في نوفمبر 1920 تأسست أول إذاعة فى العالم. ثم في العام 1926 عرف العالم التلفزيون. اخترعه الإنجليز الذين كانت الشمس لا تغرب عن امبراطوريتهم. انطلق ببساطة في 27 يناير من ذلك العام البعيد وبعد اثنين وأربعين عاما من هذا الاختراع الذى تطور وأضحى من علامات الحياة المعاصرة دخل الجهاز الصغير إلى بيوت الليبيين يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من ديسمبر 1968. كانوا يحتفلون في ذلك اليوم بعيد مولد دولتهم السابع عشر فصارت الفرحة فرحتين متلازمتين.
مسيرة طويلة قطعتها الإنسانية في طرق أغلبها ملتوية من الحروب والأزمات والصراعات والكفاح، وجملة من الأحداث الخطيرة المتلاحقة بلا نهاية. لكن رغم هذا برز خلال هذه الآلام والمتاعب مايضيء. إنه الجانب الآخر من حياة العالم الذى يسير بقوة متناهيه: اختراعات متجددة وعلوم واكتشافات لصالح خير الإنسان. جامعات ومنارات هناء. ظهرت أيضا الاتصالات اللاسلكية وتطور الطب والاقتصاد والزراعة والفكر والفن وتقدم الإنسان. تأسست الإذاعات وظهرت آلات التصوير الضوئية وعرضت أفلام السينما وظل هذا العالم رغم الأحزان يتوهج في الليل والنهار وينطلق.
وعبر هذه المشاوير كان الليبيون أيضا في ديارهم يقطعون رحلة شاقة مع الحروب ومواجهة الاحتلال وفقد الأحباب والمرض والأمية. لاوقت للإذاعة. لا مجال للتلفزيون. كانت الحروب مظهرا مدمرا وكريها للحياة فوق الأرض. ثم بدأوا بعد الحرب يشيدون وطنهم حجرا حجرا وجذبتهم صور الحياة العصرية الجديدة فعرفوا الراديو. كان معهم في البيوت والمقاهي والأكواخ والأندية والسيارات ووصل إلى النواجع البعيدة. ذلك الترانزستور العجيب إضافة إلى أنواع أخرى مختلفة الأحجام.
وصلت إليهم الإذاعة في شكلها الوطني منذ انطلاقتها فى يوليو 1957 وكانت قبلها بفترة بعيدة إذاعات أنشأها الإيطاليون تنقل صوتهم وثقافتهم وفكرهم الفاشى. كان ذلك قبيل الحرب العالمية الثانية ولم يتماهَ معها الليبيون تماما سوى القلة منهم ثم فى زمن لاحق انطلقت محطتان محليتان قصيرتا المدى فى طرابلس وبنغازى حاولتا قدر جهدهما وجهود عامليهما نشر الوعي والتنوير بين الناس. كانتا فى الواقع تمثلان تجربتين مهمتين للعمل الإعلامي والإذاعى وتاريخه ونشأته في ليبيا.
وبعد ذلك حدثت المفاجأة الجديدة. فقد خرج من رحم الإذاعة الليبية التي ضمت الكثير من الخبرات والكفاءات الوطنية.. خرج التلفزيون الليبي وظل رديفا لشقيقته الكبرى يساند دورها ويسهم إسهاما ممتازا في تنمية الوعي والعقل والوجدان لدى المواطنين على حد سواء.
أضحت الصورة هنا أمام كل العيون المفتوحة وظلت تشد الانتباه في كل مكان وربما تجاوزت تأثير الإذاعة وصارت الدنيا على وجه العموم تضمها لقطة واحدة في جميع البيوت الليبية ترى إليها الأسر وتتفاعل معها من كل الفئات وتقف بنفسها على تفاصيل حركة الكون الذي نعيشه إضافة إلى البرامج والمواد والأعمال الفنية والإخبارية والوثائقية وكل شيء كان يشاهده المواطن ببصره منذ حدوث المفاجأة وباتت الصورة التي يعالجها الذوق والإخراج والمهنية ملكا للجميع. من هنا بدأت رحلة التلفزيون الليبي.
كانت قد سبقته في الرحلة بعض ديار العروبة. فلقد بدأ البث التلفزيوني في العالم العربي منذ خمسينيات القرن العشرين لم تكن ثمة قنوات أو محطات خاصة كما هو الحال اليوم. لم تكن ثمة قنوات فضائية. كانت أغلب المحطات التلفزيونية تشرف عليها الحكومات التي رعت هذا الإنجاز. كان البث التلفزيوني يتواصل عبر المحطات الأرضية تلك الأعوام.
