الطيوب | متابعة وتصوير : مهنَّد سليمان
أقيمت بقاعة المجاهد بالمركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية بطرابلس مساء يوم الأربعاء 24 إبريل الجاري جلسة وجدانية لتأبين الأديب الراحل الدكتور “زياد علي” الذي وافته المنيّة أوائل شهر مارس المنصرم، وذلك في إطار المناشط الأسبوعية للمركز بمشاركة مجموعة من الأدباء والكتّاب والأصدقاء وأسرة الراحل من تقديم الدكتور “علي الهازل”.
الحضور الشاهق
حيث استهل الدكتور “علي محمد رحومة” أولى المشاركات بكلمة لفت من خلالها أن الراحل زياد علي مبدعا ليس ككل المبدعين فلقد زاد على إبداعه الأدبي والفكري إبداعا آخر جادت به نفسه العذبة، موضحا أن زياد علي ذو نفس كبيرة، والهمة العالية والكاتب الليبي الذي كان له حضوره الشاهق الجميل أيان هل وحل، وتابع الدكتور رحومة أن الراحل صاحب الكبار من الأدباء والمفكرين في ليبيا وفي العالم العربي فرافق درب الكثير من الأدباء الليبيين والعرب عرفهم عن قرب وكتب عنهم وكتبوا عنه، وأكد الدكتور رحومة أنه حين نذكر زياد لا شك تطوف بمخيلتنا أطياف الكتّاب الليبيين والعرب كبارا وصغارا شعراء وقصاصين وروائيين ومسرحيين وصحفيين وفنانين، وهؤلاء كانوا أصدقاءه طوال أكثر من أربعين عاما من عطائه الجميل.
الالتزام بالتراث
وأضاف الدكتور “محمد الجراري” مدير عام المركز الليبي للمحفوظات والدراسات التاريخية بأن الأديب الراحل قد انحاز للتراث وأفسح له الجهد والعطاء أيما جهد وعطاء وتابع موضحا بالقول : إن الالتزام بالتراث يؤشر على الحكمة والبصيرة، مبينا أن الأعلام الفكرية والفلسفية في العالم الغربي كانوا وسيلة للاستلاب الحضاري والثقافي لادخال الشك في مضامين تراثنا تمهيدا لضربه وهو ما أوصلنا للمرحلة الانهزامية التي نعيشها الآن التي اصطف فيها الكثير منا إلى جانب التغريب والانسياق وراء الحضارة الغربية مؤكدا أننا نعيش في أزمة لابد أن يكون الحسم فيها للتراث، وهذا يُزكي هذه أمسية تأبين الراحل زياد علي.
دراسة أعمال زياد علي
من جانبه ألقى الكاتب “أمين مازن” كلمة أشار فيها إلى أن الراحل مات سريريا منذ فترة حين انقطع عنا أخباره وذكره إلى أن ألحد أخيرا، وأردف بالقول : إن قائمة كتبه ومؤلفاته وصور أصدقائه تبقى شاهدة على تراث ونصوص يقتضي الوفاء أن ندرسها ونتوقف عندها، ونفسح عن مكامن القوة فيها ونلتمس العذر إن وجد النقص، مضيفا بأن زياد من جيل وجد فرصته في سبعينيات القرن الماضي عندما بدأت الحركة الصحفية تتحسن، وظروف النشر تتضح ملامحها وكان يومئذ نشاط خريجي الجامعة الليبية وغيرها ومُدرِّسوهم من أمثال الأستاذ العنقودي في مدرسة باب بن غشير من اللذين وجّهوهم جميعا للأدب والإنتاج لذا لابد أن نذكرهم عند التاريخ وعند دراسة النصوص وآثارهم، ودعا مازن بالقول : إن ما نحتاج إليه اليوم هو أن ندرس أعمال الأديب الراحل ونُسلط عليها الأضواء عسى أن تكون مدعاة للأجيال النائشة كي تتبعها فقد كان الراحل مثالا للمتواصل، والمتُجرّد من الحقد والحريص بالتعريف بالآخرين والتواصل بالآخرين، وفي المقابل أكد مازن قائلا : إننا لا ننكر التراث ولا نكره التراث بيد أننا لن نموت حبيسي التراث، ونعرف بأن التراث حفل بمن قاوم الظلم وقاوم الدكتاتورية ودعا إلى العدالة، ومن قال سلطان خشوم لا فتنة تدوم.
صداقاته المتعددة
فيما شارك صديق الراحل المحامي “سليمان العزابي” بكلمة سرد فيها عمق ومتانة علاقته بصديق عمره الأديب زياد علي متوقفا عند محطات متعددة من المرحلة الإعدادية وصولا إلى الجامعة، ويستذكر العزابي أنهم حينما كانوا طلابا لطالما كان يسجل اجتجاجه إزاء اهتمام زياد الكبير بالأدب مرجحا كفته عن دراسته الجامعية أوان ذاك الزمن مشيرا إلى ان الراحل نجح في تكوين شبكة واسعة من العلاقات مع الوسط الأدبي الثقافي المصري والعربي مستثمرا إقامته في القاهرة، وذكر العزابي أن الراحل زياد كانت يربطه تواصل دافئ مع الأدباء في اليمن والبحرين بشكل خاص علاوة على اتصاله بأدباء شمال إفريقيا حتى أنه كان يُمني النفس لتحويل بعض أعمال الكاتب “الطاهر وطّار” إلى مشروع سينمائي.
