حلقة وسطى بين العائلتين النيلوصحراوية والأفروآسيوية
وصف العربُ لغةَ التبو بأنها تشبه “شقشقة العصافير”، بينما وصفها الرومان بأنها أشبه بـ”زعيق الخفافيش”، فمتى بدأت لغة التبو؟ وما هي مراحل تكوّنها؟ وهل لها صلة بغيرها من لغات العالم؟
إشكالية التصنيف
تصنّف لغة التبو بفرعيها (تدَگا ودَزَگا) ضمن العائلة الصحراوية من المنظومة النيلية الصحراوية، أما التصنيف الأقدم من ذلك فقد اعتبر لغة التبو جزءاً غير محدّد الشعبة من مجموعة اللغات الحامية، وهو تصنيف ظلّ سائداً حتى وقت قريب، وكان يُعتبر أساساً لتمييز لغات الأقوام الإفريقية المجاورة للتبو.
يذكر ريكلوس أن لغة التبو (التدا الشماليين والدزا الجنوبيين) تنتمي إلى شعبة حاميّة تجاور لغات الكانمبو(1) والكانوري(2) وزغاوة(3) وبايلي(4) وأقوام زنجية وشبه زنجية أخرى تستوطن حوض تشاد وتعيش في وسط وشمال السودان.(5) وقد حاول أن يفسّر بما أسماه «تعاقب السمات اللغوية» ما لاحظه من تنافر فيلولوجي بين هذه الأعراق مؤكّداً على أن لغة التدا تظلّ « نقيّة وأكثر أصالةً» من بقية الأقوام المجاورة. وهي خاصية كان قد أثبتها ناختيغال وأعاد ريكلوس تأكيدها ذاهباً إلى إمكانية القول أن لغة التدگا لا تربطها صلة بالحاميّة أو المجموعات الزنجية.
لقد جعلت عزلة مرتفعات تبستي –مهد التبو– لغتهم معزولةً منفردةً، ويمكن الاستعانة بالكثير من الشواهد الفيلولوجية لإثبات أن لغة التبو (أو تدگا تحديداً) تمثّل «نواة عائلة لغوية» –كما قال ريكلوس– أو أنها «نموذج لغوي بدائي» ربما يمثّل تلك النواة المجهولة، ولكن الأرجح أنه نموذج تفرّعت عنه شُعَب لغوية انتشرت في دارفور، وواداي، وكانم، وبُرنو، وباگرمي، واللغات الصغرى في معظم وسط السودان. وبعبارة أخرى فإن اللغات التي تطوّرت عن هذه النواة أو – بشكل أدق – نموذج هذه النواة، أي التدگا، انتشرت واتّسع نطاقها لتُعرّف لاحقاً باعتبارها شعبة رئيسية من المجموعة الحامية.
إن ما تدلّ عليه الشواهد اللغوية التي يمكن تتبّعها لدى لغات الأقوام الإفريقية بدلالة «أصالة» الناطقين بها، وهي كلمة أخرى للتعبير عن «القدم» و«العزلة»، هو أن التدگا تحتوي على مستوى أول لم يخضع للتحوير أو التأثّر أو الاستعارة – كما حدث لاحقاً عن طريق الاستعارة من العربية والفرنسية – وأن هذا المستوى الأكثر نقاءً من الناحية المعجمية يستجيب بشكل كبير للمقارنة التأثيليّة مع أقدم اللغات المدوّنة في العالم أي السومرية،(6) بما يُثبت لنا أن التدگا تعود إلى الزمن نفسه الذي نشأت فيه اللغة السومرية في بلاد ما بين النهرين، وخير دليل على قِدم التدگا وأصالتها أن عدداً من مفرداتها تتضاءل لفظاً إلى مستوى الفونيم المجرّد، والفونيم المجرّد كما هو معروف لا يمثّل معنى لغوياً محدّداً إلا في أكثر الحالات اللغوية بدائيةً، وهو ما نعثر عليه بوضوح في اللغة السومرية. ومن هنا، فإنني لا أتردّد في القول بأن التدگا هي أقدم اللغات الإفريقية التي أمكن التدليل عليها حتى اليوم.
مراحل تكوّن الـ تدگا وتطورها عبر التاريخ
يمكننا تمييز ثلاث مراحل تاريخية أساسية في لهجات التبو، بدلالات مفرداتها، كالآتي:
المرحلة الأولى: ( حتى القرن السابع).
