ولكن هيهات.. هيهات؟؟؟!
وبين يديّ كتاب الفيلسوف (عبد الرحمن بدوي: الموت والعبقرية)، والأجمل أني وجدت فصلا يبدأ بعنوان (الترجمة الذاتية)، قبل أسبوع تحصلت على هذا الكتاب المهم والذي كانت طبعته الأولى في 1945م، وطبعته التي معي الآن بتاريخ 1962م، تماما هو العام الذي جئتُ فيه لهذا العالم، وها أنا الآن في يوم (1/ 8/2020)، فما الذي وجدت في هذا الفصل؟ من كتاب لعبقري هو “عبد الرحمن بدوي” (كان جيته صادقا حقا، موفقا أعظم التوفيق، حين أطلق على ترجمته لنفسه اسم (الشعر والحقيقة)، فكل ترجمة ذاتية، ومهما يكن من دقة صاحبها، وبراعته في الوصف، وقدرته على التحليل والتصوير؛ ومهما يكن من حرصه على أن يكون صريحا عاري الصراحة، قاسيا في تشريح نفسيته والكشف عن نواحي حياته الحساسة المستورة، هي لابد مزيج اشترك في تكوينه عاملان متعارضان هما الحقيقة والخيال، وكلا العاملين ضروري، وكلاهما أيضا صادق)؛ إذا ها أنا اطرق باب الحلقة 54 من هذه المحاولة في كتابة السيرة، والتي أردت أن تكون (أدبية) ولكن أكتشف أن ثمة امتزاج وتداخل، والفيلسوف (بدوي) يقول: (فيكفي من يصف حياته أن يكون أمينا في الوصف، مخلصا في بيان حقيقتها، لا تخدعه الأثرة، ولا يجور به عن سبيل الحقيقة، كي يقدم لنا صورة صادقة كاملة لهذه الحياة التي حيّها، ولما عاناه من تجارب روحية، وما مر عليه من أحوال وأطوار، فحياته سجل فليقرأ صفحاته، فليلتقط صورها، ثم ليعرضها من بعد على الناس. ولكن هيهات هيهات، فدون ذلك أشد العقبات!).
ولكن يا ترى ماهي هذه العقبات والتي دونها (هيهات) كما يراها “عبدالرحمن بدوي”: (وأول هذه العوامل وأقواها، الحياء، فلئن دفعنا الحياء الظاهري -إن صح هذا التعبير- إلى ستر أجسامنا وعلى الخصوص الحساسة منها، …… …..؛ فأحرى بالحياء الباطن -وهو الرقيب على جوهر الإنسان وكيانه الروحي الحقيقي- أن يكون أشد حرصا على كتم ما نيط به حراسته من أسرار، وأعظم ضنا بها من أن تكون مذاعة في الناس) ويواصل الحفر في حكاية (الحياء) فيقول: (ولا تحسبن الحياء مقصورا على الناحية الجنسية وحدها، وإن كانت هذه الناحية أوضح نواحيه، بل هو عام شامل ينتظم مرافق الحياة الإنسانية جميعها، فيدفع الإنسان إلى أن يخفي ما هو عليه من نقص، وما يعتور من سلوكه ونشاطه من عيوب؛ ويحمله على تزييف الواقع وتصويره تحت أضواء باهرة، بتبديده ظلال الخطايا والنقائص. فلا قِبَل للإنسان إذاً بالتعري، سواء منه الجسمي وما هو روحي)
وأيضا هناك عوامل أخرى غير الحياء والذي هو في نظر “بدوي” (عاملا سلبيا لا يقتضي من المرء إلا الصمت عن الخطايا) أي (أنه أداة دفاعية صرفة) ولكن هناك عامل (آخر ايجابيا يهاجم الحقيقة العملية والواقع، في غير ما تأثم ولا تحرج، فيكذب ويخترع ويموّه ويضيف، ويستبعد ويختار) ويعلل هذا التصرف بأن (الذي يكتب تاريخ حياته لا يقصد به إلى العلم الخالص أو التاريخ الصرف، بقدر ما يقصد به إلى قضاء حاجة في نفسه، وتحقيق غاية يرتجيها)… (ومن ورائها يخفي أغراضه الذاتية المستورة). ويأتي فيلسوفنا إلى عامل آخر فيقول: (ثم إن واضعي التراجم الذاتية فنانون قبل كل شيء، ومعنى هذا أنهم لا يستطيعون أن يسردوا الوقائع سردا، ويسجلوها تسجيلا خالصا لا أثر فيه للصنعة والخيال)… (فكأنهم إذا كتبوا ترجمة حياتهم سيكتبونها كروائيين، يخلقون الكثير من وقائعها، ويؤلفون بين أحداثها تأليفا بديعا)، وماذا أيضا يا ايها الفيلسوف “عبد الرحمن بدوي”، يتابع قائلا: (وحتى لو سلمنا جدلا بأن صاحب الترجمة الذاتية، سيتحلل من هذا كله، فلا يمنعه حياء، ولا تخدعه أثرة، ولا يغريه بالاختراع فن، وبأنه سيكون صريحا كأوقح ما تكون الصراحة، قاسيا كأشد ما تكون القسوة، فإنه لا يستطيع أن يكون بهذه القسوة، وتلك الصراحة إلا فيما يتصل بشخصه فحسب. أما فيما يمس الآخرين، الأحياء منهم والأموات، فلابد أن يجد في نفسه وازعا، ويشعر بشيء غير قليل من الحرج، وهو يقص ما كان بينه وبينهم من صلات ومغامرات).