ظل المواطن العربي قبل أن يدركه التلفزيون يرتبط بالصورة من خلال معرفته بالسينما وصالات العرض التي تمتليء بها المدن العربية. شاهدها صامته وناطقة. وتعرف على الممثلين وأحدث الأفلام عربية وأجنبية واستأثرت بمتابعته واهتمامه وكان يردد مايشاهده ويرويه بإعجاب لأصدقائه بل ويحاكى أبطال تلك الأفلام في تجاربهم التمثيلية. كانت السينما تعرف بالفن السابع لدى النقاد وهو فن آخر له مبدعوه ورواده أيضا. في المنطقة منذ عرض أول فيلم في العالم في يناير 1914. في العراق عند ضفاف دجله كانت البداية. انطلق من هناك أول تلفزيون عربى عام 1956 ثم في لبنان عام 1959 وفى 23 يوليو 1960 انطلق في مصر وسوريا أيام الوحدة بينهما. كانت محاولات في مصر عام 1951 لكنها تعثرت ولم تستمر.
وفي المغرب عند شواطيء الأطلسى انطلق التلفزيون عام 1962 ثم فى الكويت عام 1963 وبعدها فى تونس الخضراء التى أحرقت الأكباد وقتها عام 1966 والأردن عام 1968 ثم كنا في ليبيا ثامن دولة عربية في الترتيب التلفزيوني العربي. لم تكن ليبيا البلد النامي نشازا في هذا السياق. كان بلدا يطلق عليه صندوق الرمال المغلق فتواصل مع العالم واستفاد منه. امتدت الخطوات في ليبيا بعد الاستقلال وهي تمتليء أحلاما وحماسا وظلت تصارع الفقر والحاجه والجوع لتفتح المدارس والمعاهد والجامعات وتوفد البعثات إلى بقاع العالم ووضعت خطط التنمية للاستفادة من عوائد البترول الذي خرج من الأرض الليبية بعد الاستقلال بعشرة أعوام.
كانت الضرورة والزمن تستدعيان بعد نمو الدولة وتطورها وتحقيق الرخاء لأبنائها أن يتكون شيء اسمه التلفزيون الليبي. كانت هناك أيضا الصحف والإذاعة ووكالة الأنباء ومصادر المعلومات والمكتبات والجامعة مراجع للوعي والفكر الذي يبني الإنسان روحيا وعقليا ونفسيا. قامت هذه المؤسسات بدورها وفقا للمتاح وقدمت للوطن المواهب الفخمة واستمرت.
وفي سياق الاستعداد المتواصل للانطلاق التلفزيوني ووضع اللمسات المهمة للتأسيس اختيرت وأعدت الاستديوهات الخاصة بالبث في مبنى الإذاعتين بطرابلس وبنغازي وزودتا بالمعدات الحديثة والأجهزة الفنية وآلات التصوير وسيارات النقل الخارجي وبنيت محطات للتقوية في بعض المناطق شرق البلاد وغربها لكي يصل الإرسال نقيا وواضحا لكل مشاهد فيما أوفدت وزارة الإعلام والثقافة راعية التأسيس والداعمة له مجموعة من فنييها أصحاب الخبرة في الإذاعة المسموعة لدراسة أصول الفن التلفزيوني وتلقي الدورات التدريبية في بريطانيا وأمريكا ثم في ألمانيا وفرنسا وعادوا بخبرة متكاملة وكانت ثمة دورة سريعه نظمتها الجامعة الليبية بنغازي صيف 1968 للتدريب من مخرجي ومنتجي التلفزيون إضافة إلى دورة تمهيدية في قناة الملاحة التابعة للقاعدة الأمريكية في طرابلس وأسهمت المشاركات النسائية بجهدها بدخول المرأة الليبية إلى هذا المرفق وحققت النجاحات منذ البداية بتشجيع المسؤولين والزملاء.
يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من ديسمبر 1968 في تمام الساعه الثامنة مساء كانت نقطة الانطلاق وكان هناك الترقب والحرص وبعض الخوف من الذين يخرجون هذا الوليد الليبي الجديد في القناتين الخامسة في بنغازى والسادسة في طرابلس لتستمر الرحلة نحو المستقبل دون توقف أنجز خلالها التلفزيون الكثير من البرامج والمواد والأفلام السياسية والاجتماعية والثقافية والدينية والتوثيقية والأعمال الدرامية ومسرح العرائس والرسوم المتحركة وبرزت جهود العديد من المواهب الليبية الفنية وواكب كل الأحداث المحلية والعالمية ونقل أغلب المناسبات والاحتفالات على الأثير وتعاونت معه الخبرات المحلية والعربية في تقديم الأفضل للمشاهدين.
في تلك الليلة صار عندنا تلفزيون نهض بجهود الرواد والمؤسسين وأضحى قطعة من الذاكرة الوطنية التي هي ملح أيام ليبيا وبهجتها.