سيرة

للتاريخ فقط (17)

يشرع موقع بلد الطيوب في نشر سلسلة (للتاريخ فقط) للشاعر “عبدالحميد بطاو“، والتي يروي فيها الكثير من الأحداث التاريخية والسياسية.

مدينة درنة
مدينة درنة

الحـلقـة: 17/ رب ضــارة نـافعــه.. أخيرًا عدنا لأحضان معشوقتنا الخرافية الرائعة

كنت مهووسًا بعشقها، هذه الأميرة الكسولة التي يخمش البحر بعشق ووله أقدامها في الشمال وتذوب صخور الجبل وهو يحضنها من الجنوب كم شدتني روعتها فكتبت ذات لحظة تجل غزلاً في حضرة بهائها:

يعشــق الحـلم فيـها
وفي اللـيل تـُشـعل كل قنـاديلها الزّاهـية
خـرافيـّـة صـورة اللـّـيل فيـها
ستذهـل
حين تـُطـل من الجبل المشـرئـبّ عليها
وقـد سـفح البـحر أضواءها فوق صـفحـته
وانتشـى يشـرب الـعـطر
من شـُـرفات البـيوت
التي سـُيـّجـت
بفـروع القرنفـل والياسـمـين..

يالروعتك يا درنـتى الحبيبة، لقد شعرت بعد هذه الاشهر التي قضيتها بعيدًا عنك أنني مفتون بك حتى النخاع و لم أكن مبالغًا حينما كتبت في نفس تلك القصيدة، بعض معزوفات عشقي:

يحـضن الجـبل الصـّلب
باللـّـين واللـّـطف أكـتافها
يخمش البحر عند رمال الشـواطئ
في صـخب العشق أقـدامها
يسـكر العطر
من عــبـق أنفـاســها
فهى جزء من الصـّخر
جـزء مـن البـحر
كل من العطر
والخـصب والانتشــاء
واشتعال الحـنين..

يا الله يا درنـتى الغالية، لم أعد أتحكم في قلبي الذي صار الآن يرتعش عشقـًا في حضرة هذه الإطلالة البهيجة التي أشعلت الشوق والعشق في وجداني بعد حنينى وتشوقى اليها أيام غربتى في السجون والزنازين.

يا الله يا درنة كم هى جافة ومجدبة كل الشهور والايام التي ابتعدت فيها عنك وعانيت خلالها القيد والعسف والظلم والشوق الذي لم تخبو شعلته الى كل شوارعك وميادينك وواديك وشلالك وكل اناسك الطيبين الذين أعرفهم كلهم عن قرب واحدًا واحدًا بقلوبهم الطيبة النقية التي تحب الخير لكل الناس.

يا الله يا درنة يا مسرح الطفولة ونزق الشباب وخفق القلب والعشق الذي لا يتبدل ولا ينقص ولا يزول ولا يبهـت مهما بعدنا عنك ومهما قست علينا الأيام وسحقت أحلامنا غيابات السجون وحفرت معاصمنا قسوة القيود.

ها أنا الآن في حضرتك أحتضن بكل جوارحي شوارعك وأزقتك وساحاتك الترابية وأرتشف بنهم نسائم واديك المليء بعبق زهرك وياسمينك الفواح وليكن ما يكون بعدها فهذه أمنية تحققت وهى أن أعود إلى أحضانك بعد كل هذه العذابات والغربة والسجن.

كان طاقم الحراسة الذى يرافقني كريمـًا معي لدرجة أنهم عرضوا على الذهاب إلى بيتنا وزيارة الوالد والوالدة وأخوتي قبل أن يسلموني لسجن درنة. كانت مفاجأة وقف معها جميع من في البيت ساعتها مذهولين عاجزين عن الكلام حينما دفعت باب البيت ووقفت بينهم وقد تعمد أفراد الحرس المرافقين لي ألا يدخلوا معي البيت تأدبـًا واحترامـًا.