المحطة المضيئة
بينما كان للدكتور الباحث “الصدّيق بشير نصر” مشاركة بيّن من خلالها أن هنالك واحات وارفة الظلال نتفيأ بظلالها ونلتقي بأحبة من الناس لم نكن نعرفهم أبدا، ولكن الله سبحانه وتعالى ساقهم في طريقنا ليكونوا لاحقا من أحب أصدقائنا، وتابع بالقول : ومن المحطات محطات رديئة وسيئة في حياة الإنسان تجمعه بنفر من الناس، وكأنهم أبالسة يلعن المرء حياته كلها أن تعرف بهم ذات يوم، والحمد لله أن الله وقانا من صحبة هؤلاء ومنّ علينا وأكرمنا بصحبة الأفذاذ الكرماء من الناس، وكان من بيننا صاحبنا الدكتور زياد علي، وأضاف الدكتور الصدّيق بالقول : لقد عرفت لأول مرة الأديب الراحل في قاعة مركز المحفوظات ذات يوم على خلفية إلقائي لمحاضرة عن الاستشراق، وكان وقتذاك الجدل قائما حول رواية (الآيات الشيطانية) لسلمان رشدي فذكرتها في ثنايا المحاضرة، ثم استرسل الدكتور الصدّيق في ذكر مناقب الراحل وخصاله الحميدة ووداعة شخصيته وسلوكه السخيّ مع من هم حوله.
ثراء التجربة
كما شارك أيضا الشاعر والحقوقي الدكتور “جمعة عتيّقة” بكلمة أعرب فيها عن فيض مشاعره نحو الراحل واصفا بالقول : إن الولوج في دنيا زياد علي محفوف ببعض المخاطر لعل من أهمها عدم الاحاطة فهو متنوع في مراحل تجربته وفي كتاباته، وفي علاقاته، وعن ظروف عرفته بالراحل ذكر عتيّقة قائلا : عرفت زياد منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي في القاهرة حين كان يدرس في جامعتها شابا حيويا تكاد تكون مفرطة، ويتمتع بميزات قلما تجدها في غيره، وأوضح بالقول : أذكر أنه انطلاقا من خاصيته وجماليته التي لا يشاركه فيها الكثير باعتباره واسع العلاقات في الوسط الأدبي العربي، وكان يحرص على أن يُعرِّف بالأدباء الليبيين لدى نظرائهم العرب.
جرعة حنين دافقة
من جهة أخرى نظرا لتعذّر حضور الكاتب الصحفي “بشير زعبية” قرأت الكاتبة الصحقية “فتحية الجديدي” كلمتها بالإنابة فبين سطورها يستعيد زعبية حنين ذكرياته مع الأديب الراحل قائلا : جمعنا الترحال في القاهرة ودمشق، وفي الشطر الأوروبي من جزيرة قبرص فزياد بحيويته المعهودة وابتسامته العلاقة الدائمة لمُحيّاه، وحكاياته الثرية بالأسماء والأزمنة والأمكنة ووفائه اللامحدود لكل من التقاهم أينما حل، وكانوا شهودا على تجاربه وحسن رفقته ومعشره ظل محتفظا بكل هذه العناصر حتى داهمه المرض، ولفت زعبية إلى أنه قد تعرف على الراحل في منتصف سبعينيات القرن العشرين وتعززت علاقته خلال سني ترحالهما، وأردف بالقول : منذ الثمانينات كان زياد يبدي لي إعجابه ببداياتي القصصية، وحين عزمت على إصدار مجموعتي الأولى(حالة مشاهدة) بادر بكتابة مقدمة المجموعة دون سابق علم مني لكن لأسباب تتعلق بتغييرات إدارية ومكانية للجهة الناشرة المتمثلة في الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع فُقد المخطوط ليظهر بعد سنوات بعنوان آخر (العابر) بيد أنه خلى من المقدمة دون معرفة السبب، وأضاف زعبية في سياق متصل بالقول: وفي مساق الترحال، وعندما جمعنا اللقاء في عام 1984م إذا لم تخني الذاكرة كنت شاهدا على زواج المرحوم من زوجته البحرينية الكريمة، وخلال استضافته لي في بيته شرعت في كتابة مشروع رواية لكن المشروع تحول بسبب كسلي وانشغالي بالعمل الصحفي إلى قصة قصيرة عنونتها(قريبا).