المرحلة الثانية: (من القرن السابع إلى أواخر القرن الثامن عشر).
المرحلة الثالثة: (من القرن التاسع عشر إلى الوقت الحاضر).
المرحلة الأولى
وهي مرحلة ضاربة في القدم تبدأ باستيطان قبائل التبو جبالَ تبستي، وربما قبل ذلك بكثير – أخْذاً بنظرية صلة التدا بقبيلة التدامنسي الليبية القديمة – وتمتد حتى القرن السابع أي حتى الفتح الإسلامي لشمال أفريقيا.
وتتميز مفردات هذه المرحلة بأنها الأكثر قدماً، وتعود إلى ما نسمّيه مفردات الطبيعة (في مقابل مفردات الثقافة)، ونعثر في معجمها على جميع ما يتصل بالحياة اليومية البدائية من مسميات، خاصةً ما يتصل منها بالبيئة والمستعملات القديمة والقرابة وأنماط العيش الصحراوية كما عُرفت منذ القدم، كما نجد فيها سجّلاً كاملاً للحياة البريّة التي نفترض أن التبو اندرجوا فيها منذ أزمنة ما قبل الميلاد.
ويمكن تمييز مقاطع جذرية أوليّة(8) في مفردات هذه المرحلة، كما توضّح مقارنتها بالسومرية (راجع الثبت المرفق بكتاب التبو) أن أصليّةَ وبدائيةَ لسانِ التبو تشكلت في زمن ما منذ الألف الخامسة قبل الميلاد. وقد اكتشفنا من خلال دراسة عدد من المفردات الأصلية أن هذا اللسان ما زال يحتفظ بمفردات قديمة لم تتغيّر لفظاً ودلالة، الأمر الذي يتيح لنا افتراض مسارات هجرة مجهولة للمراحل الأولى من نشأة هذا اللسان تبدأ من سومر إلى إفريقيا، أو – من ناحية أخرى – افتراض مسارات اتصال متناوبة بين شمال الجزيرة العربية وإفريقيا، شرقها وصحرائها، سواء عبر باب المندب، أو صحراء سيناء، والاحتمالان مرجّحان – حتى الآن – بالقدر ذاته. وعلى ما تبدو به هذه الفرضية من غرابة في الوقت الحالي، إلا أننا لا نجد ما نفسّر به اشتراك التبويّة والسومرية في حمولة لغوية بدئية سوى افتراض التواصل أو الانزياح عن موطن مشترك جمع ذات يوم أسلاف التبو بالسومريين أو «ذوي الرؤوس السوداء» كما كانوا يسمّون أنفسهم.
المرحلة الثانية
وتمتد من الفتح الإسلامي بدخوله إفريقيا عبر مصر في القرن السابع، إلى القرن التاسع عشر. وفي هذه المرحلة اقترض التبو عدداً كبيراً من المفردات (أقدّره بعشرين بالمائة من معجمهم الحالي) من الألفاظ الإسلامية المعبّر بها عن العقيدة والإيمان والأحكام الشرعية ومفردات الثقافة ذات الارتباط بالمنشأ العربي الإسلامي. وقد خضعت هذه المفردات إلى صيغ التلفّظ المحلي التي اقتضاها غياب عدد من الحروف لديهم، مثل حرف الفاء (كما في هُكُر وأصلها فِكر)، وحرف القاف (كما في گُلْگُلِهْ بمعنى رعد، وأصلها: قَلْقَلَة).. إلخ.
ومن مفردات هذه المرحلة: سَلِّيّ (صَلِّيّ): صلاة. ألَّهَرْ: وقت العصر، نِگَا: نكاح، زواج، كُدْرُهْ : ثمن، قدْر الشيء وتقديره والقدرة على شرائه.. إلخ.
المرحلة الثالثة
وهي منذ القرن التاسع عشر إلى الوقت الحاضر، وقد تعرّض شمال إفريقيا والصحراء في هذه المرحلة إلى موجة متّصلة من الرحلات الاستشراقية التي مهّدت للغزو الأوروبي، الفرنسي على الأخص.
