاد“، ولحنها بمهارة وقام بغنائها أيضاً الموسيقار “سيّد مكاوي“، فاستحضر حدّاد وهو – مؤسس شعر العامية الملحمي في مصر- في باقي كلمات الأغنية التاريخ العربي ليكون حافزاً للمقاومة وعدم الاستسلام للهزيمة، فيما يتوقّف الشاعر “جمال بخيت” أمام الأغنية، ويقول: بصيرة الشعراء تلك التي تتجلّى كأعظم ما يكون التجلّي في تجربة فؤاد حدّاد هي التي أنتجت لنا أيضاً هذا العمل العبقري «الأرض بتتكلم عربي»، والذي كان يشبه الطلقة الأولى في حرب استعادة التوازن بعد هزيمة 67.. وأشار بخيت إلى أن الأغنية قُدِّمت داخل برنامج إذاعي شعري كتبه فؤاد حداد بعد النكسة مباشرة، وكانت هذه الأغنية هي أول ما كتب من صفحات هذا البرنامج الذي صدر بعد ذلك في ديوان سمّاه «في نور الخيال.. ومن صُنع الأجيال في تاريخ القاهرة»، وكان الديوان وأغنية «الأرض بتتكلم عربي» هما النبوءة الأولى بانتصار أكتوبر 1973 الذي تنبّأ به حدّاد، حيث تحدّث على اعتبار أن الهزيمة جولة في معركة نضال طويل، وأن الانتصار في هذه المعركة سيكون في صفّنا لا محالة، وهو كان يرى النصر قادماً من عتمة الهزيمة، وفي موقع آخر يسمع أقدام الهزيمة وسط صخب الاحتفال بالنصر. واللافت أن حدّاد ومكاوي تعاونا في العديد من الأغنيات الوطنية ومنها «ازرع كل الأرض مقاومة» و«أول كلامي سلام»، وديوان «المسحراتي» الذي لحّنه وغناه سيد مكاوي ليصبح أجمل الأعمال لتلك الشخصية الرمضانية التي توقظ الناس للسحور.

وبعد تلك الأزمان المجيدة، الطالعة بعبق الأرض، بأشعارها وأغانيها، وزحف الجنود فوق بساط الأرض وروابيها.. لا مسحراتي في هذا الزمان ولا حكواتي، فقد نام العرب في نهاية الحكاية وصار التاريخ نسياً منسياً بين الحرب والوباء.. والأرض التي كانت تتكلّم عربي، أصبحت مرتع اللغات، بل ضاع الكلامُ العربي بين الرجال على أبواب الحانات والجبهات، والقليلون من شعراء الأمّة ومثقّفيها بقوا شهوداً على النكبات والخيبات، فكتبوا على أبواب المُدن مرثية الوطن الغائب في الأناشيد، وصباح الحرب الأخيرة كان يكسوه الرماد..

كان الوطنُ كبيراً من المحيط إلى الخليج، والأرض الخصيبة بالقيم تتكلّم عربي أمام كُل لسانٍ هجاها من مستعمرين حطوا رحالهم ثم رحلوا في الأرض كقطيع الماعز البرّي يجتازون جبال الأوراس في الجزائر والجبل الأخضر في ليبيا والجولان في سوريا وجبل الشيخ في لبنان، ومن هدايا الجبال للعاشقين ظل قاسيون شاهداً في الأربعينيّات على انتفاضة ساحة المرجة في دمشق بنشيد الشام الذي انتصر على الفرنسيين.. وفي بيروت والقاهرة وبغداد وعمّان، كانت الأرض نشيداً صاخباً تحت أقدام المقاومة، والصوتُ يعلو “الأرض بتتكلم عربي”.

الأرض التي غنّيت لأجلها يا “سيّد” صارت خرساء وبلا رجال، نصفها نفط للحرير والقصور والجواري والعبيد، ونصفها دم في موطن الرجال في غزّة والمُدن المقطوعة.. النفط يا سيِّد النشيد ذهب للمستعمرين في عواصم البورصة، والدم يا سيِّد الحكاية البصيرة يسفكه المحتلّون في الأرض المعزولة.. هذا هو حال العرب الذين أخرسوا الأرض وكتموا أنفاسها فما عادت تتكلّم في نشيدك العالي ولا في كل الأناشيد التي صاحبت معارك الكرامة العربية وأشعلتها من مراكش للبحرين. العرب الذين يرقصون اليوم في حانات عواصمهم على إيقاعات الوهم والخيبات، وقد أداروا ظهورهم لفلسطين وتركوا نزيف الدم في غزة يملأ الأرض حتى حدود العرب السليبة، لن يكونوا سوى عبيدٍ طائعين للتطبيع وراكعين رؤوسهم في الرمال كالنعام.. لكن الدم الذي يسقي أشجار الزيتون في فلسطين، سيكون الأغلى ثمناً في الزمان من نفط الذين باعوا الأرض واشتروا الهوان.


بوابة الوسط | الجمعة 26 أبريل 2024م.

مقالات ذات علاقة

من غرائب جنوب ليبيا (كاف الجنون) (4) الخاتمة

عبدالعزيز الصويعي

التلفزيون الليبى: خمسون عاما

سالم الكبتي

ثقافة الطاعة

محمد دربي

اترك تعليق