من براحات القرية إلى المدينة
بدوره تحدث الكاتب “حسين المزداوي” مفصلا في بعض الجوانب التجربة الحياتية للراحل زياد علي فأطلق عليها سفير الأدب الليبي، وصنّف المزداوي مسار تحولات الراحل بالقول : من براحات قرية دنّون أقصى جنوب بلدة غريان من تلك البراحات التي تُطل على ساحات معركة جندوبة الشهيرة التي قادها الزعيم سليمان الباروني من هنالك غادر أسرة الراحل متجهة نحو مدينة طرابلس ليولد زياد في مدينتها القديمة 23 أغسطس عام 1949م، وإلى سلام مسجد السلام في الحي العاشر بالقاهرة هدأت تلك الروح التي لا تهدأ وغفت، وبعد الصلاة عليه ووري الثرى بمقبرة بلبيس مارس 2024، وأضاف المزداوي أن الراحل بين هذين الزمنين كانت حياة وصداقات وأفكار ومواقف ورحلات، وأردف المزداوي بالقول : كان زياد علي كاتبا مهموما بوطنه يفرح لفرحه وفرح أبنائه ويتوجع لأوجاعه وما يُحاك ضده فقد كان زياد ضد الدكتاتورية والتعسف والظلم يدعو إلى الحرية وإلى حقوق الإنسان وحقوق المواطن وحقوق المبدع فهو الذي يقول (غياب المناخ الديموقراطي ووأد الحرية هو الجواز الصلد الذي دمر طموحات البشرية ووقف في وجه الحقيقة هذا القدر يحبط المبدع)، وأشار المزداوي قائلا : ليس مجرد الكلمات في الوطن هي منتهي فعل زياد فكل ما يُذكّره بالوطن في غربته فهو يسعى إليه.
الشغوف بالأدب
كذلك كان للباحث الدكتور “علي عبد اللطيف” كلمة مسجلة خص بها الأديب الراحل زياد علي بعبارات تجلت فيها معاني المحبة والوفاء، وذكر بالقول : تعرفت عليه بالقاهرة، وكان سبقني بالدراسة هناك، وأردف قائلا : استمرت العلاقة مع الدكتور زياد في القاهرة حتى بعد أن أنهينا دراستها الجامعية في مجال القانون، وعدنا إلى ليبيا وامتدت علاقتنا وأضاف الدكتورعبد اللطيف : حتى الآن لم أفهم سر دراسة الراحل للقانون وهو رجل أدب وثقافة ومسرح وفن، وكان للراحل دائرة علاقات مقربة منه مثل الدكتورمالك أبوشيهوة، ومحمد الخوجة، وعبد الرحمن شلقم، بينما أشار أيضا أن الراحل كان يمتاز بصفات خاصة فقد كان مهووسا وعاشقا للأدب والثقافة وليبي وعربي بامتياز بعبارة أدق الراحل بسبب نشأته الطرابلسية كان زياد منذ نعومة أظفاره شغوفا بالبيئة الخصبة خلال فترتي الستينيات والسبعينيات كتب القصة القصيرة مثلما هو معروف، واشتغل بالمسرح ومثل في بعض الأعمال المسرحية فضلا عن كتابته الصحفية ما جعل المميز لدى زياد أنه جمع بين هذه الميادين كلها، وبيّن الدكتور عبد اللطيف أن ةومكوالجانب الجميل في زياد علي هي الإخوة والتواصل والولاء للصداقة والمحبة للآخرين .
الرحيل الهادئ
وشهدت الجلسة الحوارية قبيل اختتامها مشاركة كل ابن الأديب الراحل “علي زياد”، وابنته “دجي زياد علي” عبر كلمة مسجلة ترحمت فيها على والدها متضرعة إلى الله العلي القدير أن يجعل مثواه الجنة، كما توجّهت بأسمها واسم عائلتها آيات الشكر والتقدير على محفل تأبين الأديب الراحل، وجاءت السيدة دجى على بضعة عناوين لوالدها موضحة بأنها لم تعلم أن هذه العناوين تحمل في طياتها وبين سطورها رسائل مغلّفة، وبيّنت أيضا أن الأديب الراحل انتقل إلى الرفيق الأعلى دون بكل هدوء ودون معاناة أو صراع مع مرض أو ألم جسدي، غادر بين ظهرانيّ بيته وأسرته مؤكدة أن والدها لم يعاني في سنواته عمره الأخيرة (بخلاف دائي السكري وقلب اللذي كان يتعايش معهما) إلا من مضاعفات بدايات الزهايمر، وأردفت بالقول : قبل إصابته بالزهايمر لم تظهر عليه أية مشاكل صحية فلم يتألم جسديا قط خلافا لما اعتقده البعض من أن وفاته جاءت بعد معاناة كبيرة مع المرض، وأضافت السيدة دجى أن والدها كان يمثل النموذج الوفي للشخوص والأحداث والمواقف جعلته يمتلك ذاكرة تصويرية قوية مكنته من استذكار تفاصيل التفاصيل والاستمتاع بسردها فضلا عن تمتعه بشخصية اجتماعية محبة للتواصل فكان يؤثر غيره عن نفسه ويحمل على عاتقه مهمة التعريف بالأدب والأدباء الليبيين وغير الليبيين.