طيوب عالمية

دانيلو كيش ودور الأدب

منصورة عزالدين – مصر

الكاتب الصربي دانيلو كيش


كثيرة هي الكتب الجيدة التي قرأتها في 2019، غير أن اكتشاف العام بالنسبة لي تمثَّل في الكاتب اليوغسلافي/ الصربي دانيلو كيش، الذي أعيش مع أعماله منذ أكتوبر الماضي، متنقلة من كتاب لآخر، مندهشة من خصوصية عوالمه ومن قدرته على تغيير تقنيات كتابته والتلاعب بها، دون أن يؤدي هذا إلى فقدانه لمسته الخاصة الرابطة بين نصوصه والمميزة لها، بحيث يتعرف عليها القارئ ويستشعر أسلوبه إن قرأ فقرة واحدة منها.
فكيش كاتب أسلوبي، تقترب نصوصه، في كثير من الأحيان، من كونها قصائد نثر، تحميها قتامة عالمها وهول ما تحكيه وعنفه من الانزلاق إلى الغنائية أو السنتمنتالية، وتعادل جماليات الكتابة وجودة النثر العنف والقتامة، فتحيلهما إلى فنٍ خالص يبصِّرنا بأهوال العالم المعاصر وفظاعاته ويمنحنا فهمًا أعمق للطبيعة الإنسانية.
في السادسة من عمره، نجا دانيلو وأسرته من مذبحة ارتكبها القوميون المجريون المتحالفون مع النازي، لكنه ظل يعتبر هذه المذبحة بداية حياته الواعية، كيف لا وقد شهد في هذه السن المبكرة جثث الضحايا (من بينها جثث أصدقائه) ملقاة في الشوارع وأمام البيوت؟! وحين بلغ التاسعة من عمره، اقتيد والده إلى أوشفيتز؛ حيث لقى حتفه هناك.
سيظل طيف هذا الأب ماثلًا في نصوص ابنه، وسيشكِّل مصدرًا للإلهام ومنبعًا للكتابة، ما يذكرنا بكافكا وبرونو شولتز، اللذين يتقاطع معهما كيش على أكثر من مستوى، غير أن علاقة كل كاتب من هؤلاء بأبيه وطريقة استلهام الابن لهذه العلاقة تختلف جذريًا.
رغم أن السياسة لها التأثير الأوضح على حياة صاحب “حديقة، رماد”، إلّا أنه لطالما فضَّل أن يكون إخلاصه الأول للفن حتى حينما قارب موضوعات ذات طبيعة سياسية، فعل هذا بشروط الفن لا السياسة.
ففي كتابه “ضريح لبوريس دافيدوفيتش” استعاد كيش قصص سبعة من ضحايا الـ”كومنتيرن” أو حركة “الشيوعية الدولية” في النصف الأول من القرن العشرين، واعتمادًا على الأرشيف والمدونات المحفوظة، أحال قصص شخصيات واقعية إلى قصص قصيرة تدين للفن أكثر مما تدين لأصلها الواقعي، وفي هذا درس لكل من يرغب في مقاربة التاريخ الحديث بمقتضيات الفن.
عن هذا الكتاب، كتب يوسف برودسكي، في تقديمه للطبعة الإنجليزية: “ربما تتمثل الخدمة الوحيدة التي تقدمها تراجيديا حقيقية، بتركها ضحاياها والناجين منها على حد سواء، عاجزين عن الكلام، في كونها تصقل لغة المعلقين عليها. أقل ما يمكن قوله عن “ضريح لبوريس دافيدوفيتش” أنه يحقق فهمًا جماليًا حيث يفشل علم الأخلاق. البراعة اللغوية لا يمكنها طبعًا أن تشكِّل طوق نجاة في قرننا المغامر، لكنها على الأقل تخلق إمكانية للرد، بدونها سيُقدَّر على الناس أن يظلوا عبيدًا لتجربتهم.
بكتابته لهذا الكتاب، يقترح دانيلو كيش ببساطة أن الأدب هو الأداة الوحيدة المتاحة لاستيعاب ظاهرة يمكن أن يخدر حجمها لولاه الحواس وتستعصي على الإدراك البشري.
“ضريح لبوريس دافيدوفيتش” كتاب قاتم جدًا، وتتمثل نهايته السعيدة الوحيدة في أنه قد نُشِر”.
أخيرًا، تبقى أمنية أن يهتم الناشرون العرب بترجمة أعمال هذا الكاتب العظيم إلى العربية.

مقالات ذات علاقة

هل البابا فرنسيس مدعاة للفُرقة؟

عزالدين عناية (تونس)

ماذا لو…؟!

آكد الجبوري (العراق)

الفيسبوك تحت مجهر الفلسفة: “آلية قاتلة للخصوصية“؟

المشرف العام

اترك تعليق