سيرة

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (60)

حواء على مصطبة الليل…ضحكتها صهيل الهلاليات….

حواء في مجلة البيت


عنوان فخم اختارته المتألقة “ليلى النيهوم” لإجابتي عن سؤالها (حواء أين انت؟)، عنوان الزاوية التي تشرف عليها واقترحتها هي (على بساط الجدل)؛ و كالعادة سأكتب الإجابة في واحدة من كراساتي، و أفكر كيف أرسلها لمجلة البيت؟ حينذاك يتم التواصل بين (أمينة تحرير مجلة البيت والامل: سالمة الصغير المدني) و(دلال المغربي)، تقول “سالمة” كلاما جميلا عن “دلال” وعن احتياج مجلة (البيت) لقلمها.

و”حواء” في غمرة الحزن والحب يرتفع صهيل ضحكتها ولتمسح دمعة مواربة وهي تجادل “سالمة”؛ لكن “سالمة” تحاول جاهدة (شن المشكلة.. كان ع المواصلات انجيك بالسيارة كل يوم)، يوم صيفي من شهر يوليو 2000م وسيارة المجلة وأمينة التحرير بصوت له كل صفات القوة والعذوبة (حين اخبرتها ان عيد ميلادي كان قبل أسبوعين)، تغني (كل عام وانت الحب) مع المطرب الذي نالت أغنيته شهرة في ذاك العام؛ فيتصاحب صوتي مع صوتها ونبدأ رحلة مفعمة حين أجدني في رحاب (مجلة البيت)، تعرّفني بأسرة التحرير ويكون كبيرنا “يوسف الشريف”، روحا تفيض مودة وصبرا وبهجة بانضمامي للمجلة، وبعد أيام سيدخل الأستاذ “منصور بوشناف” مهللا، ولأعرف أنه أيضا مع هذه الأضمومة المتميزة، وأجد “زكريا العنقودي” مع “نادر السباعي” سيمفونية فنية تحاول الخروج عن النمطية، و(الأمل) يا أمل صحبة المبدع “علي البكوش” تحاول الامل؛ وعرفت أن ثمة صحفية متميزة تغيب في عطلة فانتظرتها باشتياق، هي “جنينة السوكني” التي كان يصلني سلامها وسؤالها عبر صديقة من أسرتنا زميلة لها في الجامعة المفتوحة؛…

و جئت بمقالتي (الجواب عن سؤال ليلى… حواء اين انت؟)، لتنشر في العدد ا/ 3-4 _ مارس – ابريل 2000م. ولكن تأخر طباعته اعطى فسحة كي تكون إجابتي ضمن هذا العدد.. وستذكر في تقديمها أني اعتذرت عن الإجابة؟ (أم ستعتذرين كما فعلت أول / اين انت؟ بعثت بها إليك قائلة: إنه الخوف والتعب.. ليس لأن أحلامي مستحيلة، فقط هو التعب الذي هدّني.. أعذريني ومدّي يدك الحانية يا صديقتي)….

وانا حقا نسيت متى اعتذرت، وهل بعثت رسالة عبر الفاكس أم كانت إجابة عبر الهاتف؟ لست أدري ولكن ها هي (مجلة البيت) و”حواء القمودي” بصورتها (التي التقطها مصور المجلة عمي “سعيد حقيق”)…تجيب عن هذا السؤال….

حواء.. أين أنت؟

أين أنت؟

هكذا يحتشد السؤال داخلي يستفزني، يبحث عن هذه الغافية فيّ، عن تلك المتوفزة.

 سؤال بريء: أين أنت، هكذا أرسم إشارة استفهام أو أدعه طليقا يجوب الآفاق ليبحث عني، عن هذه التي كانت تحلم بأن تكون الكلمة جسرها إلى الآخرين، أن تؤثث معهم عالما مختلفا قليلا ما.. يأخذ الأجمل من عالمنا ويضيف إليه، يحذف الخوف والقلق واللامبالاة ولكن… هكذا تكتشف بفجيعة مسرفة في التفاؤل: أن الكلمة كانت هي التي أبعدتها عن الآخرين هؤلاء الذين تحبهم كثيرا، أن الكلمة كانت الإسفين الذي تدقه كل مرة ليزداد الشرخ اتساعا، وتفغر الهوة فاها لتبتلع كل حلم في اللقاء؟

هكذا يا “ليلى” يحذفني سؤالك يخيفني يدعني أقيّم مرحلة لنقل أنها مرحلة، ويجعلني أكتشف كم هو قاس أن تكون بعيدا عن الناس، أبدا لم أحلم أن أكون بعيدة عنهم أن يكون لي برجي الخاص؛ كنت أخوّض في ماء (الفْحَل)1 وأنا أحلم لهم وبهم.. وأملأ كفي بكبشة توت لذيذ وأتذوق طيبتهم وفرحهم بالحياة، وألتقط حبات الزيتونة المفروشة ببهاء تحت الزيتونة وأنا أعدّ الأيام التي تفصلني عنهم، كي أكبر وأحقق كل الأحلام، أحلامي لهم، وأتكئ جذع النخلة أراقب السماء سماءً صافية الزرقة، والمغرب يوشح السانية فتبزغ نجوم ولا أحلى أخبرها عن الآتي الرائع الذي أكون فيه جزءا هاما من الآخرين، فلماذا كانت الكلمة نعشا حملني بعيدا عنهم وأغرقني وحدي في بحر ظلماته لجيّ… لماذا!!؟

أم تراها كانت (البنفسجة الطموح)2 هذه القصة الصغيرة التي رأت فيها هذه التي تتململ في أعماقها، فأحبتهما معا، البنفسجة وتلك التي تختبئ فيها، متى سُحرت فكتبت وقرأت موضوع التعبير وهي تلميذة بالصف السادس، صوتها المبتهج وتصفيق التلميذات ووجه (ابلة حليمة) المشرق المتألق وضفيرتها الأجمل وثنائها على الإنشاء شكلا وموضوعا.