رغم أن هذه الصلات والعلاقات كما يرى الفيلسوف (لها النصيب الأوفر في تكوين نسيج حياته) ومعنى هذا (فكأن جزءا كبيرا إذا سيتورع صاحب الترجمة الذاتية عن ذكره، مما يجعل الصورة التي يقدمها لنا مبتورة، لا تخلو من الهوّات والاضطراب).
أمّا ما رأيت أنه يمسّني أكثر وهو يتحدث عن العوامل التي تجعل من (الترجمة الذاتية) ناقصة وغير حقيقية ربما، هناك عوامل أخرى وأظنني كم مرة أشرت لها أثناء كتابتي لهذه المحاولة، وهي (الذاكرة) وأن هناك أحداثا نسيت تاريخ حدوثها وأشخاصا لم أتذكر متى التقيت بهم، ربما لطول الزمن الذي مرّ على هذه الأحداث واللقاءات، والفيلسوف “عبد الرحمن بدوي” يرى في عامل الذاكرة: أنه من العوامل الأخرى التي(لا تقل أثرا في تشويه الصورة الحقيقية لحياة صاحب الترجمة الذاتية، عوامل غير إرادية ولا واعية) ويواصل تشريحه لهذا العامل: (فالذاكرة ليست آلة صماء تسجل الأحداث والأفكار دون تمويه أو تشويه، أو دون زيادة ولا نقصان؛ وإنما هي جزء من نسيج الإنسان الحي -وكدت أقول أنها كائن حي- يتطور ويتغير ويخضع أعظم الخضوع لعامل الزمان).
وما الذي أريده انا ( حواء القمودي) الكاتبة الشاعرة والتي حين دخلت هذه المغامرة لكتابة سيرة، سيرة قالت أنها ( أدبية)، ما الذي استفدت أو رأيت أنه ذا أهمية حين وجدت هذا الفصل( الترجمة الذاتية) وعن هذه العوامل التي تحول أن تكون ( السيرة).حقيقية وصادقة، ربما وجدت ما كتبه عن الذاكرة لامسني جدا، وأيضا أن من يكتب ( الترجمة الذاتية— السيرة) لا يستطيع مهما حطم من ثوابت وعوامل أن يجتاز عاملا مهما، هو تقاطع حياته أو اتصالها بحياة الآخرين، وأعترف أني تجاوزت عن كتابة بعض الحكايات والتي كان لها تأثير هام في ( سيرتي الأدبية) لأنها تلامس حياة الآخرين، وأن فقرات من السيرة بعد نشرها( طلبت من صديقي رامز صاحب بلد الطيوب، أن يقوم بحذفها) بل في أحيان ( طلب رامز مني حذف فقرات رأى أنها قاسية ومؤلمة)، … وإذا ما زلت أحاول ( القبض) على ما أسميته( السيرة الأدبية) والفيلسوف البدوي يقول: ( ولم يستطع واحد من أصحاب الفكر أو اصحاب الفن أن يجعل من ترجمته الذاتية حقيقة صرفة، على الرغم مما بذلوه من محاولات، وما أنفقوه من جهد في هذا السبيل)؛ فلا بأس يا حواء (أصحاب الفكر والفن حاولوا)، و ها أنت مازلت تحاولين….
وما زلتُ في (حوزة) التسعينات..؟!
