سيرة

للتاريخ فقط (6)

يشرع موقع بلد الطيوب في نشر سلسلة (للتاريخ فقط) للشاعر “عبدالحميد بطاو“، والتي يروي فيها الكثير من الأحداث التاريخية والسياسية.

الشاعر عبدالحميد بطاو.
الشاعر عبدالحميد بطاو.

الحلـقـة: 6/ وهكذا التقى الطلبة والمعلمين في مدرسة القومية

حينما جلست على الكرسي أمام المحقـقين الثلاثـة، كنت أتحاور مع نفسي وأنا أحدق في كراس يـومــياتى، المخطوط بيدي عن فترة عام1965م، والذى كان يلوح لي به “الشايبي” بشكل مستفز، لكى يؤكد لي صحة الإدانة. كنت أقول هل أعترف لهم بكل التفاصيل أم بعضها؟ أم أنكر كل شيء مهما كانت الحقائق التي سيواجهونني بها؟ وقطع شرودي صوت المحقـق “الشايبي” وهو يدخل في الموضوع مباشرة ودون مقدمات، لكى لا يعطيني فرصة الرفض:

– ورطك “عبدالسلام عيله” وتسبب لك في هذه المصيبة التي انت فيها الآن!!

طبعًا كنت قد دونت في صفحة من مذكراتي (أن “عبدالسلام عيله” فاتحني وكان وراء دخولي حركة القوميين العرب) وطار من ذهني التفكير في النكران وأيقنت أن المواجهة والاعتراف الشجاع هي الوسيلة الوحيدة لكى أكسب احترام نفسى أمامهم، وليكن ما يكون!! وهكذا اعترفت صراحة بأنني عضو في حركة القوميين العرب، ربما الشيء الوحيد الذى رفضت الاعتراف به، والذى تلقيت من أجله ضربات مؤلمة على أكتافي بعصى أخرجها “الشايبي” من تحت المنضدة هو أنني لم أذكر أي اسم آخر غير الأربعة المعتقلين معي. خرجت من مبنى المباحث عند المساء في (فولكس) حملتني تحت الحراسة إلى مبنى أكثر وجاهة، وصاحب المكتب الذى جلست عنده قدم لي نفسه على أساس أنه النيابة العامة، وتطلع إلى محاضر البحث التي استلمها من الحرس وقال لي:

– ها انت اعترفت بانتمائك لحركة القوميين العرب، هل هذا صحيح؟

فأغرتني الراحة النفسية والأسلوب المتسامح والرجل المهندم الانيق الهادئ، ووجدت نفسي أنكر وبعنف، وقلت له كان اعترافي في المباحث كان تحت التعذيب، وحرر أجوبتي التي رديت بها على كل اسئلته كاتب كان معه.

وفي العاشرة مساء خرجت من مبنى النيابة ووجدت نفسى أركب نفس (الفولكس)، وحينما سألت السائق والحارس: أين ستذهبون بي الآن؟

 قال لي أحدهم ساخرًا: أنت الآن معـزوم في فندق (الحصان الأبيض)؟

ووقـفت بنا الفولكس أمام باب حديدي ضخم في زقاق معتم، ونزل الرجل الذى بجوار السائق ودق الباب، وأطل وجه من كوة وسط باب الحديد وسمعت صاحبنا يقول لهم مباحث، وبعد لحظات انفتح الباب الحديدي الضخم على مصراعيه ودخلت الفولكس لساحة ترابية واسعة، كان يقـف وسطها على قاعدة رخامية تمثال لـحصان أبيض.