تقول ليلى: أين أنت، تلّح في السؤال تستفز هذه الغافية التي أهدهد غفوتها بغدٍ أجمل.. أين أنت؟ يا ليلى: سأبحث عنها هذه الأنا التي توزعتها المنافي، هذه التي سُحرت باكرا وغُرر بها باكرا!؟

هل كانت (ابلة عجيلية) التي كتبت اسمي على رأس ورقة بيضاء كما فعلت مع كل تلميذة بالصف الأول في آخر السنة الدراسية، وطلبت أن نملأ الورقة بأسمائنا، أذكرها “حواء” الصغيرة التي اتكأت على مقعدها وملئت تلك الورقة… مازال ذلك المساء صحوا في ذاكرتي…تلك الشبابيك الكبيرة في ذلك الفصل الواسع بمدرسة (حليمة السعدية) تطالعني سماء ناصعة الزرقة، وضياء شمس العشية يغمر الفضاء بذلك البياض الشعشاع، مازالت رائحة الهواء في أنفي ها أنا أشمّه وأراها حواء الصغيرة تبدع اسمها على صفحة الورقة وتحبه، تحب أحرفه تسمع أغنية الاسم وتعشقها، وتتأمل تلك المعلمة الجميلة بوجهها الأسمر الفاتن وضفيرتها السوداء الطويلة الطويلة، وستحبها دائما وتبتهج وترتعش لمرآها وتخجل من اللعب أمامها في ساحة السانية حين تعبر بفراشيتها البيضاء؛ أم تراها كانت في ذلك اليوم البعيد وهي بنت في العاشرة تجد بين يديها (الزنبقة السوداء)3 كم مرة قرأتها؟!! وكم من باب للحلم شرّعته لها، مازالت روزا الجميلة كرنيليوس عاشق الزنبق يتسللان إليها يتجاذبا معها أطراف الذكريات، حيث هي في ظل نخلة تتبّع بعينيها توهج الشمس في جدول الماء فتتراءى روزا بجمالها الهادئ وحبها الحنون وهي تتعلم بشغف القراءة والحب، تذهب إلى الجدول لتراهما حقا فتمدّ يدها لتتلمس قسمات وجهيهما، وتخرج السجين لحبيبته، لكنها تمسك الماء بيديها فتضحك لكنها حقا احسّ أنهما معها يضحكان معها و منها كما تفعل هي.

كيف أقبض عليها هذه الأنا التي توزعتها الكلمة، أمسكا بيدها باكرا جدا وأدخلتها مدنا مسحورة، ضحكت وبكت وارتجفت خوفا وأمها تدخلها مدن الحكايا فصارت هي حكاءة الفصل ؛ ها أنذا أبحث عنها وأسألها: أين أنت دعيني أراك، أعرفك أفهمك لأعرف كم هو عميق حزنك ومفجع انكسارك، سآخذ بيدك وتأخذين بيدي ونذهب معا لنجلسة في ظل نخلة (الحّري)، نتأمل شروق شمس يوم جديد يهل على السانية، والسانية غافية يدثرها النخل والزيتون والرمان وألذّ شجرة توت تتكئ على (طابية الهندي)، سننتظر أن تشرق الشمس وتأتي فاطمة، ستأتي فاطمة وتجلس قربك ستشاركك السماء وتشمّ معك عبق البحر.. البحر ليس بعيدا إنه هناك…سنذهب معا فاطمة وأنت وأنا سنسأل البحر الذي عشقناه: ل

ماذا أيها البحر..!!؟

سنركض معا سننزع (قرمبيول) المدرسة الأكحل الطويل سنحلّ ضفائر شعرنا نخلع أحذيتنا وندخل إليه؛ هناك لن يسرقوا منا شيئا ستظل فاطمة معنا وتظلين أنت وأظل أنا معكم…سنذاكر معا، لن يقطعوا دربنا، سنكمل مسيرة العلم بفرح وشغف، ستغدو فاطمة طبيبة وأنا محامية وأنت ماذا ستكونين؟! ربما نسيتك في غمرة حبي لفاطمة ولوعتي عليها؟؟

آه يا أنت أين أجدك أين أبحث عنك كيف أنسجك من جديد وأرتب عالمك. كيف أحميك.؟

أعيذك من كل أذى وأحوطك أيتها الأغلى، كيف نعيد معا ترتيب أحلامنا.. تعالي أم أنك مللت من هذه الرعناء المرتجفة الفاغرة قلبها دهشة المرتبكة الخطوات… أين أنت: لأخبر ليلى عنك وأحدثها عن أحلامك ومشاريعك وأمتدح كل خيباتك، أمتدح خيبتك في زرع ابتسامة على شفاه كل الذين تحبين!؟؟

أين أنت.. لأضمك إلىّ
ونبكي معا كل الخيبات
ونقول: ليكن
إنها الحياة.

يناير – فبراير 2000

____________________________

1- الفحل: مجرى مائي واسع تتدفق مياه البير من خلاله ويتفرع إلى أصغر لريّ المزروعات.
2- البنفسجة الطموح: قصة للكاتبة “مي زيادة”، من مقررات المطالعة الحديثة للمرحلة الثانوية.
3- الزنبقة السوداء: الكسندر ديماس – رواية من مقررات المرحلة الإعدادية في الستينات وحتى منتصف السبعينات.

مقالات ذات علاقة

للتاريخ فقط (6)

عبدالحميد بطاو

عاشق الثقافة

المشرف العام

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (57)

حواء القمودي

اترك تعليق