نعم؛ سأعترف أني أردت إغلاق دائرة سنوات التسعينات، لأدخل إلى بداية القرن الواحد والعشرين، ولكن مكتبتي وأوراقي دائما بالمرصاد لي، يتصارعان مع ذاكرتي؛ كيف تغفل أشياء هامة في هذه العشرية، ولأتذكر الشغف واللهفة اللذان أخذا بتلابيبي، شغف وتوق جارف للقراءة، بين روايات مترجمة عن الأدب الياباني ثم عوالم (حنا مينة) التي افتتحتها (حكاية بحار) والذي من خلال كتابه عن (ناظم حكمت) صار (ناظم) جنونا آخر، وثم الهوس بنساء (إدوارد الخراط) (يا بنات اسكندرية)، ثم السفر عبر الصحراء وسرابها الممتلىء بكائنات السر الذي فتح أبوابه إبداع (إبراهيم الكوني)، أمّا (ليلة القدر) فكانت واحة غرابة لتلك البنت القارئة، (ولولا كراساتي وما تخبئ من كتابة لي ربما ضاعت حكايتي معها)
قراءة ثانية
انبثاق الإنسان من ذات إلى ذات: تكوّنه من عالم إلى عالم، لا أدري كيف أحسّ بالشبه الذي يجمعني بهذه (المدعوة) كما سماها القنصل؟ الفرح بالجسد التهيؤ لمسراته بشغف: خلع ذاكرة مثقلة، الإقبال على الآت؛ هكذا مفرغاً: لا شيء يشدّك إلى ماضٍ: إلى أهل؛ هكذا: وكل الغرابة التي تحيط بك: تراني أحلم: بذلك الفارس الذي من بين تلك الجموع: الجموع التي تمارس طقوس الموت: ذلك الميلاد الجديد: الانبثاق من العدم والتشيؤ: إلى نور الحقيقة: أن تكون أنت: آه: تراني يا (زهرة) المدعوة: اخلع عني: أمضي إلىَّ: أبدأ معرفتي: لماذا هذه الغصّة تمسك بالقلب: تهزّه: تنفضه: ما الذي تريده بعد: ما الذي بإمكاني منحه مجددا: من يغتصبني: ليفكّ أساري: لأولد من جديد: ذلك التحرر: وكأنكِ ما كنتِ: إلاّ لحظة سهو
المدعوة عاشت: عشرون سنة: وهي في حُمّى جنون الأب بوهم القوة: عشرون سنة: ولكن ما الذي يجمعني بها: هذا الاشتياق إلى محو ما كان: البدء من جديد: هكذا تغتسل في عين ماء: ماء النسيان: لا التفات إلى الوراء: هو بدء من جديد: صوغ الذات: بناء: أي خوف: أنا التي تجتر الأيام: أخاف الليالي: الصباحات: تعذبني: نعومة المساء وإغراقه في التبتل
يعذبني دفق النهار المجنون: انبهار السماء برفرفة الضوء وكأني أريد: أن: أخلع ماعليّ: أفتح صدري: بيديّ: تدفق أيها الضوء: أيتها الشمس المعربدة: احرقيني: اشتعالي في تدفقك: ولا هذا الموت البطيء في عتمة الليالي: ادفقي يا شمس: اشعليني: أحترق: أحترق: أشمُّ رائحة: احتراق الذي كان: من الرماد: انبعاث: من هذا السقوط: أصعد: أصعد: إلى أيّ مدى: جنّتْ المدعوة حبا بالقنصل: أم بذاتها التي انبثقت: تشكلت: صوغ الحب للذات: صوغ معربد: التشهي للخلود: حين غطّت فتحة الضوء: حين جعلت على عينها عصابة: حتى تقترب من عالمه: تتوحد في سجنها: عوالمه المدهشة: تكتفي بساعتين لتقرأ: ومن تَمّ: عودة إليه: إلى التشكل في عالمه: لكن تراها هي التي جُنّت بدفقها: تظل طويلا في ذاك الأسر: أتراه قد أسرها: فأعادت التفكير: أعادت التفكير: لتعيد ذاتها من أسرهِ: وتبحث عنه: أم عنها: تعود إليها: المدعوة: هكذا: وأنا أكتب كأني أنفلت: من كل ما حولي: وأنا في أي زمن: وهذه الغصة: هذه الدمعة: أريد أن أعوي: كجرو صغير: ربطوه: فظل يعوي: حريته: حريته: حريته: أنا والتيه: وكلما فكرت أخاف: وكأني هناك: في بعيد البعيد: تقصيني أزمنة في اللا مكان: والمكان في اللا زمن: أتخفف من كوني: من ذاتي: لأغدو: طيفا: شبحا: ذرة ضوء: غبار: ذرة طلع: قطرة ماء: دمع: هي الكلمات: تتشكل كأني مسوقة أكتبها: دون أن أدري: ما حكاياها: أكتشف أن لها عالما يتشكل: ليحكي: ليخبر عني: ما الذي أخفيه هناك: ولماذا الخوف؟
ليلة أخرى وأنا انبثاق من لحظة حزن إلى لحظة أخرى: تفلت الغصة: مني: دون أن أدري كيف تشكلت؟: أم تراني أدري: فقط فَرِحَةٌ: لأن الحسد زمنٌ لايسكنني: لكن الحزن: ليس من حق أحد منعي عنه:
92/6/21
بعد قراءة رواية (ليلة القدر) للروائي الطاهر بن جلون