وأنزلوني وأنا أحدق في هذا الحصان الذى يقف شامخًا برأسه وسط هذه الأجواء السريالية الكابية، وفتح باب حديدي آخر ليدخلوا بي وسط صالة كئيبة باهتة الإضاءة، وقدموني لشرطي الأحوال وضابط السجن، وغادر رجلي المباحث وسجلوا كل المعلومات المدونة بورقة التسليم، وبعدها قاموا بتفتيشي واستلام كل ما معي من أشياء، وأبلغوني أنني منذ الليلة أصبح اسمى غير مهم وإنما المهم هو رقمى، الذى سيتعاملون معي به داخل السجن؛ وكان رقمي (13326)، وذهب بي أحد الحراس إلى مخزن السجن لأستلم صحن معدني، وكوب معدني أيضًا وملعقة وبدلة صوفية سماوية مخططة بالأسود وبطانيتين، وبعدها فتح أمامي باب حديدي آخر لأجد نفسى وسط ساحة واسعة تلوح حولها من بعيد أضواء لعنابر ضخمة كالديناصورات الخرافية المشتعلة العيون، وسار بي الحارس حتى فتح باب حديدي آخر، لندخل إلى مثلث مكشـوف عبرناه ليفتح باب حديدي آخر. ووجدت نفسى في ممر به أبواب كثيرة حديدية مقفلة، وتقدم بي نحو باب سمعت داخله ضوضاء وصخب وفتحه لأجد مجموعة من الشباب في صالة كبيرة يتمددون على بطاطينهم، وكل منهم يصف كيف تم القبض عليه وكيف كان بطلا في مواجهة رجال المباحث ولم يعترف أمامهم بشيء. لم أتعرف على أي منهم سوى اثنين من رفاقي وصلوا قبلي، وصافحت الجميع وفرشت بجانبهم بطانية وعملت من الثانية وسادة واتـكأت أستمع وأتأمل المكان.

كانت الصالة عارية من أي شيء سوى نصف باب في وسطها، عرفت فيما بعد أنه باب الحمام، وعرفت بعدها لماذا هو بهذا الوضع، لا يستر سوى الجالس على فتحة المرحاض (تحسبًا لحضور من يحصون المساجين واسمهم (الكونتا)، ويكون أحد المساجين جالسًا يقضى حاجته فلا بد أن يتكلم ويمد يده من فوق نصف الباب لتأكيد وجوده، كانت مجموعة الشباب يواصلون حواراتهم وصخبهم وبين الحين والحين يدخل وجه جديد ينضم إلى جوقة الابطال الذين كانوا يبالغون في تصوير بطولاتهم، ناسين أن المحكمة القادمة حتمًا في المستقبل ستواجههم بأقوالهم أمام الملأ، وتنكشف ادعاءاتهم هذه (وهذا ما حدث فعلا).

بدأ العدد يتزايد وبعضنا غلبه سلطان النوم، ولعلني كنت واحدًا منهم وفي الصباح فتحوا لنا باب الصالة المغلقة وخرجنا للفسحة، التي عرفنا في ما بعد انهم كانوا يسمونها (الآريـــه)، وهى كلمة أجنبية تعنى الاستمتاع بالشمس والهواء في الساحة المكشوفة، وذلك على فترتين الأولى في الصباح الباكر وحتى فترة الغداء، والثانية بعد الغداء وقيلولة الظهر عند الرابعة عصرًا وتستمر حتى بداية المساء، تفتح فيها غرف المساجين ويتمتعون بالتحرك والتريض في سـاحة القسم المكشوفة، ليقفلوا علينا بعدها أبواب زنزاناتنا الحديدية بصورة مزعجه، وتـأتى (الكونتا)، وهى مصطلح اجنبي يعنى الذين يعدون المساجين بشكل دوري وهم بعض من رجال الحرس يقفون بباب الزنزانات من الداخل ليتأكدوا من أن العدد صحيحًا بكل زنزانة، ويحدث هذا التأكد ثلاث مرات في اليوم في الصباح الباكر وعند الظهر وفي المساء، وخلال يومين زاد عددنا حتى تجاوزنا السبعين، كما وصل من درنة كل من “أحمد فيتور”، “خليفه بن زابيه”، “على فالح”، “عبدالمجيد بوازويته”، “عبدالله الحصادى”. وقامت إدارة السجن بتوزيعنا في كل غرف وصالات القسم الذى خصصوه لنا وكان اسمه (القسم الخامس)، الذى سبق أن سجنوا فيه مجموعة حزب البعث الليبيين قبلنا، ولعله قسم متميز عن بقية الاقسام التسعة بالسجن.

دعونا نتوقف هنا لنتحدث في الحلقة القادمة على حياتنا داخل السجن وعن أحلامنا وتفاؤلنا بالإفراج وعن انسجامنا مع الحراس والأمسيات الشعرية التي كنا نقيمها في الهواء الطلق فإلى الحلقة السابعة.

مقالات ذات علاقة

اليوم الأول في المدرسة

سعيد العريبي

للتاريخ فقط (24)

عبدالحميد بطاو

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (6)

حواء القمودي

اترك تعليق