ونلاحظ في هذه المرحلة اقتراض لهجات التبو لعدد من المفردات الفرنسية والمفردات العربية الفصحى والعامية، فقد تسرّبت إلى لسان التبو عدّة كلمات فرنسية، لكنها كلمات يمكن حصرها وعزلها لقلّتها، كما استمر تأثّر لسانهم بالمحيط العربي الذي أصبح أكثر حراكاً وتواصلاً.
ومعجم هذه المرحلة هو الأقلّ عدداً، ولكنه قابل بمرور الوقت لإضافة المزيد من المفردات، خاصة أسماء الأدوات الحديثة كما استقرّت في المعجم العربي (الفصيح والعامي) الذي يمثل الآن مصدراً رئيساً للاقتراض. ومن مفردات هذه المرحلة بُنْدُگْ: بندقية، بضا: بضاعة، كَرَهَا: سيارة، وأصلها «كرهبة» كما في اللهجة الليبية، هِنْجَلَهْ: فنجان. ومن الكلمات الفرنسية تْشُمُسْ: قميص، وأصلها Chemise، بالرغم من أن أصل الكلمة الفرنسية عربيّ صريح؛ وكذلك كْوِيّار: ملعقة، وأصلها Cuillére، وهكذا.
ونلاحظ أن لسان التبو بفرعيه (تدگا، دزگا) اقترض عدداً من مفردات اللغات واللهجات الأفريقية مثل الهوسا، خاصة المفردات ذات الصلة بالزراعة وأسماء النباتات والأشجار، ويعود السبب – كما هو واضح – إلى أن قبائل التبو لم تعرف الزراعة كنمط أساسي من أنماط الإنتاج إلا في فترات متأخرة من استقرارها حول سفوح جبال تبستي وفي الواحات القريبة منها، عندما لجأ التبو إلى التوطّن بدلاً عن أنماط عيشهم القديمة المتمثلة في الصيد وحماية القوافل وتجارة العبيد التي كانت تمثل مصدراً وحيداً لأبناء التبو يضمن لهم توفير أساسيات البقاء في بيئة معدمة تقريباً لا تتوفر على أدنى شروط الحياة.
هوامش:
1- كانمبو Kanembu: يوجدون شمال شرق بحيرة تشاد وفي باگرمي، وهم مؤسسو إمبراطورية كانم – بُرنو، وهم يتحدثون لغة كانمبو التي تعتبر لهجة من الكانوري، ويدينون بالإسلام.
2- كانوري Kanuri: يعيش الكانوري شرق بحيرة تشاد في المناطق الحدودية بين تشاد والنيجر ونيجيريا، وهي المناطق التي مثّلت قديماً إمبراطورية بُرنو، وهم مسلمون. وتتفرّع لغة الكانوري إلى عدة لهجات محليّة.
3- مرّ التعريف بها، انظر: 1- 3.
4- لهجة من الزغاوة، وقد تُستخدم مرادفاً لها أثناء الحديث عن غرب دارفور وشرق برداي.
5- ريكلوس: 468.
6- لغة سومر في جنوب بلاد الرافدين، وهي أقدم اللغات المدوّنة حتى الآن وتعود إلى الألف الرابعة ق.م، وقد استمرت ضمن حدود ضيقة حتى القرن الأول ق.م. ثم انقرضت، وأعيد اكتشافها في القرن التاسع عشر، ويعتبرها الباحث جذراً لغوياً يتّصل باللغة الأكدية وتتفرّع عنه منظومة اللغات واللهجات الأفروآسيوية، مفنّداً بذلك النظرية القائلة بعزلتها وانحسارها النهائي. انظر: ما قبل اللغة.. الجذور السومرية للغة العربية واللغات الأفروآسيوية. دار تانيت، ط1، 2008.
7 – صدرت الطبعة الأولى من كتاب: «ما قبل اللغة.. الجذور السومرية للغة العربية واللغات الأفروآسيوية»عن دار تانيت (طرابلس – تونس)، سنة 2008، وصدرت الطبعة الثانية عن دار الكتب العلمية (بيروت – لبنان) سنة 2013.
8 – المقطع الجذري: مقطع دالّ على معنى قياساً بوحدات الكلام، وهو أصغر الوحدات في سياق الكلام، ويماثل الكلمة في سياق الجملة قياساً بوحداتها، ويمكن تقريبه إلى مورفيم Morpheme: أصغر وحدة لغوية مجرّدة ذات معنى. انظر: ما قبل اللغة، ص19.
تعليق واحد
[…] لغة التبو […]