وجلست بين الوالد والوالدة ونحن لا نشبع من الاحتضان والقبل وتحسس الوجوه غير مصدقين وحاولوا الحراس أن ينتظروني في الشارع ولكنني أقسمت عليهم أن يدخلوا وبقيت فترة بين العائلة وحدثونى عن الأمور كيف تطورت حتى وصلت إلى ما وصلت إليه، وفي بداية المساء خرجت مع الحراس وركبنا الرنجروفر وذهبوا بى إلى سجن درنة وسلموني هناك، وقضيت ليلة في سجن درنة هذا البناء الديناصوري المرعب القديم حتى سمى الشارع الذى فيه باسمه احترامًا لهيبته.

وفي صباح اليوم التالي حضر حرس بنغازي بسيارتهم وحملونى إلى المحكمة الشرعية وتواجهت مع صهري الذى طلب الطلاق، وكان له ما أراده وفي الظهر وأنا خارج من المحكمة التقيت بالصديق (على سعد هرون) الذى عانقني وهو يهمس لي:

لا تضـعف… لا تضـعف… لا تضـعف.

وأحسست به يدس في جيبي ورقة، اكتشفت بعد ذلك انها خمسة جنيهات. يالكرم ووفاء وصدق محبة بعض الاصدقاء ربما مدلى الرجل هذا المبلغ الذى كان ضخمًا في تلك الأيام، لشعور منه أنني سجين وأعانى قضية ومفلس ولم ولن أنسى له هذه اللمسة (صورتي معه هذه بعد اكثر من نصف قرن على موقفه الرائع معي).

عادت سيارة شرطة بنغازي إلى (سجن توريلى)، وهناك مكثت أسبوعًا حتى وصل بقية الرفاق وتحولنا جميعًا بشكل رسمي الى سجن درنة، الذى شعرنا فيه أن ضغوط السجون التي مررنا بها خلال فترة حكمنا الماضية أصبحت أقل وطأة وصارت زيارة الأهل والأصدقاء متاحة وفي كل وقت وتمارضنا جميعـًا حتى تم نقلنا الى مستشفى درنة الذى بقيت فيه أربعة أشهر عدت بعدها للسجن بينما بقى (الهنيد) و(الزاهى) و(الحصادى)، بقية المدة حتى يوم الأفراج.

كان من المشاهد المؤثرة في سجن درنة ذلك المساء الذى انقطع فيه النور عن السجن، وفجأة صار السجن كله يهتز ويرتج تحت أقدام المساجين في نوبة تصفيق (على شكل كشك) هاتفين وسط الظلام:

حبسـك طـوّل يا مــولانا
نرجو في عفوك ماجانا

ولم يطل حبس مولانا كما اشتكـوا بل جاء وبأسرع مما نتوقع فقد صدر مرسوم ملكي بتخفيف العقوبة على كل المساجين بليبيا بإسقاط ثلثها وذلك مساء يوم 24 ـ ديسمبر 1968م بمناسبة الاحتفالات بعيد الاستقلال.

وهكذا وجدت أبى صباح يوم 25 ديسمبر يحمل بين يديه مبلغ الغرامة المائة جنيه التي كانت ضمن العقوبة مع العامين سجن (والتي شارك في جمعها كل عائلة بطاو لأنها كانت مبلغًا ضخمـًا في ذلك الزمن).

خرجت مع الوالد ضحى نفس اليوم كان هناك مطر خفيف وقفت تحته في شارع الحبس وكأنني أغتسل برذاذه وأنا اتنسم مع روائح الطين المبلل بمزارع الشارع أنسام الحرية التي افتقدتها أكثر من سبعة عشر شهرًا، وهكذا انتهت مرحلة حركة القوميين العرب وما ترتب عليها من آثار.

ولعل القادم سيكون أفضل بعد كل هذه المعاناة.

مقالات ذات علاقة

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (50)

حواء القمودي

للتاريخ فقط (26)

عبدالحميد بطاو

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (35)

حواء القمودي

اترك تعليق